هل يتم انتهاز هذه الفرصة النادرة؟!

نشر في 12-07-2012
آخر تحديث 12-07-2012 | 00:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري إنه زمن التوافق والتصالح. هذا ما تؤكده الأوضاع السياسية في مصر، أكبر بلد عربي، والبلد القائد والرائد في عموم المنطقة العربية.

صحيح أن "الإخوان" ظلوا لعقود يناضلون من أجل الاعتراف بهم، وبحقهم، لكن من حيث الواقعية السياسية التي ينبغي أن يتحلى بها "الإسلاميون"، هناك الجيش وهناك قرابة نصف المصريين الذين شاركوا في الانتخابات لهم موقف آخر، وهنالك نسبة كبيرة من الناخبين لم تشارك، وهنالك المجتمع الدولي بمكوناته المختلفة الذي يراقب الأوضاع المصرية ويراهن على نجاح الإسلاميين المعتدلين.

وإنها لفرصة تاريخية فاصلة إذا استطاع الطرفان: القوى المدنية، والقوى الدينية، تجنب المواجهة بينهما التي بدأت تلوح في الأفق، والتوافق حول صيغة مشتركة جامعة تجمع الطرفين، ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي والإسلامي كله، كما عبر عن ذلك المشير طنطاوي بإشارته إلى "وسطية" الإسلام.

ويبدو أن الرئيس المنتخب د. محمد مرسي ليس بعيداً في مواقفه وتصريحاته عن هذا التوجّه... ونرجو أن يبقى على هذا التوجه السليم، وأن يكون قائده ورمزه، فثارات الماضي ومعاركه تقول غير ذلك! وإذا أمكن التحرر من الماضي والنظر إلى المستقبل المشترك كان ذلك أمل الجميع.

لقد تم فرض "العلمانية السافرة" على المسلمين جميعاً بسبب قوة أوروبا العلمانية في ذلك الوقت، وأيضا بسبب ضعف السلاطين العثمانيين في عهودهم الأخيرة- وهو ما يمر به "الإسلاميون المتأدلجون" مرور الكرام- ويُنسب الأمر إلى "خيانة" العرب الذين تعرضت أوطانهم للتقسيم والتجزئة بين الدول الاستعمارية بسبب ضعف "القيادة" التي كانت تجمعهم وتحميهم، حيث كانت "المسألة الشرقية" مصدر اهتمام الغرب الاستعماري، وكل بلد غربي ينتظر حصته التي يريدها من تلك التركة العثمانية. وإذا كانت تركيا الجديدة قد عادت إلى عالمها الإسلامي، فعلى الرحب والسعة، ولكن علينا أن نفهم التاريخ كما وقع فعلاً، وهو أن أتاتورك قد فرض العلمانية، بدعم أوروبي، على مجتمع مسلم بالإكراه... وثمة إشارات في تركيا إلى هذه الظاهرة، وإن لم تكن "رسمية" وفي البلاد العربية كلها- إبان القوة الأوروبية- تم الأخذ المتدرج بالمفاهيم الأوروبية، وكان أمل "المصلحين" في الشرق اللحاق "بالتقدم" الأوروبي، كما كان طه حسين يعبّر عن ذلك في ثقافتنا العربية.

وبالنظر إلى الموقف الفكري الخاطئ الذي وقفته أيديولوجيات الخمسينيات من الإسلام، بالفصل التام بين الإسلام والحياة، وحصره في أضيق نطاق، اتخذت التيارات الفكرية الدينية المحدثة موقفاً أشد خطأً من ذلك الموقف بتأكيدها المغالي على الشمولية في الإسلام، بما يجعل منه نظاماً وفكراً شموليين هو براء منهما.

في الإسلام شمول سمح خاضع لموازين دقيقة في التمييز بين المتباينات، لكنه يأبى الشمولية ويحاربها، ونخطئ إذا وصمناه بالشمولية المطلقة لأن ذلك يجعل منه نظاماً منغلقاً أمام تجارب البشر التي استوعبها بكل رحابة صدر في عصور ازدهاره.

ليس في الإسلام شمولية اعتباطية لا تفرق بين مظهر وجوهر، وبين شهادة وغيب وبين دنيا وآخرة، "وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال"- سورة الرعد: 8-9. ونرى هذا التمييز بين مستويات الإيمان (والكفر) في صلب العقيدة الإسلامية كما حددها القرآن الكريم: "إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"- سورة النساء- الآية 48. ويعود القرآن الكريم ليؤكد هذا المعنى بالألفاظ ذاتها- سورة النساء- الآية 116.

فنلاحظ في هذا النص القرآني التمييز بين الشرك "وما دونه" من اعتقادات خاطئة، والتعبير "ما دون ذلك" تصريح بوجود مستويات لابد من التمييز بينها في صميم العقيدة، وإنه لا خلط في الإسلام بين مستوى وآخر: "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان "سورة الرحمن- الآيات 7-9.

ومن نافلة القول الإشارة إلى أن "الميزان" في هذه الآيات القرآنية، ليس ميزان البيع والشراء فحسب، إنما هو ميزان الوجود والتعادل الكوني كله.

