الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (5) : فقهاء... في مواجهة العرش

نشر في 08-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 08-08-2012 | 00:01
ترك عبدالرحمن الداخل لذريته ملكاً راسخ البنيان بعد أن قضى سنوات حكمه الـ33 في قمع بؤر الفتنة وحماية دولة الإسلام في الأندلس من فلول القوط وملوك الفرنجة، مؤسسا دولة من العدم بعد أن كادت تعصف بها الفوضى والحرب الأهلية، وظفر بإحياء تراث أسرته الأموية المندثر في دمشق بالمشرق، ليعيد بالأندلس مجد الدولة الأموية الذاهب، لكن هذا لا يعني أن أيام الأندلس مرت بهدوء وسلام على خلفاء عبدالرحمن الداخل، فرغم جلوس ولده هشام على عرش الأندلس، فإنه واجه مشاكل عدة، فإذا كان عصر الداخل هو عصر التأسيس فإن عهد هشام ابنه كان عصر الاستقرار وتدعيم بنيان الدولة الإسلامية، وبدأت معالم الحضارة الأندلسية ذات الشكل العربي المطعمة بروافد إسبانية وأمازيغية تظهر واضحة في عصره ساذجة في البداية، لكنها ستنضح تدريجياً على مدار الأيام.

كانت أول مشكلة ظهرت بعد وفاة عبدالرحمن الداخل، هي خلافته، فقد ترك العديد من الأبناء المستحقين ولاية السلطان، فقد ترك خلفه أحد عشر ولدا، ورغم أن الداخل قبل وفاته منح ولده هشام ولاية العهد، وهو من ولي بالفعل عرش الأندلس خلفا لوالده، لكن هذا الأمر لم يرض بقية الأبناء لأن هشام ليس الابن الأكبر، لذلك كان طبيعيا أن يكون اختياره مثيرا لحقد وحسد بقية اخوته خصوصا أكبرهم سليمان ولد عبدالرحمن الداخل البكر. دخل هشام قرطبة بعد وفاة أبيه بأيام قلائل، وبويع في مستهل جمادى الأولى سنة 172هـ/788م، متلقبا بـ"الرضي"، وكان يبلغ من العمر عندما تولى حكم البلاد الثالثة والثلاثين. لم يرض حاكم طليطلة سليمان، بقرار والده بالعهد لأخيه الأصغر هشام، لكنه لم يكن يستطيع الجهر برأيه صراحة في ظل وجود والده، لكن بعد رحيله اختلف الوضع وأعلن نفسه حاكما على الأندلس متخذا من طليطلة مركزا مناوئا لسلطة أخيه في قرطبة، وزاد من قوته وتمكنه تأييد أخيه عبدالله البلنسي، الذي انضم لسليمان في مواجهة أخيهما هشام، الذي عمل بسرعة على قمع ثورة الأخوين قبل أن تستفحل وتهدد عرشه، فخرج على رأس جيشه وهزم الأخوين فهرب سليمان، واستسلم عبدالله، وذهب إلى قرطبة طلبا للعفو من أخيه، ولم يجد سليمان مفرا من الاستسلام معترفا به حاكما على بلاد الأندلس، إلا أن الأخير اشترط عليه نظير العفو عنه مغادرة الأندلس إلى بلاد المغرب مصطحبا معه أسرته وأخاه عبدالله. كانت هذه الأحداث تتعاقب في وقت أخذ عدو جديد يتربص بدولة الإسلام في الأندلس نقصد بذلك مملكة ليون المسيحية المعروفة عند العرب باسم مملكة جليقية، وهو خطر أدرك الأمير هشام أنه لا يمكن السكوت عنه فوجّه جيشا كبيرا قدره أربعون ألف مقاتل لوقف التوسع الإسباني على حساب أراضي المسلمين في الأندلس، واستطاع الجيش بقيادة عبيدالله بن عثمان إنزال الهزيمة بملك ليون برمودو سنة 175هـ/791م.

