وداعاً... أسمهان ابنة البحر (2/2)

نشر في 05-08-2013 | 00:02
آخر تحديث 05-08-2013 | 00:02
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. على الرغم من ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
ولدت أسمهان على متن الباخرة التركية التي أقلت أسرتها إلى بيروت واسمتها أمها آمال... وبعد نشوب الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي ووفاة الأب فهد الأطرش، هربت الأم عالية المنذر بأولادها فؤاد وفريد وآمال إلى القاهرة، حيث عاشوا حياة فقر وبؤس في حي الفجالة، إلى أن بدأت شهرة فريد الأطرش كملحن ومطرب، وعمل فؤاد في عيادة طبيب، وتحسنت أحوال العائلة... وذات ليلة زارهم الملحن الكبير داوود حسني فاكتشف جمال صوت آمال وقرر أن يقدمها إلى الوسط الفني باسم أسمهان. وما إن ذاعت شهرتها حتى ذهب الأمير حسن الأطرش، ابن عم آمال، إلى مصر ليطالب بعودتها إلى مكانها الطبيعي كأميرة في جبل الدروز في سورية... والحفاظ على سمعة الأسرة باعتزال آمال الغناء... وقدم مهراً مغرياً، وتم الزواج وحصلت آمال على لقب أميرة، وأنجبت ابنتها كاميليا، لكن حنينها إلى مصر والفن والسهر دفعها إلى طلب الطلاق من زوجها حتى حصلت عليه، وعادت إلى القاهرة لتجد طريق المجد مفتوحاً على مصراعيه، لحن لها كبار الملحنين، وارتفع أجرها، وتعرفت إلى الصحافي الكبير محمد التابعي وأحبته بجنون وبادلها الحب في وقت رفضت فيه غرام محمد عبد الوهاب وطلعت حرب باشا وغيرهما من الكبار... لكنها ورطت التابعي في خبر كاذب سبب له إحراجاً أمام المجتمع... فقرر أن يقطع علاقته بها.

حاولت أسمهان الاتصال بالتابعي عشرات المرات من دون جدوى... ذهبت إليه وقدمت له عذراً أقبح من ذنب... قالت له إن الوزراء الذين ادعت حضورهم حفلة عيد ميلادها وأبلغته بأسمائهم ونشرها في مجلة {آخر ساعة}... لم ترهم بعينيها إنما الذين كانوا في الحفلة أبلغوها بحضورهم!

ثار التابعي وراح يذكّرها بأنها ليست أول كذبة... ولن تكون الأخيرة... وبأن تفاصيل حياتها لم تعد تعجبه، فهي مدمنة، وتترك فرصة للكبار ليطمعوا في غرامها.

قاطعته أسمهان ببكاء طويل... واعتبرت أن ما يقوله التابعي إهانة لها... حملت حقيبتها ونهضت تمسح دموعها وهي تقول له:

* يا أخي استحملني سنة ولا سنتين بالكتير... هأموت وتستريح مني!.

لم يحتمل التابعي الكلمات التي مست شغاف قلبه. أسرع إليها وعانقها وصالحها وجفف دموعها ودعاها إلى الغداء، وراح ينصحها ويحذرها من أن تدمر بنفسها المجد الذي تتربع على عرشه، وعادت أسمهان إلى البكاء وهي تصارحه بأنها لا تبوح بأسرارها إلا له، ولا ترتاح إلا معه، وإذا ذهبت نفسها إلى إنسان فلن يكون إلا هو... ثم قدمت إليه مصحفاً كريماً وطلبت منه أن يضع يده فوقه ويقسم بألا يبوح بالسر الذي ستطلعه عليه، لأنه الوحيد في هذا العالم الذي سيعرفه.

وبعد تردد ومناقشات أقسم التابعي، وراحت أسمهان تصارحه بأنها سوف تعمل مع المخابرات البريطانية، وستحقق ثروة طائلة مقابل هذا العمل... وسألها التابعي عن المطلوب منها، فأجابته بسعادة:

* عائلة الأطرش التي أنتمي إليها تتزعم حركة المقاومة ضد الاحتلال وهي حتى الآن لا تعمل لصالح قوات الحلفاء... وأنا الوحيدة التي يمكنني، من خلال حب زوجي السابق حسن الأطرش لي، الأمير الدرزي المعروف، إقناع العشائر المكافحة بالانضمام إلى قوات الحلفاء في الحرب العالمية. هم على ثقة بأن الأمير حسن ما زال يحبني ولا يرفض لي طلباً ويتمنى عودتي إلى عصمته، وبذلك يمكنني إقناعه بأن يكون مهري إقناع باقي زعماء الدروز بالانضمام إلى قوات الحلفاء!

سألها التابعي:

* وهل أنت واثقة من نجاح مهمتك؟

 

** أكثر من ثقتي بنفسي!

* لكني أحذرك... عمل الجاسوسة نهايته سوداء!

* الجاسوسة تعمل ضد بلادها... وأنا أعمل لصالح بلدي!!

