كيف نساعد بورما

نشر في 27-07-2012 | 00:01
آخر تحديث 27-07-2012 | 00:01
No Image Caption
 راديك سيكورسكي في أنحاء الشرق الأوسط المختلفة، والآن في بورما (ميانمار)، عاد إلى الظهور على السطح من جديد واحد من الأسئلة العصيبة في السياسة العالمية المعاصرة: كيف يمكن للبلدان أن تنتقل من الحكم السلطوي الفاشل إلى شكل ما من أشكال التعددية القادرة على دعم ذاتها؟ وبالتالي فإن وزراء الخارجية في كل مكان يواجهون تساؤلات سياسية عصيبة: متى تطلق أي دولة مثل هذا التحول السياسي؟ ومتى يتعين على دول أخرى أن تساعدها؟ وما أفضل طريقة لمساعدتها؟

إن التحولات السعيدة، على حد تعبير تولستوي، كلها تتشابه؛ ولكن كل تحول تعيس ترجع أسباب تعاسته إلى ظروف خاصة به. فالتحولات السعيدة في قسم كبير من أوروبا الوسطى في أعقاب نهاية الحرب الباردة كانت أكثر سهولة لأن النظام الشيوعي القديم توفي فجأة وسلم السلطة سلمياً. وهذا، إلى جانب الدعم السخي من قِبَل أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، وجهات أخرى، ساعد في خلق مزاج يفضي إلى المصالحة، الأمر الذي سمح لكل دولة بالتعامل بطريقة مدروسة وغير حاقدة مع القضايا الأخلاقية الصعبة الناجمة عن الماضي القريب المظلم.

وربما كان الأمر الأكثر أهمية أن هذه التحولات حدثت وسط شبكة أوسع من المؤسسات الشرعية- الاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، ومجلس أوروبا- التي تولت الدفاع عن سيادة القانون. ولقد زودت هذه البيئة الداعمة صناع القرار السياسي على المستويات الوطنية بخريطة طريق ساعدتهم في بناء المؤسسات الديمقراطية وتهميش المتطرفين.

بيد أن الأمور في أماكن أخرى من العالم ليست بهذا القدر من السهولة. فقد تتشبث الأنظمة التي فقدت مصداقيتها بالسلطة بقدر أعظم من الشراسة والقمع، كما هي الحال في سورية. أو قد تلجأ إلى خلق كل أنواع المشاكل الجديدة وهي في طريقها إلى الخروج من السلطة، كما يحدث في ليبيا. أو ربما تناضل لتقديم المساءلة الديمقراطية في حين تحاول الحفاظ على الاستقرار، كما هي الحال في مصر.

وفي بورما، نرى نموذجاً آخر، محاولة جريئة بعد عقود من الحكم العسكري للتحرك بطريقة موجهة ولكنها عازمة نحو شكل جديدة شامل من أشكال الحكم، وهنا سنجد أوجه تشابه مذهلة بين هذا وما حدث في بولندا مع نهاية الشيوعية. إن النخبة العسكرية تفضل الإصلاح خطوة بخطوة، ولكنها ترغب في حماية وضعها وعازمة على تجنب الانزلاق إلى الفوضى. ويقود المعارضة زعيم كاريزمي يتمتع بدعم شعبي كبير، وتفتح النخبة الحاكمة الباب أمام إتاحة عدد من المقاعد البرلمانية للأصوات الشعبية، ولكنها تفاجأ بفوز المعارضة بأغلبية ساحقة.

ويتعين على زعماء المعارضة في بورما فضلاً عن ذلك أن يعملوا، كما حدث في بولندا تماماً، على إيجاد توازن دقيق: بين ضرورة إرضاء أنصارهم الذين فقدوا صبرهم (والذين عانى كثيرون منهم بشدة في ظل النظام القديم) وبين ضرورة طمأنة هؤلاء الذين ما زالوا في السلطة إلى مستقبل محتمل ذي شأن.

ولكن هناك اختلافات أساسية، فبورما لديها ديناميكية سياسية داخلية مختلفة تماماً، وليس أقل الأسباب وراء هذا الاختلاف تلك العلاقات المعقدة بين الطوائف العرقية واللغوية المختلفة- الانقسامات الاجتماعية التي لم تكن تشكل قضية في العملية الانتقالية المتجانسة إلى حد كبير في بولندا.