فرنسا من جديد

بعد أن استتبت الأمور للأمير هشام داخل بلاد الأندلس وأصبح حاكم البلاد الأوحد لكل شبه جزيرة إيبرية، قرر أن يستعيد مشروع الفتوحات في جنوب فرنسا، فأرسل في عام 176هـ، قواته بقيادة حاجبه (درجة وظيفية مساوية للوزير في بلاد المشرق الإسلامي) عبدالملك بن عبدالواحد بن مغيث، إلى إقليم سبتمانيا واستطاع دخول عاصمته "أربونة"، لكنه لم يستطع التقدم أكثر من ذلك نظرا للمقاومة الشرسة التي أبداها الأمير لويس بن شارلمان، فلم يجد عبدالملك بدا من العودة إلى الأندلس ومعه عدد ضخم من الأسرى، والذين أرغموا على حمل أحجار ضخمة من أسوار "أربونة" حتى قرطبة، وأمر الأمير هشام بأن تستخدم في توسعة المسجد الكبير بقرطبة الذي بدأ والده عبدالرحمن الداخل في بنائه. هكذا استطاع الأمير هشام من خلال تحركاته داخل الأندلس وخارجها ترسيخ الأمن والاستقرار في ربوع الأندلس بالرغم مما وقع خلاله من الثورات المحلية، وكان هشام مؤهلا لإتمام النقلة في تاريخ الأندلس من مجتمع أدمن الثورة إلى مجتمع مستقر فيه مؤسسات دولة تعمل لترسيخ النظام، فقد كان هشام إلى جانب رفقه وتواضعه ومحبته للعلماء، حازما حريصا على توطيد النظام والعدالة، فقد كان يبعث إلى الولايات من يسأل عن سيرة عماله فيها فأحبه الناس لعدله وشبهوه بعمر بن عبدالعزيز. كذلك خطت الأندلس خطوة كبيرة في توحيد ثقافة المجتمع الأندلسي بمختلف أديانه وملله، عندما قرر اللغة العربية لغة للتدريس عند المسيحيين واليهود، وكان للقرار أثره في بث روح التفاهم بين مختلف طوائف المجتمع الأندلسي.

سيادة مذهب مالك

إلا أن أعمق تغيير عرفته الأندلس في عصر الأمير هشام، كان ولا شك سيادة مذهب الإمام مالك في ربوع الأندلس، على الرغم من وجود عدد من أتباع المذاهب الأخرى كالحنفية مثلا، إلا أن المذهب المالكي وأنصاره كتب لهم الغلبة في الأندلس منذ عصر هشام، ولم يأت هذا الأمر بين يوم وليلة فقد كان أهل الأندلس تبعا لأهل الشام في اتباع مذهب الإمام الأوزاعي (المتوفى سنة 157هـ/774م)، إلا أن هذا المذهب كان مصيره الانقراض في الشرق لأن دولة الخلافة العباسية ما كانت لتسمح لفقيه الشام (مقر أنصار الأمويين وأتباعهم) أن ينتصر على فقهاء العراق (مركز الخلافة العباسية). أما في بلاد الاندلس فقد ساعدت ظروف سياسية وثقافية في انتشار المذهب المالكي دون غيره، فكان طبيعيا أن لا يأخذ حكام بني أمية في الأندلس بمذهب أبي حنيفة باعتباره مذهب الخلافة العباسية، خصوصا أن الإمام مالك عرف بآرائه السياسية المناوئة لبني العباس. إلا أن العامل السياسي رغم أهميته لا يكفي لتفسير هذا الانتقال بين المذاهب، فعملية تغيير المذهب لا يمكن أن تتم في سلاسة بدون تأييد شعبي مهما أوتي الحاكم من قوة، وقد توافرت هذه الإرادة الشعبية بعد جهود مجموعة من أبرز فقهاء الأندلس من تلاميذ الإمام مالك بن أنس الذين أخذوا العلم عنه مباشرة في المدينة وعادوا حاملين علمه إلى بلاد الأندلس وكان على رأسهم الغازي بن قيس وزياد بن عبدالرحمن (شبطون)، وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى. فقد اضطلع هؤلاء العلماء بمهمة نشر مذهب الإمام مالك بعد عودتهم إلى بلاد الأندلس فوصفوا للناس فضل الإمام مالك وسعة علمه وجلال قدره وترفعه عن المناصب التي أغراه بها خلفاء العباسيين، وجلسوا في جوامع الأندلس يعلمون الناس أحكام الدين وفقا للمذهب المالكي، وقاموا برواية كتاب "الموطأ" للإمام مالك. وصار للفقهاء منذ عصر هشام نفوذ كبير في بلاد الأندلس، خصوصا أن هشام نفسه كان يقربهم إليه ولا يقرر أمرا من أمور الدولة إلا بعد أن يأخذ مشورتهم ورأيهم، محيطا إياهم بجميع مظاهر التوقير والاحترام، وهو أمر سيكون له أثره الخطير في تاريخ الأندلس وسيطبعه بطابع مميز ويترك أثره في تاريخها الاجتماعي والسياسي.

