ربيع جابر وميديا العزلة الأدبية

نشر في 01-04-2012 | 00:02
آخر تحديث 01-04-2012 | 00:02
لعل أبلغ ما فعلته جائزة «بوكر» للرواية العربية في دورتها الخامسة أنها أخرجت الروائي اللبناني ربيع جابر من دائرة العزلة الحياتية التي يعيشها مكرساً وقته كله لكتابة الرواية والقراءة، علماً أنه يعمل في الصحافة.

ربيع جابر الذي فاز بـ{بوكر» عن روايته «دروز بلغراد/ حكاية حنا يعقوب»، رأيناه يخرج من دائرة الاستنكاف، يجلس بين لجنة التحكيم في الإمارات (علماً أنه نادراً ما يسافر)، يقرأ الكتب في مكتبة، وينشر كتَّاب صوره على صفحات موقع التواصل الاجتماعي الـ{فايسبوك». بدا أن حدث «بوكر» هذا العام ليس في نيل ربيع جابر الجائزة، بل في خروجه من العزلة الحياتية التي اختارها منذ سنوات مفضلاً حياة الكتب عن الحياة الاجتماعية، وهو من دون شك يخترع حياة من نوع آخر في كتبه الزاخرة بالحكاية، وربما ينقصها القليل من حياة الناس.

أثناء الاحتفال بالإعلان عن الجائزة، جلس جابر بين لجنة الحكم كأنه خارج عالمه، أو كأنه يفكر في تلك اللحظة بكتاب يقرأه أو بقصة يدونها في رواية جديدة، عيناه شاخصتان وتفكيره في مكان آخر، صعد لاستلام الجائزة وكأن تفكيره في مكان آخر، كأنه شريد القراءة، خصوصاً أنه في روايته يبدو قارئاً في الدرجة الأولى ويستلهم معظم خياله الروائي من الحكايات وقراءة الكتب والتاريخ.

يقال إن جابر يعيش مع زوجته الروائية رينيه حايك، يبالغ في عزلته واستنكافه وابتعاده عن الصخب الإعلامي وألعاب العلاقات العامة والسفر، ومع ذلك استطاع أن يفرض لنفسه حضوراً استثنائياً في رواياته منذ بدأ الكتابة عام 1992 حين فاز بجائزة الناقد عن رواية «سيد العتمة».

جعل جابر من العزلة «ميديا» من نوع آخر. فثمة من يختار لعبة الأضواء والشهرة إلى درجة أنه يستعمل كل شيء في سبيله، ويصبح مهووساً بكل خبر صحفي أو صورة في جريدة، أما جابر فاختار العكس. ابتعد عن الأضواء الى درجة «الهوس»، وصلت روايته «أميركا» إلى لائحة «بوكر» القصيرة ولم يشارك الروائيين في احتفالهم بهذه المناسبة. كذلك اختير ضمن «بيروت 39» ولم يشارك في الاحتفال، وقل ما نقرأ حواراً صحفياً أجريّ معه، ما عدا حوار نادر أجراه معه «ملحق النهار» قبل 20 عاماً، ويومها اعترض جابر على طريقة صياغته بعد نشره.

ربيع جابر الذي حصد الجائزة عن رواية «دروز بلغراد» كان يتمنى لو فاز بها عن روايته «أميركا»، وبدت إشارة رئيس لجنة التحكيم جورج طرابيشي إلى اختلاف أذواق أعضاء اللجنة دالةً على أن فوز «دروز بلغراد» تمّ بالأغلبية في تصويت عليها، وليس بالإجماع. وأورد بيان صحفي أن اللجنة أثنت على هذه الرواية «لتصويرها القوي هشاشة الوضع الإنساني من خلال إعادة تشكيل فترة تاريخية ماضية في لعبة عالية الحساسية». قال البعض إن طرابيشي استطاع هذه المرة أن يخرج الجائزة من البلبلة والصفقات والتجاذبات، وكان لافتاً أن معظم المعلقين على الـ{فايسبوك» رحبوا بنتيجة «بوكر» النهائية على عكس فترات سابقة.

رواية الذاكرة

يستعيد ربيع جابر أحداث 1860 التي تعرّض بعدها مئات من دروز جبل لبنان للنفي إلى طرابلس الغرب وبلغراد بعد اتّهامهم بالضلوع في ارتكاب مذابح بحق مسيحيّين. لكن من لحظة قراءة العنوان، يتساءل القارئ ما علاقة حنّا يعقوب بالدروز، الاسم المسيحي في الطائفة اللبنانية؟ ويتبيّن في ما بعد أنّ حنّا ليس إلا بائع بيض مسلوق في بيروت رُحِّل على باخرة متّجهة إلى بلغراد بعدما تقدّم أحد الدروز بجرّتين من ليرات ذهبية إلى إسماعيل باشا كي يعفو عن أحد أبنائه.

هكذا تحوّل حنّا يعقوب إلى سليمان عز الدين، وعانى ما عاناه في سجون المنفى إلى جانب مواطنيه الذين بدأ بعضهم بمناداته «الشيخ سليمان»، من دون أن يعرف أيّ ذنب اقترف. فمعلوم، أن العقاب اقتصر آنذاك على الدروز بضغط من الدول الغربيّة، وحنّا ليس درزياً، فضلاً عن أنّه ليس من الجبل، ولا علاقة له بكلّ ما جرى من أحداث عام 1860.

قبل اقتياده إلى الباخرة، صرخ حنّا: «أنا حنا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيتي على حائط كنيسة مار إلياس الكاثوليك». يسمعه القنصل الفرنسي من بعيد، فيسأل الترجمانَ: ماذا يقول السجين؟ يجيبه الترجمان بلا تردد: «يقول أنا قتلت حنا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيته على حائط كنيسة مار إلياس الكاثوليك». في ختام الرواية: «ظهرت هيلانة قسطنطين يعقوب من داخل البيت تحمل ثوباً. رأت رجلاً مرتعداً في عتمة المساء. سقط الثوب من يدها. «حنا؟ هذا أنت يا حنا؟» جلس حنا يعقوب على الأرض: «هذه هيلانة. أنا في البيت». شعر بالأصابع على جسمه تتأكد أنه ليس شبحاً.

لا يكتب ربيع جابر، كما قد يظن البعض، رواية تاريخية، بل رواية الذاكرة، ربما يقرأ التاريخ من منظور الأنا الروائية أو الإنسانية. يكتب لأنه مولع بالتاريخ وتفاصيله، ويختار من مسار الأفراد أكثر من الجماعات، يوجز فيصل دراج هذا النمط الكتابي بقوله: «ما التاريخ عنده إلا حكاياته وما الماضي إلا فضاء زمني شاسع ينشد الإنسان فيه متعة الحكايات»، (فيصل دراج، الرواية وتأويل التاريخ-  المركز الثقافي العربي).

يجول ربيع جابر في التاريخ ذهاباً وإياباً، لنستنتج في الختام أنه يبحث من خلال الحكاية عن «الهويات اللبنانية» المتناقضة ولعبة انتماء الأفراد، بل إشارة إلى واقع الفرد في الجماعة ولعبة المد والجزر لدى الطوائف اللبنانية.

back to top