جوهر مقطر من ماء الروح - 1

نشر في 12-12-2012
آخر تحديث 12-12-2012 | 00:01
 زاهر الغافري انفتح باب المصعد، في البناية التي كان يسكن فيها، وإذا بجسد ممدد على المصعد، حين تم التعرف عليه، كان الشاعر قد مات. لقد توقف قلب توفيق صايغ في بلد عاش ودَرّس فيه: الولايات المتحدة الأميركية، قريباً من جامعة بيركلي، في كاليفورنيا. مات توفيق صايغ وترك «معلقته» ترن كأجراس أعياد الميلاد. كان ذلك تماماً في ليلة، 3/12/1971. وها هي ذكرى وفاته تمر بصمت، ويكون توفيق صايغ قد مر على رحيله أكثر من أربعين عاماً. ربما كان محمود شريح الأكثر وفاء تجاه هذا الشاعر، فراح هنا وهناك، وسافر إلى أكثر من بلد ليجمع الأوراق والوثائق والرسائل والملاحظات، لكتابة سيرته، التي صدرت عن رياض الريس للنشر منذ عام 1989. بعنوان «سيرة شاعر ومنفى». على أن توفيق صايغ نفسه كان قد قدم أحد الاكتشافات المضيئة التي كانت مجهولة في حياة جبران خليل جبران، في كتابه المهم (أضواء جديدة على جبران)، ولعل هذا الكتاب أفضل الكتب وأثمنها التي صدرت عن حياة جبران، وقدم جبران بطريقة لم تعهد من قبل، بحيث بدا صاحب كتاب (النبي) أكثر عمقاً وواقعية، على حد تعبير أنسي الحاج.

كان في شعر توفيق صايغ مسحة من الرسولية، العابقة بأطياف العشق المعذب، وكان بين شعره وحياته نوع من التنافذ السري، الحميم. شعر فيه حيرة وتمزق، وترحال دائم، وهو في ذلك كله، كان يفتح أبواباً ونوافذ، لهواء قصيدة النثر مبكراً دون تنظير ولا ادعاءات، كمن يقرأ قصيدة وهو يمشي، وقد تبدو قصيدة صايغ غريبة على العربية، وهي إضافة إلى ذلك تحتوي على أمثولات ورموز دينية: الحوت، الكركدن، الناصري، العذراء، الخ...

اكلما سمر الوحل قدمي

وشلني إلا يدين رفعتهما إليك

تسمرت وشللت يديك

وطالبتني بالانبثاق، بالارتقاء إليك؟

(ثلاثون قصيدة) و(القصيدة ك)، و(معلقة توفيق صايغ) ثم أخيراً (صلاة جماعة ثم فرد) التي (نشرت بعد وفاته). هي أعمال توفيق صايغ الشعرية. تبدو قليلة، أجل، كان الصايغ قد تعب لكنه في هذه الأعمال قدم لنا جوهراً مقطراً من ماء روحه، عن الألم والعذابات والخسران، ابتداء من خسارة فلسطين، وانتهاء بتشرده، في كمبردج، وبيركلي، ولندن، وبيروت، حتى وفاته التراجيدية.

في (القصيدة ك) يتجلى ألم توفيق صايغ، كذروة العشق، فالمحبوبة «كاي» والتي رمز إليها الشاعر بحرف ك، كانت قد دخلت إلى عالمه مثل العاصفة، وكان الشاعر، قد انفتح جرحه، إلى الأبد، وبدا بسبب الفاجعة كأنه يسقط من جبل. قصة حب كبيرة تنتهي بالضياع والتيه، والخسران، كُتبت بلغة جريئة، وبوح عال. ومن عرف توفيق صايغ وقتئذٍ، يعرف قصته المعقدة والشخصية والطويلة كما يشير رياض الريس في مقدمة الرسائل التي تبادلها مع الشاعر ونشرها في أحد أعداد الناقد.

عندما صدرت مجموعته «ثلاثون قصيدة»، احتفى بها كبار الشعراء من الجيل القديم، ميخائيل نعيمة وسعيد عقل، والجيل الأكثر حداثة كيوسف الخال، انسي الحاج، خليل حاوي جبرا إبراهيم جبرا وسلمى خضراء الجيوسي. لقد عرف توفيق صايغ كيف يفتح مساحة الحرية الشعرية، إلى مدى أوسع، كان الشعر عنده ينبثق مثل ينبوع، صاف، ليجري في المناطق، الأكثر عتمة.

تصاعدت من بحيرتك غيمة

هطلت من الأودية

وفوقك اتشحت بالبياض

واني بين «بلى» كنتها منذ

بطش الضوء بالعتمة الحنون

و»بلى» ستكونينها حين تعيدنا

معاً عتمة أحن

طوال عهد الضياء الضرير

كنت «لا»

back to top