الحكم المرتضى

عندما تولى الحكم بن هشام، حكم البلاد خلفا لوالده متلقبا بـ"الأمير المرتضى"، كانت الأمور مهيأة له لاستكمال النهوض بالأندلس، لذلك ظهرت على يديه فخامة الملك بالأندلس وجدد عهد أسلافه بالمشرق ببذخه، ولم يترك فرصة إلا استغلها لتأكيد عظمته فقرب الشعراء ليذيعوا فضله ومكارمه، وقمع الثورات بعنف لم تعرفه الأندلس من قبل، ودخل في صدام مع فقهاء عصره للتأكيد على نزعته الفردية في الحكم، لكنه رغم هذا وذاك يظل واحدا من أهم أمراء بني أمية في الأندلس وأكثرهم إثارة للجدل. وفي عهد "الحكم" ظهر الصقالبة لأول مرة في بلاط قرطبة، بعد أن عهد إليهم "الحكم" بشؤون القصر، وهم في غالبهم من الجنس السلافي الذين تم جلبهم من بلاد أوروبا الشرقية، وشكلوا طبقة وصل عددها إلى خمسة آلاف شخص، وسيلعبون دورا مهما في الحياة السياسية للأندلس فيما بعد، كما أن بوادر الحياة الأدبية بدأت تظهر في الحكم، خصوصا أن الحكم نفسه كان شاعرا ذواقا للأدب والشعر. وما كادت أنباء وفاة الأمير هشام وولاية ابنه الحكم تصل إلى بلاد المغرب، حتى تحركت أطماع سليمان وعبدالله البلنسي ابني عبدالرحمن الداخل (عمي الحكم) في الإطاحة بالأمير الجديد، وتجربة حظهما للمرة الثانية بعد ان نفاهما أخوهما الأمير هشام بعد فشل عصيانهما ضده، إلى المغرب. حاول الأخوان الاتصال بعدد من القوى الخارجية للاستعانة بها في عمل حربي ضد الأمير الحكم، إلا أن محاولتهما فشلت. واستطاع سليمان جمع أنصاره وأتباعه وكان معظمهم من البربر، وعبر المضيق، وزحف باتجاه قرطبة، وكاد يدخلها لكنه فشل في اقتحامها، ثم انحرف نحو الغرب فتتبعه الحكم بقواته، واستطاع أن يقتله قرب "ماردة" عاصمة الغرب الأندلسي وانتهت ثورة العم على ابن أخيه في عام 184هـ/800م. أما عبدالله فقد تخفى في مدينة بلنسية فترة، وبعد أن أدرك عبث المقاومة، أعلن توبته وراسل الأمير الحكم في العفو عنه، فعفا عنه الامير وأصدر له أمانا خاصا، وذلك على أن يبقى في بلنسية كوال عليها، وتدعيما لهذا الوفاق السياسي زوج عبدالله البلنسي ابنه عبيد الله بأخت الأمير الحكم وظل بجواره في قصر قرطبة. في تلك الأثناء، كان شارلمان ملك فرنسا وألمانيا، يفكر جديا في مهاجمة بلاد الأندلس للقيام بعمل حاسم ضد الوجود الإسلامي في وقت وصل فيه شارلمان إلى أوج عظمته، لدرجة أن بابا روما اعترف به رسميا كإمبراطور روماني مقدس وحامي حمى المسيحية في العالم، ما صبغ تحركاته ضد المسلمين بصبغة حروب الدفاع عن الصليب. وتحركت قوات الأمير لويس بن شارلمان (وهو المعروف في المصادر الإسلامية بـ لذريق بن قارله) صوب برشلونة فحاصرها حتى سقطت في يده ثم فتك بأهلها، هنا شعر "الحكم" بخطورة الأمر فأرسل أخاه سارية على رأس جيش إلا أنه هزم هزيمة نكراء، فأرسل الحكم جيشا آخر عام187هـ لكنه فشل في استعادة المدينة، وبذلك نشأ ما سيعرف في التاريخ باسم الثغر القطلوني وعاصمته برشلونة الذي سيتحول فيما بعد إلى إمارة قطلونية التي ستندمج في مملكة أراجون القوية، وخسرت دولة الإسلام بالأندلس بفقد برشلونة أمنع ثغورها في شمالها الشرقي وارتدت إلى حدود الأندلس بعد أن كانت تسيطر على جنوب فرنسا كله.

