محمد المنسي قنديل: أعيش على حافة العالم

نشر في 10-06-2012 | 00:02
آخر تحديث 10-06-2012 | 00:02
No Image Caption
يرى الطبيب الأديب محمد المنسي قنديل أن مهنة الطب تقتل الإحساس بالألم، ويتفق مع الأديب الراحل يوسف إدريس الذي توقف عن ممارسة الطب عندما شعر أن قلبه تجمد إزاء عدم إحساسه بآلام الناس الجسدية، مؤكداً أن إدريس كان صائباً في اختياره، وقال قنديل: «على الكاتب أن يكشف عن أمرين، الألم والدناءة البشرية، وهذا ما حاولت إظهاره في روايتي الأخيرة». حول روايته الأخيرة «أنا عشقت» وأعماله ومسيرته وجمعه بين الطب والأدب كان الحوار التالي.

يرى البعض أن الحكايات التي تضمنتها روايتك الأخيرة «أنا عشقت»، مثل «سمية» و{ذكرى»، تقليدية ومكررة. كيف ترد على ذلك؟

آسف لأن هذا الانطباع هو ما تركته الرواية، لقد حاولت أن أقدم فيها نماذج من حياتنا المعاصرة، غلفت البعض منها بأسلوب غرائبي، والبعض الآخر كتبته كما تصورت قريباً من رصد الواقع. لو تأملت في التفاصيل لأدركت أن شخصياتي تعيش حياتها الخاصة بمعزل عن القوالب المنصوبة. مثلاً، حكاية «سمية» البنت اليسارية الثائرة التي تنحرف مع أستاذها الجامعي إحدى أكثر الحكايات شيوعاً في الجامعات المصرية، والكثير من القراء أرسلوا لي حكايات عن قصص متشابهة، بل تكاد تكون متطابقة في التفاصيل، وهي تدل على التدهور الأخلاقي الحادث في هذه الجامعات، وآمل بعد الثورة المصرية بأن يتغير هذا الوضع البائس ويتحلى الأساتذة بالضمير الأخلاقي وعدم استغلال الفتيات.

هل تقبل القراءة الرمزية للرواية، واعتبار «ورد» نموذجاً لمصر قبل الثورة و{علي» نموذجاً للشباب الثوري الذي لا يصل إلى ما يريد؟ أم أن «الرواية الواقعية» تجاوزت هذه المرحلة؟

لا أفضل «الرمز» كثيراً، بل أتوخى أن تكون الشخصية في روايتي من لحم ودم. كنت أكتب الفصول الأخيرة من «أنا عشقت» عندما قامت الثورة، وكنت من خلال شخصية «ورد» أريد أن أجسد مرحلة طويلة من العجز والسكون والتجمد عاشتها مصر، تدهورت فيها أحوال الناس، وانخفض مستوى إبداع العقل المصري وضاع الأمل. كي لا تكون الرواية شديدة الظلمة، أوجدت الشاب «علي» طالب الطب، بطلي الأثير، الذي استطاع القيام برحلة معاكسة لأسطورة إيزيس وأوزوريس، والحفاظ على براءته وسط هذا العفن.

كيف وأين تتابع ردود أفعال الناس حول كتاباتك؟ من خلال الأصدقاء، أم الـ «فايسبوك» أم أنك تكتفي بردود الفعل في حفلات التوقيع؟

لم تتح الفرصة لي لأقوم بحفلة توقيع إلا مرة واحدة، ربما بسبب ابتعادي الدائم عن مصر. لكني أتابع ما يكتبه الشباب على موقع «غود ريد»، وأعتقد أن لي شعبية طاغية وسط الشباب هناك. إنهم يملؤوني بالأمل والحب والرغبة في الكتابة، بعضهم يعرفني جيداً منذ عمر الطفولة من خلال مجلة «ماجد»، وما زال يتابعني وينتقدني ويردد جملي.

هل صحيح أن الطبيب أكثر إحساساً بآلام الإنسان، ولهذا كثيراً ما نجد من الأطباء شعراء وروائيين، أم أنها الصدفة؟

تقتل مهنة الطب الإحساس بالألم، وهو الرأي الذي كان يقوله دائماً يوسف إدريس لنا، وعلى الكاتب أن يتعرف إلى مكامن هذا الألم حتى  يمد يد المساعدة إلى من يحتاجون إليه، كما فعل ديكنز في القرن التاسع عشر حين ساهمت روايته في فضح المعاملة السيئة التي يتلقاها الأطفال، وساعد على إخراج تشريعات قانونية ضد استغلالهم، وكما فعل تشيكوف وغوغول عندما فضحا دناءات البيروقراطية الروسية.

أعتقد أن الطبيب الكاتب يرى الإنسان بشكل أفضل، لأنه يعرف الأسباب الحقيقية لأي سلوك يقوم به، فهو على علم بتركيب الماكينة البشرية من الداخل.

