صراع مصر العقيم في سبيل الديمقراطية

نشر في 17-12-2012
آخر تحديث 17-12-2012 | 00:01
لا يعلم المصريون حقيقة ميزان القوى القائم في بلدهم، هذا البلد منقسم جداً ويتنافس فيه إصلاحيون وطامحون إلى الديمقراطية مع الإسلاميين والجيش الذي لا يزال نافذاً. من يمثّل مصر فعلاً؟ محمد مرسي أم محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي عاد إلى بلده بعد إقامة طويلة في الخارج؟
 وول ستريت جورنال وفق جميع التوقعات ستتم المصادقة على مسودة الدستور المصري الجديد التي أعدّتها سريعاً جمعية يسيطر عليها الإسلاميون في الشهر الماضي، والتي طُرَحت للاستفتاء يوم السبت من هذا الأسبوع ومن الأسبوع المقبل. حين يحدث ذلك، سيكسب الرئيس محمد مرسي الشرعية وتأييد الناخبين.

من الشائع أن نسمع المحتجين في ميدان التحرير وهم يقولون إنهم لم يظنوا للحظة أن تحركاتهم ستنتهي بوصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة. يتحدث الثوار عن خطف الثورة أو سرقتها أو خيانتها.

لم تكن أيام الاحتجاج الثمانية عشر التي بلغت ذروتها مع إسقاط حسني مبارك في 11 فبراير 2011 تهدف إلى إيصال "الإخوان المسلمين" إلى السلطة، لكن يقع اللوم جزئياً على خصوم "الإخوان" (مثل اليساريين والعلمانيين والشخصيات السياسية التي اختلفت في ما بينها). بعد أن استيقظت تلك الجماعات من سباتها غداة حكم استبدادي طويل، استعدت لخوض سباق رئاسي انتهى بوجوب الاختيار بين مرشح "الإخوان" وفلول نظام مبارك.

على صعيد آخر، لم يكن كافياً أن يتوقع المحتجون من "الإخوان" أن يعتبروا فوزهم بفارق ضئيل في الانتخابات الرئاسية ضمانة للحذر وضبط النفس، فلا مفر من أن تعمد هذه الحركة إلى توسيع صلاحياتها لأنها نشأت وسط ظروف غامضة، ونشطت في الظل طوال ثمانية عقود، ودخلت السجن وواجهت أعمال التعذيب تحت حكم مختلف الأنظمة السياسية.

لم يعرف "الإخوان" يوماً تقليداً ثورياً حقيقياً: بدءاً من تأسيس الجماعة في أواخر العشرينيات، كانت سياستها ترتكز أساساً على مبدأ الانتهازية. إنه الإرث الذي خلّفه مؤسسها حسن البنا الذي عقد الصفقات مع النظام الملكي بينما كان يحرّض الناس ضده. كان برنامجه يرتكز على القرآن والسلاح بحسب قوله.

اغتيل البنا في عام 1949 حين كان يبلغ 43 عاماً، لكن بقي مناصروه أوفياء لرؤيته ومقاربته. حين أطاح الجيش بالنظام الملكي في عام 1952، ظن "الإخوان" أن زمن ازدهارهم قد حان، لكنّ الحكم العسكري الذي فرضه جمال عبدالناصر كان يخطط لأمور أخرى. حُظرت جماعة "الإخوان" وأُعدم عدد من المنتسبين إليها بينما سُجن الآلاف منهم في معسكرات الاعتقال.

انعكست حملة القمع التي أطلقها عبدالناصر على مسار "الإخوان". خلال الانتفاضة ضد حسني مبارك، استعمل "الإخوان" أسلوب المراوغة، فلم يشاركوا في البداية في احتجاجات ميدان التحرير وتقربوا من الجيش. ثم تعهدوا بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية قبل أن ينكثوا بذلك الوعد، كما أنهم قدّموا ضمانات على أنهم لن يطرحوا لائحة كاملة من المرشحين للمقاعد البرلمانية، لكن سرعان ما ذهبت تلك الضمانات أدراج الرياح. وصل "الإخوان" إلى الرئاسة بالحظ، وذلك بسبب خطأ الليبراليين الذين طرحوا ثلاثة مرشحين خلال الجولة الأولى وقسّموا صفوفهم.

أمام هذا الوضع، تحركت السلطة القضائية فحلّت البرلمان الذي منح "الإخوان" والسلفيين أغلبية المقاعد. كانت السلطة القضائية تمثّل أمرين في آن: معقل البيروقراطية العلمانية وبقايا دكتاتورية مبارك. فرض "الإخوان" سيطرتهم ولكنهم حملوا معهم رواسب الشك، فاشتبهوا في أن النخب العلمانية كانت مصممة على خطف إنجازاتهم.

