أزمنة الدميني

نشر في 10-06-2012
آخر تحديث 10-06-2012 | 00:01
 آدم يوسف "فدنت وقالت يا منخل ما بجسمك من حَرور

ما شفّ جسمي غير وجدك فاهدأي عني وسيري

وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري"

* المنخّل اليشكري

اللغة تغوص بك إلى الأعماق، والمضمون حالة تشظٍ بين التراث، والحاضر، وقيظ الصحراء، وصحراء القيظ، ذلك شيء يسير مما يمكن أن يقال عن ديوان الشاعر علي الدميني "بياض الأزمنة" 1995، وبرغم عدّة إصدارات لاحقة للشاعر بعد هذا الديوان فإن القراءة الثانية له، غير تلك الأولى في عام الصدور ذاته.

قد تكون الصحراء برموزها ودلالاتها هي المفتاح الأنسب للولوج إلى نصوص الدميني، كما هو الحال مع عدد من شعراء جيل الثمانينيات، ومن هؤلاء: محمد الثبيتي، وسعد الحميدين، وعبدالله الخشرمي، وعبدالله الصيخان، ولكل شاعر أجواؤه، وهمومه، وصحراؤه الخاصة، وفي حالة الدميني وقفة واحدة مع قصيدة "بروق العامرية" تكشف السر وتهتك البياض، بياض الأزمنة، منذ امرئ القيس، والنابغة، والمنخّل اليشكري، حتى آخر رملة في صحراء نجد، وبروق الحجاز.

و"تحبني وأحبها"، هكذا تنفتح الدلالة، ويسوقنا النص إلى معارج الكلام:

"وبكل منعرج ركزنا خدرنا علما، وتوّجنا الوعول مليكة أولى على عرش البراري، لا نبع في الصحراء إلا وجهها، يروي عشياتي، ويجلو راكدات البيد في قلبي، ولا ظلّ سوى أغصانها تنحلّ، ما بين المدار إلى المدار". الصحراء لدى الدميني حالة عشق عامرية، وظمأ يختلط مع روي المكان، الصحراء عصا تشق الرمال من الشمال إلى الجنوب، الصحراء بروق تُجلي غوايات الفتى الغامدي.

"آبق في الغواية هذا الفتى الغامدي الخجول

تتبدّى له نجمة في الحديقة بيضاء، من ذهب وحقول

وتوسوس فوق ذراعيه، مغسولة برداء الفصول

لا تقولي عشقتك، ما زلت غضا يخب نهار الطفولة، لكنها ستقول،

ويكون الذي كان حين امتطينا صباح الخيول"

اتخذ الدميني من قصيدة المنخّل اليشكري بما تحمل من دلالات ورموز  تاريخية، مفتاحاً لديوانه، فالمنخّل الشاعر الجاهلي، نديم النعمان بن المنذر، وعاشق أو معشوق "المتجرّدة" هكذا تقول الرواية التاريخية- قد نال جزاء حبّه، وبقيت بعده قصيدته الخالدة، ورموز صحرائه، وطرافتها فيما تعنيه من "حب بعير وناقة".

سطوع الشمس وسطوة النهار هما وحدهما ما يصنع "البياض"، هذا الذي يتخذه الدميني مفتاحاً دلالياً، مناهضاً للظلمة، والظلام، والطريف أن رمز البياض هذا كان يشغل الدميني، حتى قبل حبسه، وظُلمة السجن، وتجربة النضال التي صنعت ثراء آخر يُضاف إلى ثراء القصيدة، وكثافة المجاز والصورة:

"غسل الدهر حزننا بالأقاحي

واستوينا على بياض الجراح

ومهيض الجناح مازال يقضان

حتى أتاه القطى بجناح

لا النهيرات جفّت بكاء

ولا البحر أرخى الهوى للرياح".

إلى جانب الصحراء، وقلق تشكلات المكان، يأتي الماء والنهر رمزان آخران، يمكن إدراجهما إلى الحالة الشعورية التي تصنع رمزية القصيدة، وهما كذلك من مكملات الحالة الصحراوية، فلا بداوة من دون تراث، ورمال، ومنخل ونابغة، وعشق بالتأكيد عواقبه وخيمة.

وتمتد حالة الصحراء هذه على طول الديوان وعرضه حتى ينتهي بنا المطاف إلى تلك القصيدة التي يُطلق عليها الدميني مسمى "معلّقة الطائر الجاهلي" هذه القصيدة التي تأتي محمّلة بكلمات الماء، والنهر والخيمة والشمس، وهي جميعها مفردات تحيلنا إلى الحقل الدالي ذاته، للصحراء وشمسها وقيظها الحارق. واللافت أن الدميني يعوّل كثيراً على فكرة الظمأ، والحاجة إلى الماء، فهذا الظمأ قد يكون عاطفياً، بما تحمله قصائده من رموز في العشق، وقد يكون حالة حنين، ونقمة على الحاضر، أو ربّما اختزالاً لواقع مؤلم، وشرود عبر لغة إيحائية شديدة التكثيف، ليس يشتغل عليها الدميني وحده، وإنما كثير من شعراء جيله من كتّاب القصيدة الثمانينية في السعودية.

*النصوص الواردة في المقال من ديوان "بياض الأزمنة"

back to top