على رغم قلة إنتاجك الأدبي، إلا أنك سرعان ما تربعت على قلوب كثير من محبيك، إلام يرجع ذلك في تقديرك؟

انقطعت عن الكتابة لفترة طويلة، أعني عن كتابة القصص والروايات، لكني لم أكف عن الكتابة للأطفال، ولي أكثر من ثمانية كتب في هذا المجال، وفي إعادة كتاب التراث العربي أصدرت ثلاثة كتب، حتى إني كتبت في مجال السينما والرحلات والمقالات المتعددة. لكني طوال الوقت كنت أشعر أنني لا أكتب شيئاً. كنت أريد العودة إلى الرواية، لكن لم أعرف كيف، وكنت قد نشرت روايتي الأولي «انكسار الروح» في عام 1988 واختيرت أفضل رواية لذلك العام، تشابكت خيوط حياتي. سافرت إلى الكويت وعملت في مجلة «العربي»، وكانت فرصة جيدة لي، فقد تعرفت إلى عدد من المثقفين الكويتيين على رأسهم الدكتور سليمان العسكري، وكان العمل في المجلة يستهلك كل طاقتي في الكتابة، لكنني عندما ذهبت في رحلة طويلة إلى وسط آسيا، أحسست أن الرواية تناديني والرغبة في الكتابة الإبداعية توشك أن تفقدني الرشد. هكذا، جلست وكتبت روايتي الثانية «قمر على سمرقند»، ومن حسن حظي أنها ترجمت إلى الإنكليزية وفازت بإحدى الجوائز الأدبية المهمة، ما شجعني كثيراً.

تردد دائماً أنك تعلمت الكلام من والدك خلال طفولتك، كيف استطعت أن تستفيد من ذلك أدبياً؟

كنت أعمل في الكويت حين مات أبي، وسافرت حزيناً منكسر النفس بعدما انتهى كل شيء. لم يكن أمامي إلا أن أقرأ الفاتحة على قبره، لكن عندما علم أهلي أنني قد جئت، توافدوا جميعاً لتعزيتي، كأن طقوس الموت قد عادت من جديد، وكأن أبي قد عاد حياً وهو يعاتبني على غيابي. كتبت هذه التجربة في قصة «مكان للمحبة»، حاولت فيها أن أستنقذ أبي من أعماق الغياب لنجلس سوياً ونقص على بعضنا البعض من حكاياتنا المحببة، حكايات كنا نحفظها جيداً ولكننا كنا نستمتع باستعادتها سوياً، وعندما نشرت هذه القصة في «العربي» تلقيت عشرات الرسائل،  فكثر مروا بهذه التجربة، موت عزيز عليك وأنت في الغربة، إحساسك بالذنب والتقصير، افتقادك لركن أساسي في عالمك، فراغ تنفذ منه ريح الحنين الباردة ولن يقدر أحد على سده بعد ذلك.

كيف ترى أثر الغربة والابتعاد عن مصر لفترات طويلة في كتابتك؟

أعيش في غربة دائمة آن لها أن تنتهي. انفتح العالم كله أمامي، لكني مهدد بفقدان جذوري. أعيش الآن على حافة العالم في مونتريال، وليس ورائي إلا الثلج. أكتب في رواية ربما تكون الأخيرة، لكني لا أدري ما هي خطوتي المقبلة. ربما حان وقت العودة لأن سنوات العمر قد تسربت بطريقة مأساوية. إذا أردت أن أواصل الكتابة يجب أن أعود، أنا أتابع ما يحدث في مصر لحظة بلحظة، وأكتب مقالاً في كل أسبوع معلقاً على الأحداث، لكني أشعر أن هذا ليس كافياً.

صدرت بعد الثورة كتابات تعد «توثيقًُا» للثورة، واكتفى بعض الأدباء بكتابة «يومياته». ماذا عنك، وهل ترى أن الأمر لم يحن بعد؟

ذات يوم قال لي ابني معاتباً: «أنت لم تترك لي الفرصة لأشارك في الثورة»، قلت له: «لقد خبأتك من الموت»، ثم شعرت بالخجل من نفسي، فهو ليس أفضل من الذين ذهبوا، كما أن بناتي قد هبطتا إلى الميدان، وشاركتا في الكثير من أيام الثورة. لقد حاولت أن أتخلص من هذا الإحساس بالذنب فكتبت كتاباً للفتيان، الأولاد في سن القراءة، بعنوان «ثلاث حكايات عن الثورة» فيه كثير من وقائع هذه الأيام، أخبار عادية الآن ولكنها غداً ستصبح تاريخاً. أما الكتابة الأدبية عن الثورة فأعتقد أنها قد تحتاج إلى بعض الوقت، ولا أعتقد أن أحداً سيكون حريصاً على كتابة تاريخ الثورة الفعلي غير كتاب مصر وأدبائها الذين أدعوهم إلى الكتابة عن أدق التفاصيل، فالتاريخ لا يقدم نفسه مجاناً إلا نادراً.

back to top