ثورة الربض

إلا أن أكبر أزمات عصر الحكم لم تبدأ بعد، فالرجل الذي اعتقد أنه حقق بالسيف أمنه وسلامه، خسر الكثير بأفعاله ونزواته، ودخل في صراع شرس مع فقهاء العصر سيؤدي إلى نتائج وخيمة. كان الفقهاء الذين سبق أن حازوا مكانة فريدة في ظل حكم الأمير هشام بن الداخل، حتى أنه لم يكن يصدر أوامره في مختلف أمور الدولة إلا بعد الرجوع إليهم ، تراجعت مكانتهم بشدة عندما تولى الحكم إدارة البلاد، فقد أبعدهم عن مجالسه ومال إلى الانفراد بالرأي، وآثر مجالس الشعراء، وشعر الفقهاء بتصدع مركزهم، بعد أن قلص الأمير نفوذهم، وأبعدهم عن شؤون الحكم، في وقت بدأت تتكون طبقة من الفقهاء الأقوياء الذين اختمرت في أذهانهم رؤية عن طبيعة الحكم في الأندلس قوامها حاكم أموي يخضع لإملاءات الفقهاء، فجاءت سياسة الأمير الشاب ضربة قاضية لأمانيهم. وكان طبيعيا والحال هكذا، أن يصطدم "الحَكم" بالفقهاء، في وقت كانوا قد أصبحوا قوة يرهب جانبها في الأندلس، بعد أن استفادوا من دعم الحاكم السابق هشام، في نشر المذهب المالكي وتمكنوا من قلوب الناس، وأصبحت المناصب القضائية حكرا على فقهاء المالكية. وجد الفقهاء وطبقات الشعب في قرطبة أنفسهم في حيرة من تصرفات الأمير الحَكم، فهو مجاهد شجاع وقف في وجه أعداء الأندلس موقفا حازما، ومن ناحية أخرى هو ماجن يلهو كأمير فارغ البال، في وقت كان جيل المولدين (وهم الجيل الناتج عن التزاوج بين المسلمين والإسبان) يشكل الأغلبية من سكان قرطبة، بما لهم من طموح ونبوغ ورغبة في حياة كريمة ممزوجة بكره السلطة الحاكمة، فتلاقت طموحات الشعب باحتجاجات الفقهاء في كراهية الأمير رمز السلطة المطلقة. بدأ العامة في التحرش بالأمير الحكم وسبه ووصفه بـ"المخمور"، فيما بدأت المساجد تشهد جلسات نقاش بين الفقهاء لبيان الموقف الشرعي من تصرفات الأمير الأموي، وهل يجوز خلعه أم لا، وكان من مناصري الرأي بالعزل كل من يحيى بن يحيى الليثي، وهو شيخ المذهب المالكي في الأندلس حينذاك، والفقيه طالوت المعافري، مما أعطى سندا شرعيا للشعب في الجهر برفضه للأمير الحكم. ولم يلتزم "الحكم" الصمت إزاء محاولات الانتقاص من سلطته وهيبته، لذلك انتهز فرصة اعتراض بعض الغاضبين لموكبه في حي "الربض" (الضاحية الجنوبية لقرطبة) وتحرشهم به، فأمر بالقبض على عشرة من زعمائهم وصلبهم، ويذهب المؤرخ الأندلسي ابن القوطية إلى أن من تم إلقاء القبض عليهم كانوا جزءاً من مؤامرة دبرت بليل للتخلص من الحكم والانقضاض عليه وقتله. هنا شعر "الحكم" أن الأمور بدأت تخرج من زمامها، وأن عليه أن يتحرك قبل ألا ينفع الندم، فحصن قصر الإمارة في قرطبة وشحنه بالجنود واتخذ أهبته كاملة لمواجهة أي محاولة ثورية لمهاجمة قصر الإمارة، لم تتأخر الثورة كثيرا ففي يوم 13 رمضان سنة 202هـ/25 مارس 818م، اندلعت الثورة كنار في الهشيم وخرج العامة غاضبين على إثر مشادة بين حداد من العامة وجندي من حرس "الحكم"، حول إصلاح سيف الأخير، انتهت بقتل الجندي للحداد اعتمادا على سلطة سيده. وزحفت حشود العامة على قصر الإمارة في قرطبة يقودها أهل "الربض" الجنوبي، لذلك عرفت تلك الثورة بـ"هيج الربض"، فعبر الثائرون قنطرة قرطبة وحاصروا قصر الحكم وأتباعه في الجهة الشرقية، إلا أن قوات "الحكم" منعتهم من التقدم. وعلى الفور نفذ عبيدالله البلنسي، زوج أخت الحكم وابن عمه، والقائد عبدالكريم بن مغيث الرومي هجوما مضادا على الثوار شتت شملهم، وعبر الثوار القنطرة هربا، وفي إثرهم عبيدالله والرومي وجنودهما، اللذان أشعلا النار في بيوت الثوار لإلهائهم، فتشتت شمل الثائرين كل يسعى صوب بيته ينقذ ما يمكن إنقاذه، وهو خطأ دفع الثوار ثمنه سريعا بسيطرة قوات "الحكم" على قرطبة من جديد، وأمر بالإحاطة ببقايا الثوار ومهاجمتهم فورا فسقط العشرات قتلى، وطاردت قوات "الحكم" فلول الثوار، الذين فر معظمهم وعلى رأسهم الفقهاء، خارج قرطبة.

