بعد غياب العمالقة وحضور الأقزام... وداعاً أوروبا!

نشر في 05-12-2012
آخر تحديث 05-12-2012 | 00:01
حين اندلعت الأزمة الأخيرة منذ ثلاث سنوات، رحبتُ بها لأني ظننتُ أنها ستكون المحرك الذي يدفع أوروبا إلى تكامل مالي شامل وتكامل سياسي أوسع تمهيداً لتحقيق الطموح بإنشاء أوروبا موحّدة بمعنى الكلمة... لكني كنتُ مخطئاً!
 فوراين بوليسي لطالما كنتُ من محبي أوروبا. كان والدي يعمل في شركة بلجيكية وكنتُ طالباً في مدرسة ثانوية في سويسرا في عام 1958. بصفتي مسؤولاً في سلك الخدمات الخارجية، توليتُ في البداية منصب نائب القنصل في روتردام. عشتُ في بروكسل طوال خمس سنوات خلال السبعينيات بصفتي رئيس عمليات التسويق الأوروبية في شركة "سكوت بيبر" (Scott Paper). أصطحب عائلتي إلى أوروبا في مناسبات متكررة وأقوم بمجموعة واسعة من الأعمال والنشاطات هناك.

خلال التقلبات التي رافقت مفاوضات منتصف الليل، أُعجبتُ بتفاني ورؤية المحاورين الذين كانوا يؤسسون الاتحاد الأوروبي. كنتُ أؤمن بقيام أوروبا المتحدة ورحّبتُ بإنشاء اليورو كخطوة كبرى ضمن المشروع نفسه. حين اندلعت الأزمة الأخيرة منذ ثلاث سنوات، رحبتُ بها لأني ظننتُ أنها ستكون المحرك الذي يدفع أوروبا إلى تكامل مالي شامل وتكامل سياسي أوسع تمهيداً لتحقيق الطموح بإنشاء أوروبا موحّدة بمعنى الكلمة.

لكني كنتُ مخطئاً، وقد أدركتُ أن حلمي بنشوء أوروبا المتحدة (بما يشبه الولايات المتحدة) لا يعكس الحلم الأوروبي. وسط خيبة أمل كبرى، أدركتُ أخيراً عدم وجود أي حلم أوروبي لأن الأشخاص الذين نسميهم أوروبيين لا يريدون أن يكونوا أوروبيين.

أمضيتُ جزءاً من نهاية الأسبوع الماضي مع مجموعة من المفكرين البارزين من الدول الأوروبية المختلفة. كان الألمان مقتنعين بأن السبب الأساسي لأزمة الاتحاد الأوروبي هو الكسل والتبذير والتحرر المفرط وخداع الدول الهامشية المزعومة (إسبانيا، والبرتغال، وإيرلندا، وإيطاليا، واليونان، وربما فرنسا أيضاً)، ولا سيما اليونان والبرتغال وإسبانيا. شدد الألمان على أنهم يحرصون على دفع تكاليفهم الخاصة والإنفاق بحذر والادخار والاستثمار والإنتاج والاحتفاظ بالأموال الكافية والعملات القوية. لقد نسبوا نجاح ألمانيا الاقتصادي خلال العقد الماضي إلى تمسكهم بتلك المزايا. في المقابل، اعتبروا أن مشاكل الآخرين تنجم بشكل أساسي عن فشلهم في استيعاب حقيقة المزايا الألمانية. لكن هل أدركوا أن العجز في ميزانية الحكومة الإسبانية وزيادة ديونها كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي كان أقل من معدل ألمانيا؟ نعم، لقد أدركوا هذا الأمر بطريقة معينة ولكنهم لم يعترفوا بذلك. هل أدركوا أن البنوك الألمانية كانت أبرز جهة توفر القروض وتسهل "الفقاعات" العقارية التي سرعت اندلاع الأزمة بعد انهيارها؟ نعم، هم أدركوا ذلك أيضاً لكن من الناحية النظرية فقط. لم يقتنع أحد على ما يبدو بأن تلك العوامل كانت أبرز سبب للمشكلة أو أن الحفاظ على سلامة البنوك الألمانية كان يعوق تعافي الدول الهامشية. هل فهم أحد أن عملة اليورو لا قيمة كبيرة لها بنظر ألمانيا (مقارنةً بقيمة المارك الألماني) وأن نجاح قطاع التصدير الألماني ينجم عن ذلك الموقف؟ طبعاً لا! فقد اعتُبر النجاح الألماني نتيجة للاجتهاد والمزايا المالية.