انتحار

نجحت أسمهان في مهمتها، حصدت أموالاً كثيرة وثروة طائلة... لكنها اكتشفت أن زوجها حسن الأطرش، بعدما عادت إليه لتنفيذ خطتها لصالح المخابرات البريطانية، لم يوافق على عودتها إلى مصر... وأمام إصراره حاولت التخلص من حياتها وابتلعت كميات كبيرة من حبوب الأسبرين، فنقلت إلى المستشفى وأُنقذت بما يشبه المعجزة. زارها الأمير حسن الأطرش ووقف إلى جوار سريرها يحبس دموعه وهو يهمس لها قائلاً:

* لم أكن أعرف أنك تكرهينني إلى هذا الحد؟

ولأني أحبك فلن أمنعك من السفر!

أبرقت أسمهان إلى التابعي تخبره أنها تريد العودة إلى مصر بأقصى سرعة، لكن حالتها الصحية ما زالت سيئة، وبحاجة إلى ممرضة ترعاها! فأرسل إليها صديقة فاضلة وافقت على رعاية أسمهان من باب التطوع الإنساني هي ماري قلادة! وبالفعل ذهبت ماري قلادة إلى القدس، حيث أدت مهمتها على أكمل وجه إلى أن عادت بأسمهان إلى القاهرة، وظلت ماري إلى جوارها حتى اللحظة الأخيرة!

وفي مصر عادت ريما إلى عادتها القديمة، كما يقول المثل، إنها أسمهان التي لا تتغير أبداً... سهر حتى الصباح وغناء في القصور وصداقات مع كبار رجال الدولة... ولأنها عرفت نقطة ضعف التابعي كانت كلما عاتبها بكت وهمست له من جديد:

* يا أخي... هانت... بكره أموت وتستريح مني.

كان التابعي على حق... فأسمهان تجعل الآخرين يطعمون فيها... أحبها أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي ولم توقفه أسمهان عند حده... تمادى الرجل الخطير داخل القصر الملكي ولم يعد قادراً على الابتعاد عنها... عرفت الملكة نازلي بالعلاقة وبوقوع أحمد حسنين باشا الذي وعدها بالزواج العرفي، في غرام مطربة! فبدأت الحرب النسائية... أمرت الملكة نازلي بإبعاد أسمهان عن مصر، فردت أسمهان أنها تقبل التحدي... وأشاعت أنها أميرة وليست مجرد مطربة، ما أوغر صدر ملكة مصر فلم تتراجع عن قرار إبعاد أسمهان. صار الموقف خطيراً... أحمد حسنين ينفي علاقته بأسمهان والملكة لا تصدقه...

سعت أسمهان بقوتها وعلاقاتها إلى الحصول على إقامة في مصر لأن الملكة لن تنجح في طردها إلا لكونها أجنبية وانتهت إقامتها... فوافقت على الزواج من المخرج أحمد بدرخان للحصول على الجنسية المصرية أو الإقامة في مصر على أضعف تقدير... لكن عراقيل جمة وقفت في وجه إتمام هذا الزواج بشكل رسمي طبقاً لقوانين الدولة... وتم الزواج عرفياً في مكتب المحامي الشرعي محمد القاضي، وكان شاهدا العقد جمال الليثي وحسنين عبدو.

كانت شقة الزوجية في عمارة الإيموبليا... لكن بقي أمر مهم هو موافقة وزارتي العدل والداخلية على هذا الزواج لينتج آثاره... وعلى رغم لجوء أسمهان إلى التابعي لحصولها على هذه الموافقة من خلال علاقاته الواسعة... فإن أسرتها التي عارضت الزواج بشدة والزوجة الأولى لأحمد بدرخان أقنعا وزارتي العدل والداخلية بعدم الموافقة حتى تفشل أسمهان في البقاء في مصر.

 

طلاق... وسفر

الغريب أن زواج أسمهان وأحمد بدرخان لم يدم أكثر من أسابيع وتم الطلاق بناء على رغبة أسمهان... ربما لأنها شعرت بأن الهدف من الزواج لم يتحقق، فأطاحت بقلب بدرخان وحبه بعدما ضحى من أجلها وتزوجها ما سبب قهراً لزوجته الأولى.

ساءت الأحوال المادية لأسمهان... وعلم التابعي بأن التيار الكهربائي انقطع عن شقتها في عمارة الإيموبليا لأنها لم تسدد الفاتورة، فأرسل إليها مبلغاً كبيراً، لكنها أعادته إليه نافية مواجهة أزمة مالية، وذلك اعتزازاً بكرامتها أمام التابعي! في الوقت نفسه قررت العودة إلى نشاطها في الجاسوسية خوفاً من شبح الفقر الذي كانت لا تكره سواه هو والموت! سافرت إلى القدس من دون أن تتوقع ما يخبئه لها القدر هناك... فوجئت أسمهان ذات ليلة بإقامة قوات الحلفاء حفلة في فندق الملك داود احتفالاً بالنصر على قوات المحور، ودعت النزلاء في الفندق لحضوره... وفوجئت بأن من بين هؤلاء الملكة نازلي.