وإذا كان الله سبحانه قد وضع لخلقه ميزاناً بمثل هذه الدقة والتعادل أفيجوز في شرعه أن يطغى دين على دولة، أو غيب على شهادة؟ أو إيمان على عقل؟ أليس من واجب المسلمين، قبل غيرهم، إقامة الميزان بالقسط في شؤون دنياهم وآخرتهم ودينهم وسياستهم؟

وتنبيه الرسول الكريم للمسلمين: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم؟ يمثل معلماً من المعالم الفاصلة في هذا الصدد، لا يمكن القفز عليه أو إسقاطه، بين دنيا وآخرة.

فإشارته عليه الصلاة والسلام إلى "دنياكم" تمييز لها عن الآخرة، التي هي من عالم الغيب، بينما الدنيا من عالم الشهادة، الذي "يشهده" الوعي الإنساني ويلم بأسسه. ومن المستغرب أن ينحصر ذلك، في فهم المسلمين، في "تأبير النخل"... ماذا عن "السياسة" التي تأتي في أولويات شؤون الدنيا؟

فالتمييز الإسلامي، قرآناً وسنة، بين الغيب والشهادة هو الآخر تمييز حاسم كالتمييز بين الدنيا والآخرة. وعندما وضع النبي "صحيفة المدينة" التي تمثل أول دستور في الإسلام (وكان القرآن يتنزل ولم "يزايد" عليه أحد بالقول "القرآن دستورنا!" فهو كتاب هداية لا إعلان سياسة) كان تمييزه واضحاً عليه السلام بين "المجتمع الديني" و"المجتمع السياسي" وذكر في "الصحيفة" عناصر من غير المسلمين اعتبرهم "أمة" مع المسلمين بالمعنى السياسي والتضامني، وليس الديني. ولو كان ذلك محرماً في الإسلام لما عمد إليه نبيه الكريم في أول تعاقد سياسي يضعه في تاريخ الإسلام.

إن "صحيفة المدينة" وثيقة إسلامية ونبوية مهمة تتعرض للتعتيم والإغفال لدى أوساط كثيرة لأنها تضمنت بوضوح هذا التمييز الحاسم بين "الديني" و"السياسي" في الإسلام على يد نبيه الكريم في أول تجاربه السياسية، ولن يضيرها أن اليهود قد أخلوا بها، فهذا شأنهم.

وكان صحابته على وعي تام بالتفريق بين صفته الدينية وصفته الدنيوية قل: "إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ"- سورة الكهف 110، ولا يتحرجون عن سؤاله عليه الصلاة والسلام عن انطباق أي الصفتين على أي موقف. وفي التخطيط الحربي كان سؤالهم واضحاً: "أهو الوحي يا رسول الله أم هي المكيدة والحرب"، فإن كان الأول انساقوا له طائعين وإن كان الثاني أدلوا بالرأي والمشورة.

وقد تقبل الإسلام تعايش أتباع الديانات السماوية في ظله، وذلك في أول تجربة من نوعها في تاريخ البشرية، كما أباح زواج المسلم من كتابية- كأم إبراهيم القبطية المصرية التي تزوجها نبي الإسلام نفسه وأنجب منها ولده الوحيد، وفي ذلك دلالة عظيمة: فحسب تشريع الإسلام يمكن للمسلم أن يأتمن على بيته وعرضه وولده مخالفة له في العقيدة، وفي ذلك إعلاء للرابطة الإنسانية إلى جانب رابطة العقيدة وإمكان للتعايش السمح بينهما تحت سقف واحد. وإذ أعلى الإسلام من الرابطة الإنسانية، فمن باب أولى الرابطة الوطنية التي هي المدخل والأساس، وعليها استندت دعوة الزعيم المصري الرائد سعد زغلول: "الدين لله والوطن للجميع" منذ أوائل القرن العشرين.

وفي إعلان للتعايش العقائدي الرائع الذي تشتد حاجة الإنسانية إليه في عصرنا المتباين والمتنوع يخاطب القرآن الكريم المسلمين في هذه الآية الكريمة الرائعة التي تنشر مظلتها الإنسانية السمحة، على البشرية جمعاء، "قولوا آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون "سورة البقرة- الآية: 136.

بمثل هذه التعاليم الإنسانية الرحبة انتشرت حضارة الإسلام بين مشرق ومغرب، وبين صين وأندلس، وأمكن أن يظهر في ظلها عقل ابن رشد، ونهج ابن خلدون، وأن يساهم فيها ابن ميمون اليهودي الأندلسي، وغيره من علماء النصارى الذين يثني عليهم القرآن الكريم أطيب الثناء.

هكذا، فمفهوم "الشمول" في الإسلام خاضع لهذا الميزان الدقيق الذي وضعه الله في خلقه "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"- سورة الزلزلة 7-8، وليس ثمة شمولية عشوائية في الإسلام بين مستوى وآخر من مستويات الاعتقاد والعبادة والسلوك والتنظيم، فكل شيء عنده بمقدار، فالجوهر جوهر والمظهر مظهر، والقشور قشور ولا خلط بين الجانبين، وفي ذلك مبحث جليل من مباحث القرآن الكريم وآياته لابد أن يخصص علماء الإسلام له بحثاً قائماً بذاته.

* أكاديمي ومفكر من البحرين

back to top