سلام الراسي... أنتيكا المأثورات الشعبية على الـ فيس بوك
بمناسبة مرور مئة عام على ولادة شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي (1911 - 2003)، أقيم له موقع على الإنترنت وصفحة على الـ{فيس بوك» حيث بات في الإمكان زيارتهما والتفاعل معهما بالصوت والصورة والكلمة المنشورة. والراسي أحد أعمدة التراث الحكائي والفولكلوري وكل ما يخص التجربة الشعبية اللبنانية، من ريف الجنوب وصولاً إلى منطقة رأس بيروت.سلام الراسي الذي كتبت عنه سابقاً بالاسم المستعار «يوسف حاتم» غداة وفاته، هو «شيخ الرواة المحدثين» على ما وصفه الشاعر اللبناني شوقي أبو شقرا، وهو أديب «ابتكار الذاكرة» بحسب الشاعر عباس بيضون. و{يبدو سلام الراسي مثل سنديانة عريقة شهدت في ساحة قرية كبيرة واستمعت عبر كل السنين إلى كل أنواع الحكايات» (سمير عطالله)، وهو سليل أسرة عرفت بتوجهاتها الفكرية والأدبية، فوالده المعلم يواكيم الراسي (--1840 1917) اعتنق المذهب الإنجيلي... وصار المعلم يواكيم، تلميذ مدرسة عبيه الإنجيلية، رجل الأدب والتربية في جنوب لبنان، وكان أحد مؤسسي مدرسة الفنون الإنجيلية في صيدا.
مات المعلم يواكيم قبل انتهاء الحرب العالمية وسلام ابنه الأصغر ما زال في السادسة من عمره، فأدخل مدرسة القرية وبعدما أنهى تعلّمه الابتدائي فيها، انتقل إلى جديدة مرجعيون ليتلقى العلم في مدرستها العالية. في سنة 1929، رحل إلى بيروت لمتابعة دراسته في الجامعة الأميركية هناك، حيث عاش في منطقة رأس بيروت وكانت له حصة في أدبها، وهو انتمى إلى الحزب الشيوعي اللبناني في إحدى المراحل، من دون أن يلتزم به لا سياسياً ولا فكرياً ولا تنظيمياً. لكنه كان يحنّ إلى العلاقة مع أصدقاء عمره من قادة الحزب الشيوعي، ويرى في ورثتهم من الجيل الجديد (وكنت واحداً منهم) ما يكمل السيرة التي كان قد بدأها في أول العمر مع هذا الحزب.حكايات القريةجاء الراسي إلى حكايات الأدب الشعبي القروي متأخراً بعدما بدأ شاعراً في شبابه. وهو تميز بالدعابة والخفة والمرح فكانت الابتسامة قرينة حكايته وكلماته، بل إن الحكاية نفسها هي شيء من «الفلسفة الشعبية» بالمعنى القروي والاجتماعي، فهو كتبها بأسلوب خاص لا يترك أمام القارئ أي ثغرة يتسلل منها الملل والضجر، إذ هي تقوم على العفوية والخرافة. هو نفسه كان يردد أن الحكاية أبلغ وسائل التعبير، فإذا طُرح عليه سؤال أجاب بحكاية، متعوداً أن يعبّر عن آرائه بقصة تكون تطبيقاً للمثل: لكل مقام مقال. لهذا أطلق عليه بعضهم لقب «الحكواتي» أو «الحكاء» وأحياناً «أبو علي». في تعليقه على هذا الشأن، قال إن النقاد لعلهم أرادوا أن يُنقصوا «من قيمة كلامي لأن الحكاية في نظرهم من سقط المتاع، ولأنها، بالمقارنة مع القصة، لا حسب لها ولا نسب، في حين يكون حسب القصة ونسبها معروفين لاقترانها باسم مؤلفها، ولكونها محفوظة في بطون الكتب لا على ألسنة عجائز القرية وشيوخها».وليس سلام الراسي وحده من اهتم بالميتولوجيا والحكاية الريفية اللبنانية والمشرقية، ثمة عدد كبير قد سبقه في هذا المجال منهم، أنيس فريحة ولحد خاطر وكمال ربيز. لكن الراسي في رأي النقاد تميز عنهم جميعاً، وما يميّزه عن سابقيه هو أنه كتب حكايات لم يكتبها أحد قبله، ومعظمها من إبداعه وتأليفه، أو جمعها بطريقته، حمّلها مدلولات تراثية شعبية تنطلق على ألسنة أشخاص من بيئته الريفية.