ماذا لو عادت الولايات المتحدة لتهيمن على العالم؟
مع تزايد الاضطرابات في النظام العالمي، ستُرغَم أوروبا على تقديم المزيد كي تتمكن من حماية مصالحها، ودعم قيمها، والبقاء عنصراً يُعتمد عليه في الشراكة عبر الأطلسي.
حلّ الصيف! حتى بروكسل التي تكون سماؤها عادة ملبدة بالغيوم تتمتع اليوم بجو صافٍ ودرجة حرارة عالية ونسيم عليل، فضلاً عن شاطئ اصطناعي على طول القناة في المدينة. ولعل هذا الوقت الأنسب ليسأل محللو السياسة الخارجية: ماذا لو أسأنا الفهم؟طوال سنوات، كان الافتراض الذي ارتكز عليه كل المعنيين بسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية بسيطاً جداً. تعتمد أوروبا في حرياتها، واستقرارها، وازدهارها على نظام ليبرالي عالمي لا يمكنها أن تدعي أنه خاص بها، لكن الضامن الرئيس لهذا النظام العالمي، الولايات المتحدة، يزداد ضعفاً، وصار أكثر تردداً في تأمين الخدمات الأمنية مجاناً لحلفائه في أوروبا.مع تزايد الاضطرابات في النظام العالمي، ستُرغَم أوروبا على تقديم المزيد كي تتمكن من حماية مصالحها، ودعم قيمها، والبقاء عنصراً يُعتمد عليه في الشراكة عبر الأطلسي. نتيجة لذلك، تحتاج أوروبا إلى سياسة خارجية أكثر وحدةً، تفكير استراتيجي مطوّر، وأصول مدنية وعسكرية أفضل كي تتمكن من الاضطلاع بدور مهم في العالم.ولكن ماذا لو كانت كل هذه الأفكار خاطئة؟ من السهل طرح سيناريو معاكس. في هذا الإطار، لن تبقى الولايات المتحدة قوة عظمى فحسب، بل ستعزز مكانتها بصفتها القوة العظمى الوحيدة على الأرض، ولكن يجب أن تجتمع عوامل عدة لنصل إلى هذه النتيجة.أولاً، تحدّ ثورة غاز الأردواز في أميركا الشمالية من كلفة الطاقة، وتؤدي إلى نهضة صناعية في الولايات المتحدة، كما يتوقع خبراء كثر اليوم. كذلك ترتفع عائدات الضرائب الأميركية ويتراجع عجزها. بالإضافة إلى ذلك، تستثمر الولايات المتحدة في البنية التحتية، والأبحاث، والجيش، ما يؤدي إلى ارتفاع كبير في معدلات النمو على الأمد الطويل.ثانياً، لن تتبدّل حسابات القوة الأميركية الرئيسة، فلا تستسلم الولايات المتحدة لمغريات الانعزال، بل تبقى حاضرةً سياسياً وعسكرياً على الساحة العالمية، من أوروبا إلى الشرق الأوسط ومن وسط آسيا إلى المحيط الهادئ. كذلك يستفيد الاقتصاد الأميركي المتجدد من الأسواق وسلاسل الإمداد التي تزداد انفتاحاً، فتقرر هذه القوة العظمى أن من الأفضل أن تواصل سعيها لضمان استقرار العالم، بدل أن تطلب مساعدة دول أخرى.ثالثًا، مع إقرار الصين أنها استفادت كثيراً خلال السنوات الثلاثين الماضية من "السلام الأميركي"، تبقى طموحات بكين بأن تصبح قوة عظمى منافِسة محصورة ضمن منطقتها الإقليمية، ويعتبر القادة الصينيون إدارة الأزمات الدولية عملاً شاقاً ومكلفاً يلهيهم عن الشؤون الداخلي، ولا يستحق أن يتحدّوا القيادة الأميركية حول العالم من أجله. على العكس، قد تسعَد الصين بالطريقة التي تبقي بها الولايات المتحدة الأسواق مفتوحة والصراعات محصورة من كوريا الشمالية إلى الشرق الأوسط.