ماذا نتعلم من ريتشارد الثالث؟
«ساءت حال الدنيا حتى غدت العصافير تقتنص صيدها من قمم لا تجرؤ النسور أن ترتفع إليها». هكذا وصف شكسبير حال عصره، لكن هل يمكن أن يساعدنا الحاكم المخلوع الذي انتقده شكسبير في تصحيح مسار العالم؟
تروق لي فكرة أن يزور «الأحدب» ريتشارد الثالث الذي اكتُشفت رفاته حديثاً تحت موقف حافلات في مدينة ليستر، إنكلترا، المكتب البيضاوي. يمكن أن نتصور أن يمزح الملك الإنكليزي الراحل الذي لم يحزن أحد على وفاته مع الرئيس الأميركي باراك أوباما حول ركوب الخيل وأن يتذمر من صعوبة التعامل مع الفرنسيين المزعجين. ربما يتبادلان أيضاً ملاحظات حول مشاكل الحكم الحتمية، مع أن أوباما لن يحمل السلاح على الأرجح ويهبط بمظلة في محافظة هلمند لمحاربة حركة «طالبان».لكن قد تتخذ تلك المحادثة سريعاً منحىً قاتماً. إذا أردنا استخلاص درس من سقوط حكم عائلة يورك التي ينتمي إليها ريتشارد في عام 1485، فهو وجود أمور أسوأ من مقاربة استرضاء الآخرين.
عموماً، طبّقت حرب الوردتين (حرب أهلية دامت 30 سنة بين عائلة يورك التي ينتمي إليها ريتشارد وأقاربه من عائلة لانكستر) سياسة ثلاثية تعود إلى حقبة حرب المئة عام. كسبت عائلة لانكستر دعم الفرنسيين فيما وجد ألد أعدائها، عائلة يورك، أصدقاء لهم بين الدوقات النافذين في بورغندي. في عام 1475، أصبح إدوارد الرابع، شقيق ريتشارد الأكبر، أول ملك إنكليزي ميسور منذ عقود وذلك عبر عقد صفقة جيدة مع الفرنسيين أخيراً. مقابل التوقف عن المجاهرة بأنه ملك فرنسا الشرعي، منحه الفرنسيون راتباً كبيراً ومنافع تجارية مربحة. صحيح أن نسيب ريتشارد البعيد، هنري الخامس، كان أكثر اندفاعاً في عدائيته تجاه أجينكورت، لكنّ هذا السلوك كلّف مملكته ثمناً باهظاً. تعلّم إدوار أن تحقيق النجاح الدبلوماسي يكون أسهل وأقل كلفة من الانتصار العسكري وهو يترافق عموماً مع نتائج تدوم لفترة أطول.لكن مع انتهاء حكم إدوارد، بدأ ذلك الاتفاق بين فرنسا وعائلة يورك التي كانت تحكم إنكلترا يضعف. وصل شقيق إدوار، ريتشارد الثالث، إلى العرش وكان مصمماً على تجاهل الاتفاق وإعادة تبني سلوك صدامي تجاه فرنسا. كان ذلك الخطأ فادحاً: أنفقت فرنسا الأموال والموارد لدعم غزو من تخطيط عدو ريتشارد، هنري تيودور من عائلة لانكستر (كان هنري يعيش في المنفى في بريتاني ثم في فرنسا نفسها). لو لم يتصرف ريتشارد بعدائية مع الفرنسيين، لما دعموا هنري طبعاً (كانت مطالبته بالعرش ضعيفة في أفضل الأحوال)، وكان ريتشارد ليتجنب الذل المضاعف الذي واجهه بعد مقتله في المعركة ودفنه لاحقاً تحت موقف حافلات، مع أنه ما كان ليُعتبر في مطلق الأحوال أحد أعظم الحكام الخالدين في التاريخ.غياب المبادئ عموماً، يبدو أن ريتشارد الثالث كان أقل تركيزاً على السياسة الخارجية من شكسبير في مسرحياته التاريخية الأخرى. وفق الحبكة الدرامية في تلك الأعمال، أدى قتل الأمراء الصغار وإغراق الناس في براميل النبيذ إلى انهيار المفاوضات على المعاهدات والتبادلات بين السفارات. لكن فيما حشد ريتشارد قواته لمحاربة هنري، تحدث صراحةً عن «غطرسة حثالة فرنسا» الذين رافقوا هنري في طريق العودة إلى إنكلترا. كان تجاهل أهمية الدعم الفرنسي خطأً قاتلاً.