شكلت طفولة الراسي منبعاً عميقاً لحكاياته وأمثاله، فهو نشأ في مجتمع قروي في قرية إبل السقي الجنوبية اللبنانية، حيث يحظى «الحكي» بقيمة كبيرة. وكان شيوخ القرية يسردون في بيته الحكايات لأنها كانت حاسمة في تعزيز آرائهم وتثبيت دورها في النقاشات الدائرة. والمهم في ذلك أن تكون مقفاة بمثل لأن المثل سيد الموقف بلا منازع.عاش الراسي حياته موظفاً حكومياً، لكنه حمل معه حب الأدب الشعبي إلى الدوائر التي عمل فيها، خصوصاً مصلحة التعمير في أواسط الخمسينات، ومن حسن حظه أن رئيس المصلحة آنذاك كان إميل البستاني الذي كان يستظرف الحكايات الطريفة الشعبية، وعندما حكى له الراسي ذات مرة حكاية رجل وحماره في المحكمة، بادره البستاني بأنه سيسمح له أن يوسع ذمته مع ظرفاء القوم وأن «يشوفو خاطره بحكاية أو مثل أو خبرية أو ردة زجل أو بيت عتابا»، ولم يلبث مكتب الراسي أن تحول دكاناً لمقايضة المعاملات بحكايات وخبريات.بدا الراسي مولعاً بهواية جمع الحكايات حتى أصبحت «مهنته»، واستهل سيرته الأدبية عام 1971 بكتاب «لئلا تضيع» وأعقبه بـ{الزوايا خبايا» (1974) و{حكي قرايا وحكي سرايا» (1976)، ثم سارت القافلة. كتب حكايات وأقوالاً مأثورة وحكماً وأساطير وأزجالاً وأسجاعاً واصطلاحات وأفكاراً وتعابير يندمج فيها النطق بالمدلول وقد استساغ حصدها بقلمه من الذاكرة ومن الألسن فباتت ملكاً للجميع محفوظةً من الاندثار والزوال شأن كثير من الحكايات والتواريخ الشفهية. فما هو مكتوب يؤرخ للإنسانية ويكون عبرة للأجيال المقبلة.قال الراسي في مقابلة صحفية: «أخاف أن أموت فتبقى في ذمتي حكايات الناس»، وناشد في مقابلة تلفزيونية هواة «أنتيكا» المأثورات الشعبية أن يوافوه بما عندهم منها، متعهداً أن يهدي كتاباً من كتبه إلى كل من يهديه إلى مأثورة جديدة، فـ «رحتُ أقبض حكايات كاسدة وخبريات فاسدة وأقوالاً ملفقة وأمثالاً مرقعة، وأدفع كتباً موقعة مع مجاملات واحترامات وتبجيلات تبلغ أحياناً حدود المبالغات حتى أنفقت جميع كتبي، لكني فطنت أخيراً إلى مثل يقول: «من يجعل تجارته اللياقات لا يقبض غير المجاملات». أدب حضاراتلم يكن سلام الراسي يخفي أن الأدب الشعبي في لبنان هو أدب شعوب وحضارات، أو «هجنة» من حكايات وأمثال تمازجت في ما بينها، لأن شعوباً متعددة عبرت في لبنان، من الغرب والشرق، وتركت ملامح من مأثورها. من الأمثلة الشعبية التي يصح فيها هذا الاعتبار: «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم» الذي يعود الى أسطورة إغريقية، ومنها أيضاً عن الإنسان القريب أنه «من عظام الرقبة»، أو عن المرء الذي «لعب الفار بعبّه» أنه مستل من خرافة أسبانية، أو أن «عين الحب عمياء» وهذا مثل ملموم من حكاية المانية، أو «طب الجرة على تمّها بتطلع البنت لأمها» وهو من سفر حزقيال في العهد القديم.