اعتبر المفكرون أن الحل يكمن في متابعة تطبيق تدابير التقشف الصارمة في الدول الهامشية التي تعاني مشكلة الفوائض المالية والتجارية من خلال تخفيض الأجور والوظائف والتكاليف. لكن لم يعبّر أحد عن اهتمامه بإنشاء اتحاد مصرفي أوروبي أو تطبيق أي نوع آخر من التدابير بما يضمن استعمال الأموال الألمانية لدعم الالتزامات في أنحاء أوروبا.

لقد اعتمدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هذه اللعبة خلال نهاية الأسبوع في ما يخص تقديم المساعدة إلى اليونان من أجل تمكينها من تجنب التقصير في دفع الديون. أصبح الوضع اليوناني أشبه بحلقة مفرغة. أدت سياسة التقشف إلى انكماش مريع في الاقتصاد اليوناني، ما يعني أن الدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بدأ يرتفع سريعاً

رغم القروض والتدابير الأخرى التي تم اتخاذها من أجل إعادة إحياء الاقتصاد اليوناني. يزداد الوضع اليوناني سوءاً. كان جميع المشاركين في اجتماع نهاية الأسبوع الذي شمل رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، يعلمون أن التدابير الجزئية التي تم الاتفاق عليها لن تكون كافية. كذلك، يدرك الجميع ضرورة إعفاء اليونان من بعض الديون خلال المرحلة المقبلة. لكن لا تسمح السياسة الألمانية لميركل بمواجهة هذا الواقع في الوقت الراهن، وهي ليست من الزعماء الذين يحاولون توجيه الرأي العام بدل السير وراءه (مثل هلموت كول).

لا تتعلق المشكلة بسلوك الألمان حصراً. لطالما كان موقف بريطانيا متقلباً من أوروبا أيضاً. في الفترة الراهنة، يتّسم موقفها ببرود غير مسبوق. كل ما يريده رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وحكومته الائتلافية الحاكمة هو البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي طالما تبقى بريطانيا مستقلة بالكامل من دون أن تضطر إلى دفع أي تكاليف أو تقبل أي قوانين مغايرة. يراهن البعض على أن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي خلال سنتين تقريباً.

في ما يخص الفرنسيين (إلى جانب الألمان، هم كانوا من أبرز الجهات التي شجعت على إنشاء الاتحاد الأوروبي تاريخياً)، يبدو أنهم يميلون الآن إلى فعل كل ما يلزم لتحويل فرنسا إلى بلد "هامشي" بمعنى الكلمة. أمضى الرئيس الفرنسي الجديد، فرانسوا هولاند، نهاية الأسبوع وهو يخبر لاكشمي ميتال، المدير التنفيذي في شركة "أرسيلور ميتال ستيل" (Arcelor-Mittal Steel)، بأن الحكومة الفرنسية ستعمد إلى تأميم المنشأة كلها وستحاول بيعها إلى طرف آخر إذا لم يتراجع المدير التنفيذي عن الخطط التي تقضي بإغلاق فرعين قديمين وغير فاعلين كانا جزءاً من منشأة لتصنيع الفولاذ في فلورانج، ما يحتّم تسريح 600 عامل فرنسي. من ناحية معينة، لم يكن هذا الموقف متماشياً مع البرنامج الدعائي الذي ترعاه الحكومة الفرنسية حديثاً لجذب الاستثمارات إلى فرنسا تحت شعار: "قولوا نعم لفرنسا".

أظن أن لاكشمي ميتال سيقول "لا" لفرنسا.

لكن الأمر المؤسف بالفعل هو اختفاء العمالقة الذين بنوا الاتحاد الأوروبي ليحل مكانهم أقزام يقولون "لا" لأوروبا.

Clyde Prestowitz

back to top