رحلة إلى أقاصي العنف لسمير فرنجية... مرايا السياسة في لبنان
صدر أخيراً للكاتب والسياسي اللبناني المعروف سمير فرنجية كتاب «رحلة إلى أقاصي العنف» عن دار «شرق»، ويتضمن حكاية مسيرة طويلة، متعرجة كثيراً، وتجريبية أحياناً، ومصممة على الدوام، بحثاً عن مخرج من الحرب التي دمرت لبنان.كتاب «رحلة إلى أقاصي العنف» بحث عن منابع هذا العنف في أماكن معتمة من النفس البشرية، بحث يتجاوز السياسة ومتعلقاتها من دون أن يهملها. يتناول الكاتب سمير فرنجية: العنف الطائفي أثناء الحرب الأهلية، والعنف الإسرائيلي ومشروع تحالف الأقليات في المنطقة ضد الأكثرية العربية الإسلامية، والعنف السوري ومشروع سورية الكبرى. ثم ينكب على التفتيش عن «مخرج» من الحرب، بإعادة نسج الروابط بين اللبنانيين. كذلك يتناول «حدثاً تأسيسياً» هو اغتيال الرئيس رفيق الحريري و{انتفاضة الاستقلال 2005»، تلك الثورة التي لم تكتمل. أخيراً، يتحدث فرنجية عن مفهوم «العيش المشترك»، رابطاً بين بعدي المواطنة والتعدد الطائفي، كما عن ضرورة التأسيس لثقافة جديدة هي «ثقافة الوصل»، والبحث عن طريق عربية نحو الحداثة في ضوء «الربيع العربي». ويخلص إلى سؤال: متى وكيف يصبح سلام لبنان والعالم العربي ممكناً؟
في مقدمته للكتاب يعتبره فرنجية شهادة على العنف: بواعثه، آليات اشتغاله، منطقه التبريري، وذاك العمى الذي يجعلنا لا نرى عنفنا الخاص سوى رد فعل «مشروع» على عنف آخر. فالحرب اللبنانية غنية بالدروس والدلالات، ذلك العنف الذي أنتجته لا يحده نموذج واحد من نماذج العنف المعروفة. فهذه الحرب لم تقتصر على دول، كتلك الحروب التي شهدتها أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، ولا هي مجرد حرب استقلال بين حركة تحرر وطني وقوى استعمارية. ثم إنها ليست من صنف حروب الهويات الطائفية أو الإثنية فحسب، كتلك التي عرفتها أفريقيا ودول البلقان. فهذه الحرب تبدو عصية على التصنيف، لأنها في الواقع خليط من كل تلك الحروب. فقد كانت حرباً بين دول، لكنها في الوقت حرب استقلال وطني ضد محتل اختلفت هويته من مرحلة إلى أخرى. كانت حرباً طائفية بين مسلمين ومسيحيين، لكنها شهدت أيضاً صدامات مذهبية بين سنة وشيعة. كذلك عنفاً دموياً داخل جماعة أو طائفة أو مذهبية واحدة في بعض الأحيان: «حرب الإلغاء» بين المسيحيين (1990)، و»حرب إقليم التفاح» بين الشيعة (1987). إلى ذلك يمكن اعتبارها حرب إسرائيل على لبنان وفي لبنان، لتنفيذ مشروعها القديم الرامي إلى إنشاء «حلف بين أقليات المنطقة ضد الأكثرية العربية- الإسلامية»، مثلما في الوقت ذاته حرب القيادة السورية «الأسدية» في لبنان وعلى لبنان، طمعاً في إعادة تكوين «سورية الكبرى» بـ»حدودها التاريخية».يرى فرنجية أنه يمكن تسمية هذه الحرب بأسماء مختلفة تبعاً للمراحل، غير أن المشترك الثابت فيها جميعاً هو هذا العنف المرافق، والجاهز على الدوام لتسعيرها، ولإنعاش ذاكرات تاريخية مثقلة بتاريح الماضي السحيق وآلامه.