النفي

عندما انتصر "الحكم" واطمأن إلى أن قواته قضت على الثوار، شرع في إجراءات قمعية قاسية فأمر بداية بصلب 300 جثة من جثث الثوار ليكونوا عبرة لمن يعتبر، وبعد أن استباح الجند المدينة لمدة ثلاثة أيام، أمر "الحكم" بوقف القتال، لكنه أنزل عقابه على أهل الربض، باعتبارها مركز الثورة، فأمر بهدم بيوتهم، ثم أقدم "الحكم" على إصدار أمر عجيب في عقاب حاكم لشعبه، فقد قرر نفي أهل الربض وطردهم خارج الأندلس، مؤكدا أنه لا أمان لمن يتخلف منهم. فارتحل الربضيون مجبرين إلى خارج الأندلس فمنهم من لجأ إلى مدينة فاس عاصمة الأدارسة في المغرب الأقصى، وكونوا هناك حي عدوة الأندلسيين، فيما لجأ الشطر الأكبر من الربضيين إلى الإسكندرية بمصر، حيث استغلوا حالة الفوضى هناك واستطاعوا الاستقلال بالإسكندرية وتكوين إمارة مستقلة، قبل أن يطردهم والي مصر منها، حتى ألقوا بعصا التسيار في جزيرة كريت (المعروفة عند المؤرخين العرب باسم إقريطش) التابعة للامبراطورية البيزنطية واستطاعوا أن يطردوا الحاميات البيزنطية عام 212هـ/827م، وأن يكونوا هناك إمارة إسلامية مستقلة استطاعت البقاء على وجه الحياة لمدة قرن وثلث القرن حتى استعاد البيزنطيون الجزيرة مرة أخرى عام 350هـ/961م. هكذا انتهت ثورة الربض، التي كان ينقصها التنظيم والزعامة القوية، بنتائج كارثية على الثوار، فبعد عمليات القمع والتصفية عمد "الحكم" إلى سلاح التشهير في منشور رسمي وصف فيه الثوار بأنهم "فسقة أهل قرطبة وسفلتهم". كما استفاد من موهبته الشعرية لتخليد انتصاره على أهل الربض فقال:

رأيت صدوع الأرض بالسيف واقعا          وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا

فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة          أبادها مستنضى السيف دارعا

تنبيك أني لم أكن في قراعهم      بوان وما كنت بالسيف قارعا

وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم          فوافوا مناديا قدرت ومصارعا

فهذي بلادي إنني قد تركتها          مهادا ولم أترك عليها منازعا

استكانت البلاد إذاً لـ"الحكم" بقوة السيف لا بحب الناس، لكنه لم يعمر طويلا بعد انتصاره الكاسح على أهل الربض فقد لازمه المرض، واضطر أن يوكل إدارة مهام الدولة إلى ولي عهده وأكبر أبنائه عبدالرحمن، فيما أبدى ندمه وأسفه لما أوقعه بأهل الربض من التنكيل والإسراف في القمع، وتمنى لو لم يكن فعل ما فعله، ليرحل عن الدنيا في 26 من ذي الحجة سنة 206هـ/22 مايو سنة 822م. وإذا كانت الأندلس تختتم بذلك صفحة حزينة في تاريخها، فقد كانت على موعد مع حاكم من نوعية أخرى تقرب من الشعب وتقربوا منه، حتى دعيت سنوات حكمه بـ"أيام العروس".

back to top