الأمة المستهدفة أبداً!

نشر في 02-04-2012
آخر تحديث 02-04-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري منذ سنوات عدة علق قارئ على إحدى مقالاتي حول مرض كراهية أميركا بقوله: "نحن أمة مستهدفة لا شك في ذلك بالمؤامرات التي تحاك لعرقلة تقدمنا ولم شملنا وليس في ذلك جدال"، ما ذكره القارئ الفاضل يشاركه فيه الكثيرون نخباً وجماهير ويتردد صداه على الساحة المصرية، فقبل 10 أشهر نشرت الصحف أن القوات المسلحة عثرت على وثائق لتقسيم مصر إلى 3 دويلات: دولة نوبية في الجنوب، وأخرى مسيحية في الصعيد، وثالثة إسلامية في الشرق، في إطار خطة أوسع لتقسيم الدول العربية، كما حصل في السودان، وما يحصل في العراق وليبيا واليمن، بهدف إضعاف مصر أمام إسرائيل التي تشكل مخلب القط في مخطط الشرق الأوسط الجديد. ثم تكررت دعاوى استهداف مصر ورافقتها ضجة إعلامية حول منظمات المجتمع المدني التي اتهمتها السلطات المصرية بتلقي التمويل الأجنبي لخدمة أجندة تستهدف تقسيم مصر، وقيل إنه عثر على خريطة لمصر يظهر فيها لونان لمحافظات الوجه البحري ولونان للوجه القبلي، مما يدل على مخطط أميركي لتقسيم مصر إلى أربع دويلات، ونفخ الإعلام في القضية وروج لنظريات الاستهداف، كما روج من قبل لأحداث بورسعيد وهيج الجماهير، وكانت مسألة المساعدات الأميركية هي الهدف الحقيقي من كل هذا التضخيم الإعلامي، حيث صرح مسؤولون بأن مصر لن تركع لأميركا أبداً، ثم هدأت الأمور فجأة لتسفر عن لا شيء، مما دفع سعد إبراهيم إلى وصف المهيجين بـ"مهاويس مخطط تقسيم مصر".

دعاوى الاستهداف وأحاديث التآمر والغزو الفكري معزوفة قديمة قدم احتكاك العالم العربي بالغرب والأطياف السياسية كافة: القومي واليساري والإسلامي ومعارضة وسلطة استغلت الدعاوى لأهدافها السياسية؛ السلطات استثمرتها لتبرير قصورها وفشلها في تنمية المجتمعات بتحميل العدو الخارجي وزر الفساد والاستبداد وتردي الأوضاع؛ والمعارضة وظفتها لتعبئة الجماهير ضد الأنظمة القائمة عبر تصويرها صنيعة للغرب، ومازالت صيحات الاستهداف ومقولات الغزو والتآمر حاكمة ومستحكمة لعقول وأفئدة كثيرة لدرجة الترويج لنظرية أن أميركا وأوروبا هما وراء ثورات الربيع العربي، وقد خططتا لها بدءاً بالهجمة الأميركية على العراق وإسقاط صدام، مروراً بالضغط على دول المنطقة لتبني مشاريع الإصلاح طوعاً أو كرهاً.

وأذكر أن مجلة "روزا اليوسف" نشرت في مايو 2004 ما سمته "بدء تنفيذ مؤامرة الشرق الأوسط الكبير" وقالت إنه سيتم تنفيذها تحت رقابة "الناتو"، والعصا لمن عصى، ومن أهم بنودها: مراقبة الانتخابات دولياً، وتمكين النساء، وتطوير الصحافة والإعلام، ومساءلة الحكومات، وتبني إجراءات الشفافية ومكافحة الفساد، وزيادة تمويل المنظمات غير الحكومية الخاصة بحقوق الإنسان، وإصلاح التعليم، وضبط العمل الخيري... إلخ.

وهكذا لو ذهبنا نتتبع سيناريوهات الاستهداف والتآمر لا ننتهي، فكل صغيرة وكبيرة في حياة العرب وراءها استهداف وتآمر، فما يجري في سورية مؤامرة على القومية والإسلام لخدمة إسرائيل كما يقول نبيه بري وسليم الحص! ويصرح المرشد العام السابق لـ"الإخوان" بأننا لن نترشح للرئاسة لأننا "مستهدفون من أميركا والغرب والعلمانيين"، وأصدرت رابطة العالم الإسلامي منذ سنوات بياناً تؤكد فيه أن العالم الإسلامي يواجه غزواً يستهدف هويته وثقافته واقتصاده باسم العلمانية والعولمة والنظام العالمي الجديد! مع أن الغزو الأخطر جاء من الداخل لا الخارج!

"أمتنا مستهدفة"... مقولة لها أساس تاريخي راسخ في نفسية العربية وصيحة لها جاذبيتها الجماهيرية، لكن منطلقها "كراهية نقد الذات"، وهدفها "تبرئة الذات" من مسؤولية التخلف عبر تحميلها الآخر الخارجي، وهي حيلة نفسية يلجأ إليها العاجز أمام مواجهة التحديات خداعاً للذات، دعونا نطرح تساؤلات: ما الذي يدفع العالم إلى استهدافنا؟! وما مصلحتهم في تقسيمنا ومنع نهضتنا؟! لماذا لم يستهدفوا اليابان ونمور آسيا وأخيراً الصين وهي دول حققت تقدماً اقتصادياً نافست الأسياد المستعمرين وغزتهم في عقر دارهم؟! الإنسان لا يستهدف إلا لأمرين: إما أنه يمتلك كنزاً ثميناً يثير أطماع الآخرين فيه أو أنه صاحب قوة تشكل تهديداً للآخرين فيستهدفونه اتقاءً لشره، أما كنزنا الثمين فالآخر هو الذي اكتشفه واستخرجه وصيّره بفضل تقنياته سلعة ثمينة تحكمها سوق العرض والطلب، فما حاجته إلى استهدافنا وهي سلعة متداولة لم نمنعها من أحد؟!