فضلاً عن ذلك، وخلافاً لبولندا عندما انهار الشيوعية، فإن بورما لديها بالفعل مجموعة قوية ومزدهرة من كبار رجال الأعمال في ظل النظام الحالي- وهم عازمون على الحفاظ على امتيازاتهم وتنميتها. وفي المقام الأول من الأهمية، لا يوجد سياق مؤسسي دولي مباشر يشجع على التغيير المطرد وتأسيس المعايير والمقاييس: أي أن بورما يتعين عليها أن تجد طريقها بنفسها.

قبل أسابيع، قمت بزيارة بورما، حيث التقيت بالرئيس ثين سين وزعيمة المعارضة أونغ سان سوكي، فضلاً عن سجناء سياسيين سابقين والعديد من الناشطين. ثم خرجت من هذه المقابلات مقتنعاً بأن بورما دولة تسير قُدُماً، وتتحرك بثبات وقوة في اتجاه طيب.

إن كل الأطراف تجمع على أن أداء هذا البلد الكبير الغني بالموارد كان أقل من إمكاناته لفترة طويلة للغاية. وتتفق كل الأطراف أيضاً على أن نهج الخطوة بخطوة، القائم على المصالحة، أفضل من الصراع المفتوح على السلطة، وهو الصراع الذي قد يتخذ أبعاداً عرقية مأساوية بين عشية وضحاها، وهذا الإجماع سيظل على مصداقيته طالما ظل الإصلاح السياسي مستمراً والنمو الاقتصادي متواصلا. بعد مثل هذه الفترة الطويلة من الركود، يريد الناس أن يروا ويشعروا بالتغيير إلى الأفضل في حياتهم.

يتعين على بقيتنا أن يتحروا العمل البنّاء والإبداعي، وليس العمل الوصفي الشكلي، وقبل كل شيء يتعين علينا أن نتحلى بالصبر.

إن تعليق الاتحاد الأوروبي للعقوبات والاستعداد عموماً للمشاركة بشكل بنّاء أمر منطقي، ويتعين على حكام بورما أن يستجيبوا بإطلاق سراح كل السجناء السياسيين المتبقين في السجون وأن يفتحوا العملية السياسية بالكامل. كما يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يضمن تخصيص مساعدات التنمية التي يقدمها- وعملية تسليم هذه المساعدات- لتعزيز التعددية والمصالحة من خلال ضمان استفادة كل الطوائف في بورما بنزاهة وشفافية.

وتقدم بولندا إسهاماً مباشراً، من خلال مساعدة كبار صناع القرار وزعماء المعارضة وممثلي قطاع الأعمال في بورما على فهم "تكنولوجيا الانتقال"- بمعنى تسلسل الإصلاحات الفنية، التي ساعدت في جعل بولندا واحدة من أكثر اقتصادات أوروبا صحة اليوم. ولقد صاحبني في زيارتي مجموعة من ممثلي التجارة والأعمال لعرض مشاريع استثمارية ضخمة.

ولعل الجانب الأكثر تشجيعاً في زيارتي لبورما كان ذلك الاستعداد للانفتاح والتعلم من الدول الأخرى التي شقت طريقها عبر العملية الانتقالية المؤلمة من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، ولقد سألني أحد الجنرالات بشكل غير رسمي: "كيف تمكنتم من تنفيذ مثل هذه التغييرات السياسية الجذرية من دون إراقة دماء؟". وفي إطار ورشة عمل الديمقراطية قالت إحدى النساء الشابات أمام الصحافيين والمحاضرين المجتمعين: "كنت أتصور أن بورما مثال فريد من نوعه. والآن بتنا ندرك أن دولاً نائية مرت بتجارب مماثلة. ونشعر بقدر أقل من العزلة- لقد نجحتم على الصعد كافة".

نظراً لهذه الروح- والمساعدات الخارجية المناسبة- فأنا على يقين من أن بورما أيضاً ستنجح على الصعد كافة.

* وزير خارجية بولندا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top