أي دروس يمكن استخلاصها اليوم؟ لا تشبه إنكلترا المضطربة في عهد ريتشارد الديمقراطيات في القرن الواحد والعشرين. فهي كانت تفتقر إلى مبادئ واضحة للخلافة وإلى احتكارات العنف التي تطبع الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا الغربية. لكن حين غزت الفصائل المسلحة البلد، أصبحت إنكلترا في القرن الخامس عشر تشبه بعض الدول التي يجب أن يتعامل معها الرئيس الأميركي. لن يكون الملك الأحدب الذي جسّده شكسبير آخر حاكم في العالم يصل إلى السلطة عبر القتل والترهيب. ولن يكون آخر حاكم يواجه المجتمع الدولي في محاولةٍ يائسة لتعزيز دعمه محلياً.كتب شكسبير أعماله في زمنٍ كانت فيه طموحات السلالات لا تزال تحكم السياسة، لكنه أدرك العلاقة الوثيقة بين الشؤون الخارجية والداخلية كتلك التي طبعت دولة وستفاليا لاحقاً. ما كان ينطبق على الحكم الإقطاعي في الماضي لا يزال ينطبق على الدول الفاشلة التي تقلق راحة العالم المعاصر. تطرح الدول التي تفتقر إلى أنظمة خلافة موثوقة والتي يفشل حكّامها في تحقيق إجماع حاكم تهديداً دائماً على الدول المجاورة لها. من مالي إلى إريتريا وسورية، يكون الحكام النافذون والطامحون إلى التحول إلى دكتاتوريين أول من يتجاهلون الاتفاقيات الدولية ويوقظون الصراعات القديمة على أمل منح الشرعية لأنظمتهم.من حسن حظ إنكلترا، تعلّم هنري تيودور من أخطاء أسلافه. صحيح أن مكانة هنري السابع حين وصل إلى العرش كانت أضعف من مكانة ريتشارد، ولكنه تعلّم سريعاً أن عقد السلام مع الدول المجاورة هو أفضل من العدائية لكسب الشرعية. ساهمت المعاهدات التي تفاوض عليها مع فرنسا وإسبانيا واسكتلندا في ضمان استقرار وازدهار لم يعرفهما البلد منذ قرنين.يجب أن يدرك أوباما ومستشاروه كيف استفادت الدول المجاورة لإنكلترا، لا سيما فرنسا، من سقوط ريتشارد لحل نزاعات قائمة منذ سنوات على الحدود ولإعادة دمج إنكلترا ضمن مجموعة مفيدة من العلاقات بين الدول. حتى إن فرنسا منحت هنري إعانة مالية سخية سنوياً، ما ساعده على ترسيخ الاستقرار في عهده. استفادت إنكلترا والدول المجاورة لها من حكمه المحلي الحكيم، أقله حتى وصول ابن هنري المتهور، هنري الثامن، إلى العرش بعد عقدين. ثمة أمل بالنسبة إلى الدول الفاشلة، إذ يمكن إصلاحها وإعادة دمجها ضمن مجموعة الدول. لكن يجب أن تدعم حكومات العالم زعيماً محتملاً (مثل هنري تيودور) يكون مستعداً للتعاون معها لأجل عقد اتفاقيات دائمة تضمن الاستقرار.ما هي الدروس التي يقدمها ريتشارد الثالث لطغاة العالم؟ عند مواجهة مشاكل محلية، لا شيء أسهل من تأجيج المواجهة مع العدو التقليدي. لكن نادراً ما تنجح هذه الاستراتيجية، بل إنها ترتد عكسياً غالباً. لا شك في أن إضعاف المصداقية على الساحة الدولية سيزيد المشاكل سوءاً على الساحة المحلية. وقد يُدفَن الحكام الذين يطبقون هذه المقاربة تحت موقف حافلات في نهاية المطاف! جون واتكينس أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة ماكنايت وأستاذ التاريخ في جامعة مينيسوتا.