أما القوة التي تشكل تهديداً فنحن لا نملكها بل نحن الذين نسعى إلى طلب الحماية من الآخر ونرجو عونه لتحريرنا من بغي بعضنا على بعض، كما نلتمس تدخله لتخليصنا من طغاتنا! هل كنا قادرين على استعادة الكويت وإنقاذ مسلمي البوسنة وإزالة نظامي صدام والقذافي لولا الآخر؟! الآن ما محصلة الشحن والترويج لمقولة الأمة المستهدفة؟ 1) أصبح خطابنا الديني غير متصالح مع العالم فمازلنا الأمة الوحيدة التي تدعو على من نتصورهم أعداء الدين بالهلاك عبر خطب الجمعة، ولو استجاب المولى لما نعم الخطيب بشربة ماء باردة! خطابنا الديني انفعالي وغاضب يستبطن أعداء أزليين في الداخل والخارج. 2) كان من ثمرات هذا الشحن والتعبئة في المدارس والمساجد، زرع مشاعر الكراهية في نفوس الناشئة فلا عجب أن تحولوا إلى قنابل مدمرة ثأراً لكرامة الأمة المستهدفة، وما "القاعدة" إلا أبرز تجليات هذا الخطاب المشحون. 3) كان من جراء اصطناع الأعداء المتوهمين أن أصبح المزاج العام للجماهير في صف قوى الماضي ظناً أنها القوة القادرة على مواجهة الأعداء. 4) التهرب عن تحمل المسؤولية عبر اتهام الآخر وتغييب منهج "نقد الذات" وهو سر تقدم الأمم، لنبقى أسرى حصون التخلف، لا نصنع تقدماً كما فعل غيرنا وكان وضعه أسوأ من وضعنا، بقينا أسرى الميراث الاستعماري في نظرتنا إلى العالم ولم نتمكن من الإفلات من قبضة أفكار التآمر وهواجس الغزو وصيحات الاستهداف غير قادرين على تنشيط آلية المراجعة والنقد والاعتراف بمسؤوليتنا عن أوضاعنا طبقاً للمنهج القرآني "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، والذي يجعلنا مسؤولين عمّا نشكو منه لا الآخر "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم"، "وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، "قل هو من عند أنفسكم".

لا توجد في العلاقات الدولية ملائكة أو شياطين ولا عداوات دائمة أو صداقات دائمة، هناك مصالح دائمة، وقوى تتنافس وتتصارع ولها طموحاتها ومطامعها، ونحن جزء من هذه القوى المتنافسة والطامحة وجزء من هذا العالم الواسع وتسري علينا قوانينه ولنا أدوارنا الإقليمية في الساحة، فنحن شركاء لا ضحايا في هذا النظام العالمي، ولذلك علينا الكف عن التظاهر بمظهر الضحية المستهدفة، ونحن أصحاب حضارة عظيمة وتاريخ عريق ودين عظيم، وعلينا أن نثق بأنفسنا وثوابتنا وديننا، كما أن علينا التحرر من هيمنة أفكار ومقولات التآمر العالمي على الإسلام والمسلمين على عقولنا ومنابرنا ومناهجنا، وعلينا الكف عن ترويجها فذلك لا يصنع مستقبل أمة.

ويجب أن نفهم أن الإسلام ليس موضع تآمر أو استهداف، علينا التخلص من مرض الكراهية كما تخلصت الشعوب الأخرى، إن اصطناع عدو بمنزلة أميركا وأوروبا يحرمنا من الإفادة منهما وسيدفع شبابنا ثمناً غالياً لها، علينا منع الخطباء من تحويل منابرنا الدينية إلى منابر تحريض وكراهية، هناك صراعات وأطماع لكن يحكمها منطق المصالح لا منطق التآمر، وهذا أمر مشروع وصفه القرآن الكريم بـ"التدافع"، فمن حق كل أمة أن تضع من الخطط ما يحقق سلامتها أو قوتها أو طموحها كما يقول المفكر السعودي راشد المبارك، أن أخطط لمصالحي لا يعني أني أريد بك شراً، ترى ما الذي يفعله بك من يغزوك ثقافياً؟! إنه يقدم لك كتاباً أو صحيفة أو فيلماً أو فكراً أو رأياً وأنت صاحب القرار في أن تقبل أو ترفض، فلا مبرر للفزع من الغزو، ولا مسوغ للكراهية واصطناع أعداء وعسكرة المجتمع ولعن العولمة والخوف على الهوية، لقد كان الأجدر بالغرب أن يخاف من غزونا لهم عبر المراكز الإسلامية والمساجد والدعاة ونشر الإسلام في عقر دارهم، لكنهم لا يفزعون كفزعنا ولا يزرعون الكراهية في نفوس ناشئتهم ولا يروجون لمقولة الأمة المستهدفة كما نفعل.

* كاتب قطري

back to top