«مخرج» من العنف الكتاب حكاية بحث طويل ومشوش عن «مخرج» من العنف، بحث صعب لأن العنف أثناء الحرب لم يتسم يوماً باسمه الحقيقي. كان يُحكى عن هجوم، رد على اعتداء، مؤامرة، ثأر واقتصاص، دفاع مشروع، مقاومة. وما إلى ذلك من كلمات لا تستخدم، في الواقع إلا للتنصل من مسؤولية لم يكن أحد يريد أن يتحملها. وهو بحث صعب، لأنه يفتقر إلى أدوات التحليل المناسبة والفاجعة. فمفاهيم الصراع الطبقي، والتحرر الوطني، والعنف الثوري، التي لطالما استخدمت، أيام اليسار، بدت محدودة القدرة على تفسير العنف.يفيد فرنجية أنه بدأ العمل منذ وقت مبكر من الحرب، على إجراء حوارات والبحث عن تسويات بين المتحاربين بغية وقف العنف، حوارات وتسويات بين مسلمين ومسيحيين، لبنانيين وفلسطينيين، لبنانيين وسوريين. هنا يتساءل فرنجية عن معنى وقف إطلاق النار، هل هو «وقف لإطلاق النار» بين معسكرات متقابلة؟ هدنة طويلة الأمد؟ هل يعني السلام؟ وأي سلام؟ أهو سلام الشجعان الذي قرأنا عنه في الكتب، أم هو سلام عادي تافه، وربما حقير، يقوم على امتيازات أو حتى صفقات مشينة؟ وفي مثل هذه الأحوال ماذا نفعل بـ»المبادئ السامية» التي اقتتلنا باسمها بنشاط فائق على مدى عقود؟ هل نخبئها «ذخيرة» لحروب مقبلة وعنف يأتي بعد حين؟الكتاب حكاية تلك الأسئلة كافة وغيرها الكثير، وذاك المشوار الطويل بحثاً عن السلام. وهو ليس رواية سياسية، ولا تحليلاً للحرب. إنه حكاية «رحلة إلى أقاصي العنف»، حكاية منسوجة من وجوه ولقاءات ومبادلات، من تجارب ناجحة، لكن من محاولات خائبة أيضاً.كذلك يروي سمير فرنجية عن حادثة حصلت في 7 نوفمبر 1968. بينما كان عدد من الطلاب مجتمعين في حرم «المدرسة العليا للآداب» اعتراضاً على قمع تعرضت له إحدى منظمات المقاومة الفلسطينية في الأردن، هوجم أولئك الطلاب بعنف من محازبين كتائبيين، ما أدى إلى جرح عدد كبير منهم. فأثار الحادث اضطراباً شديداً في البلاد، فقامت اضرابات في الكثير من المدارس والجامعات، وما لبثت أن انطلقت تظاهرات في مختلف الأنحاء، لا سيما في طرابلس حيث قتل واحد من أبنائها الطلاب. وبعد عشرة أيام، نظمت جريدة «الأوريان» لقاء (وجهاً لوجه) بين أولئك القادة الشبان السبعة الذين «أثاروا الاضطرابات»، وكان سمير فرنجية واحداً من الطلاب السبعة.يسرد فرنجية مسارات بعض أولئك «المحرضين» السبعة ومصائرهم، بعد وقوفهم «وجهاً لوجه» عام 1968. في 23 أغسطس 1982 وصل بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، واغتيل بعد ثلاثة أسابيع من انتخابه. وكريم مجدلاني، الذي كان في بيروت أثناء الحصار الإسرائيلي 1982، قتل في 2 أغسطس من السنة نفسها. وأمين معلوف، الذي كان قد غادر لبنان ليقيم في فرنسا، نال عام 1993 جائزة «غونكور» للآداب عن روايته «صخرة طانيوس»، ثم اختير بعد 43 سنة من «وجهاً لوجه» عضواً في «الأكاديمية الفرنسية»، فاندرج بذلك في سجل الخالدين. أما فرنجية نفسه فانطلق في تجوال طويل، نقله من فكرة «الصراع الطبقي» إلى مشروع «العيش معاً»، فأرسى نهج تواصل وحوار بين اللبنانيين، وانصب جهده على تحضير التربة الصالحة لتكوين معارضة وطنية «متعددة الأطياف والطوائف» ضد الوصاية السورية في لبنان. وفي 18 فبراير 2005، بعد أربعة أيام على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انطلقت «انتفاضة الاستقلال» التي كانت البشارة الأولى لـ{الربيع العربي».