كشف الراسي النقاب عن آلاف الأمثال المتداولة في الاجتماع اللبناني، حتى إن بعضها تعدى الحدود اللبنانية ليدخل بعض الثقافات العربية المجاورة. يقول إنه عندما نشر كتابه «حكي قرايا وحكي سرايا» معتبراً «أن هذه الحكايات من تراثنا» رد عليه عبد الرحمن الكيالي من حلب موضحاً أن هذا التراث ليس تراثاً محض لبناني، وأن الأمثال والحكايات كافة تستعمل في حلب، وأن أهل المدينة وغيرها من مدن سورية يرفضون أن يقال إن هذا التراث هو لبناني فحسب.لكن الراسي كان يدرك ما تعنيه تلك الأمثال في حكاياته. فالمثل هو الموقف، وغالباً ما يكون أصل المثل حكاية، ويكون سبب إيراده وقوع حادثة. وقد كرر القول إن المثل الشعبي يعيش في الذاكرة الشعبية لا في بطون الكتب، فبات ما فعله يستحق التقدير حين صان هذه الذاكرة من الضياع والتشتت، وجعلها جنساً أدبياً له شروطه.وعلى رغم اهتمام الراسي الملحوظ بهذا النوع من الأدب، لم يتمكن من الإحاطة بمقومات التراث القروي ــ الريفي كافة، وهو يقرّ بذلك إذ قال مرة: «آسف لأني لم أعد أستطيع الانتقال من مكان إلى آخر لجمع الحكايات، ولأن أعوام الحرب ساهمت أيضاً في أن «تروح الحكايات عليّ». كنتُ أنوي إجراء مسح عام في لبنان، وأن أجمع من كل مناطقه قصصاً وأمثالاً وخرافات لكني صرت كبيراً بالعمر (...) حكايات حرت في أمرها لأنها تسيء وتسبب حساسيات مذهبية ومع ذلك ضيعانها».هكذا رأى الراسي نفسه مجبراً بأسباب الحرب الأهلية اللبنانية والشيخوخة على البقاء في منزله في رأس بيروت منتظراً من يأتيه بالخبريات محمولةً بإضافاتها ونقصاناتها وتشويهاتها، فيستعيد صوراً وملامح من حياة قروية وريفية ابتعد عنها أو خرج من مسرحها وانفصل عن دائرتها، فتبدو المباعدة عن القرية والسكن في رأس بيروت والعمل المتأخر في الكتابة كأنها تشكل عناصر ذات بصمات تكوينية في إخراج تلك الصور والحكايات والملامح ووضعها في مشهد الانبهار. فقد تشبه كتاباته مشهدية حنينية إلى زمن حياة القرية وصور الطفولة المنقضية. لكنه عوض أن يوظف ذاكرته في الحنين، كان يجعل ما تستسيغه ذاكرته أدباً فيعكس عناصر الاجتماع القروي وشخصياته وأدواره ولا يوظف أناه بقدر ما يترك الكلام للآخرين. كان يركّب مروياته بعدما يجمّع عناصرها من شتات اجتماعي متباين ومتفاوت ومتعدد.اختار الراسي «أبطاله» من أبناء قريته ابل السقي ومن بعض قرى جبل عامل والشوف وصولاً الى أبناء رأس بيروت الأصليين والوافدين: العامل والفلاح والمعاز والعتقجي والإسكافي والناطور والنادبة المختار والجن والجنيات والجنين ورجال الدين والسياسة والطوائف والأقارب والجيران. فمن طينة هؤلاء وأمثالهم من رموز الريف اللبناني، أسس الراسي خشبة مسرحه وأدبه الشعبي.لم يذهب سلام الراسي في توظيف الأدب الشفهي في ما هو حداثي بل أبقاه في دائرته الشعبية. إنه «أدب الناس للناس»، على قوله.مؤلفاتهبدأت مسيرة سلام الراسي في التأليف يوم أصبح في الستين من عمره، مع كتابه الأول «لئلا تضيع»، وكرت السبحة مع مؤلفاته: «في الزوايا خبايا- 1974، حكي قرايا وحكي سرايا- 1976، شيح بريح- 1978، الناس بالناس- 1980، حيص بيص- 1988، الحبل على الجرار- 1988، جود من الموجود- 1991، ثمانون- 1993، القيل والقال- 1994»، ونذكر أيضاً: «قال المثل، الناس أجناس، حكايات أدبية، أقعد أعوج وإحكي جالس، من كل وادي عصا، السيرة والمسيرة، ياجبل ما يهزك ريح»، وأخيراً كتاب «أحسن أيامك، سماع كلامك» الذي صدر سنة 2001.