اندهش الحاضرون عند ظهور أسمهان وكأنها في ليلة عرسها... أناقة تخطف الأبصار... وحيوية وجمال وجاذبية... وما إن وصلت الملكة نازلي إلى القاعة حتى تعمدت أسمهان التحرك يميناً ويساراً ومصافحة القادة العسكريين والوقوف إلى جوارهم وكأنها من الشخصيات المهمة المكلفة باستقبال الضيوف... ارتبكت الملكة نازلي... شعرت بدمائها تحترق وتغلي في عروقها، فاعتذرت عن الجلوس في القاعة، إلا أن أحد القادة أسرع إليها وأقنعها بصعوبة بالغة بالبقاء، لكنها شعرت بمرارة الهزيمة أمام كيد النساء الذي أجادته أسمهان لتنتقم من ملكة مصر.

الطريق إلى النهاية

وفي فندق الملك داود كتب القدر أولى الخطوات في رحلة النهاية... تعرفت أسمهان إلى الممثل الوسيم أحمد سالم الذي حضر برفقة تحية كاريوكا... وخلال الحفلة التي أقامتها لهما وقع أحمد سالم في غرامها... وفاجأ الجميع قبل عودته إلى مصر بزواجه من أسمهان بعد قصة حب لم تستغرق أكثر من أسبوعين... وبمساعدة مدير الأمن العام المصري سمح لأسمهان بدخول مصر لأكثر من سبب... ارتباطها بتصوير فيلم {انتصار الشباب}... إقامة أسرتها في مصر... تهديد طليقها حسن الأطرش بقتلها إذا عادت إلى فلسطين!

عادت أسمهان إلى مصر زوجة لأحمد سالم، وبذل رئيس الوزراء المصري جهداً في إقناع الملكة نازلي بألا تتعرض لها حتى لا تقلل من هيبة الأسرة المالكة إذا عرف الناس أن ملكة مصر تتحدى مطربة، لكن زواج أحمد سالم من أسمهان لم يطل هو الآخر بسبب غيرته الجنونية عليها لدرجة الشك... فقد حاول ذات ليلة أن يمنعها بالقوة من مغادرة المنزل فربطها بسلك الهاتف، إلا أنها أفلتت منه ولجأت إلى بيت إحدى جاراتها، واتصلت بالشرطة تستغيث من أحمد سالم لأنه يهددها بمسدسه... وبالفعل حضر اليوزباشي محمد إمام وحاول انتزاع المسدس من يد أحمد سالم، لكن انطلقت رصاصتان استقرت إحداهما في يد الضابط والأخرى في جسم أحمد سالم، ونقلتهما سيارة الإسعاف إلى المستشفى!

شعرت أسمهان أنها بحاجة إلى راحة واستجمام. استأذنت في أخذ إجازة من يوسف وهبي الذي كانت تصور معه فيلم {غرام وانتقام} وقررت السفر مع صديقتها ماري قلادة إلى رأس البر.

 

حادث مريب

قال لها السائق: السيارة جاهزة يا هانم!

كانت أسمهان ترتدي فستاناً حريرياً، أصفر اللون، جلست إلى جوار صديقتها ماري قلادة في الكنبة الخلفية، في يدها رواية فرنسية للكاتبة كوليت لتتسلى بقراءتها في الطريق. انطلقت السيارة بسرعة، وبالقرب من طلخا انحرفت باتجاه ترعة عمقها ثلاثة أمتار، قبل أن تصل السيارة إلى حافتها فتح السائق بابه وقفز منها... بينما انزلقت السيارة إلى قاع الترعة.

لم يعرف أحد إن كانت أسمهان وماري حاولتا الخروج من السيارة والنجاة عن طريق السباحة... أم أن باب السيارة الخلفي كان مغلقاً بشكل يستعصي فتحه؟ تم العثور على الجثتين غارقتين... لكن داخل السيارة التي استقرت في القاع!

كان لا بد من إثبات أن ثمة مؤامرة في قتل أسمهان، لكن سائق السيارة اختفى... من دبر المؤامرة؟! هل هي الملكة نازلي لتتخلص نهائياً من أسمهان بعدما فشلت في إبعادها عن أحمد حسنين باشا؟ أم المخابرات البريطانية التي انزعجت من أن أسمهان كانت تحكي مغامراتها معهم ضد الألمان؟

سؤال أخير: لماذا أصر المحقق على قيد الحادث ضد مجهول، وهو يعلم أن السائق الذي نجا بمفرده هرب فور وقوع الحادث ولم يكلف البوليس نفسه البحث عنه. وهل يمكن أن يكون هذا السائق الأداة التي استخدمها أحمد سالم، الزوج الثالث لأسمهان في قتلها؟ لا سيما أنه كان يعمل في الأستوديو نفسه الذي يعمل فيه أحمد سالم ويعرفه أحمد سالم جيداً؟

المؤكد: أن أسمهان ماتت!!

والمؤكد: أن الحادث مريب!!

والمؤكد: أن البوليس والنيابة قصرا في كشف غموض الحادث لمصلحة أحد الأطراف أو إحدى الجهات؟

رحلت بنت البحر... ولدت فيه وماتت فيه... وودعها الجمهور وهو يلعن من قتلها.

back to top