بما أن البرازيل ضعيفة، وروسيا تعاني التفكك الداخلي، والهند تركز على الخصومات الإقليمية، فستنتهي ثورة مجموعة "البريكس" BRICS (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا) قبل أن تبدأ. صحيح أن الولايات المتحدة لن تكون القطب الوحيد في العالم، كما حدث في تسعينيات القرن الماضي، إلا أننا سنشهد هيمنة أميركية، فلن نرى في المستقبل القريب عالماً متعدد الأقطاب.رابعاً، تشكّل شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي والشراكة عبر الأطلسي ركيزتي السلام الأميركي، وهكذا تصبح الولايات المتحدة مرة أخرى البلد الذي تستدير نحوه الدول، لا العكس. وبالإضافة إلى التحالفات القائمة مع حلف شمال الأطلسي، شبكة واسعة من الشراكات الأمنية الثنائية القوية، وبعض المنتديات المستنفَدة بعض الشيء إنما الفاعلة، مثل مجموعة العشرين، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ستظل الولايات المتحدة حكماً بالغ الأهمية في الشؤون الدولية. في عالم من هذا النوع، سيواصل الأميركيون دعمهم الأمن الأوروبي بدل أن يفوّضوا هذه المهمة البالغة الأهمية إلى الأوروبيين أنفسهم. عندئذٍ، سنبدو، نحن المنادين بـ"أوروبا الاستراتيجية"، سخفاء وبعيدين عن الواقع بمطالبتنا المستمرة بالمزيد من الوعي الأوروبي والقدرات الأوروبية.ستفوز أوروبا القانعة بوضعها لأنها فهمت تلقائياً ما يدور من حولها: لن تتخلى الولايات المتحدة عنها يوماً، بل ستواصل القيام بالمهام الصعبة كي يركّز الأوروبيون على ما يبرعون فيه: العلاقات الداخلية وإصدار البيانات الشديدة اللهجة التي تندد بالدكتاتور الأبرز في كل مرحلة. هل هذا أفضل ما يأمله الأوروبيون؟ربما! ولكن مما لا شك فيه أن أوروبا ستستفيد إن احتفظت القوة الغربية الأبرز بهيمنتها وبروزها في العالم، إلا أن هذا لن يحل كل المشاكل، فلن يمنح الأوروبيين نفوذاً أكبر أو أهمية أوسع، بخلاف ما هم عليه اليوم. كذلك سيتواصل التراجع السياسي الأوروبي، بما أن تقهقر القارة لن يبقى نسبيّاً، بل سيصبح مطلقاً.مع استعادة الولايات المتحدة نشاطها ونمو القوى الناشئة (مع بقاء طموحاتها السياسية محدودة)، ستُنسى القارة الأوروبية التي تتعلق بأيام الماضي. فلن يعود الأوروبيون مصدر القلق الأكبر. على العكس، سيتحوّلون إلى لاعب غير فاعل في الصفقات الدولية.إليكم الدرس الذي نستخلصه من هذا السيناريو المعاكس: سواء استطاعت أوروبا مواصلة اعتمادها على خدمات الولايات المتحدة أو لا، على الأوروبيين العمل معاً إن أرادوا التمتع بمكانة بارزة في العالم. وإن لم تتحوّل أوروبا إلى لاعب استراتيجي اليوم، فستواصل تراجعها حتى لو أصبحت الأرض برمتها جنة.لا شك أن هذا جواب منطقي وواقعي عن السؤال "ماذا لو"، فحتى لو تبيّن لنا أن افتراضاتنا خاطئة، تبقى خلاصتنا صحيحة. أليس هذا رائعاً؟ استمتعوا بالشمس ما دامت مشرقة.* مدير معهد كارنيغي أوروبا، المركز الأوروبي لمعهد كارنيغي للسلام الدولي.