أصدر مرسي "الإعلان الدستوري" في نهاية شهر نوفمبر لجعل قراراته بمعزل عن الإشراف القضائي، وقد عكس ذلك الإعلان مخاوف من أن تكون السلطة القضائية على وشك حل الجمعية المكلّفة صياغة دستور جديد. لم تكن هذه الخطوة الاستباقية مخطئة بالكامل. فقد انسحب الأقباط والعلمانيون والنساء من تلك الجمعية وتركوا "الإخوان" وحلفاءهم يعدّون مسودة الدستور بحسب رؤيتهم الخاصة. أدرك مرسي الفرصة التي تقدمت له وعرض تسوية على الشعب المصري: هو سيلغي الأحكام التي تمنحه صلاحيات خارج نطاق القضاء ولكنه يتمسك بالاستفتاء على الدستور.

لا يعلم المصريون حقيقة ميزان القوى القائم في بلدهم، هذا البلد منقسم جداً ويتنافس فيه إصلاحيون وطامحون إلى الديمقراطية مع الإسلاميين والجيش الذي لا يزال نافذاً. من يمثّل مصر فعلاً؟ محمد مرسي أم محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي عاد إلى بلده بعد إقامة طويلة في الخارج؟

لا شك أن هؤلاء الشابات اللواتي تحدّين التقاليد والمحظورات والمضايقات الجنسية للتعبير عن مواقفهن في مناسبات متكررة في ميدان التحرير هنّ بنات مصر المخلصات. لكن ينطبق الأمر نفسه على النساء في جماعة "الإخوان المسلمين". هل ستخضع مصر للشريعة الإسلامية أم قانون نابليون الذي هيمن على ثقافتها القضائية؟ يتوقع البعض من الاقتراع أن يضمن معالجة الشرخ العميق في ثقافة شديدة الانقسام.

ليس الوقت مناسباً للتذمر من ترسّخ الحكم الدكتاتوري. ما نشهده في مصر لا يعكس فشل الديمقراطية، بل إنه نتيجة متأخرة للحكم الاستبدادي الذي جرّد المصريين من حس الفاعلية السياسية وأنشأهم على ثقافة المؤامرة واتهام الغير.

حين يتهم "الإخوان المسلمون" المتظاهرين ضد مرسي بأنهم عملاء للسفارات الخارجية، هم يطبقون بذلك قواعد حسني مبارك. طوال ثلاثة عقود، رسّخ الدكتاتور المخلوع هذا النوع من الأفكار السياسية في بلده، فكان إقدام مرسي على منح نفسه صلاحيات مطلقة بعد أن لعب دور الوساطة لعقد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" سلوكاً تقليدياً في عهد مبارك: الاعتدال في السياسة الخارجية للتستر على القمع المحلي.

في الوقت نفسه، يشيد الرئيس باراك أوباما بنزعة مرسي البراغماتية وخلفيته الهندسية ودقة رؤيته العلمية؛ هكذا كان التعاطي مع مبارك أيضاً. لم يستوعب المسؤولون الغربيون يوماً تلك اللعبة المزدوجة التي مارسها الدكتاتور المصري حين كان ينشر ثقافة معادية للولايات المتحدة والعصرنة (مع مستوى عالٍ من حملات معاداة السامية) بينما كان يدعي أنه حليفهم في مصر.

يشرف الجيش على هذه الأزمة الكبرى وهو يُعتبر الحَكم في الحياة السياسية، ففي شهر أغسطس، أقال مرسي كبار قادة الجيش ومنح مناصبهم إلى جيل جديد من الضباط، لكن لحسن الحظ، لا يشبه هذا الجيش قوات بشار الأسد الوحشية الطائفية في سورية، بل يقوده ضباط يحرصون على الظهور بصورة "الدرع الحامي للبلد".

في هذا الصدد، دعا وزير الدفاع الجديد وقائد القوات المسلحة، الجنرال عبدالفتاح السيسي، أتباع مرسي وخصومه العلمانيين إلى لقاء "للتواصل الإنساني والالتحام الوطني في حب مصر". بعيداً عن هذه الناحية العاطفية، حدد الجيش المعايير التي يجب اتباعها: هو سيصر على امتيازاته واستقلاليته تزامناً مع تحذير مرسي وخصومه من وجود حدود لصبره.

الدول لا تعيش داخل الدساتير، بل إن العادات والتقاليد الموروثة هي التي ترسم معالم حياة الأمم، فلا تتواجه الحشود المضادة في شوارع مصر بسبب وثيقة تصالحية (تنص إحدى موادها على أن "الجميع يملكون حق ممارسة الرياضة"!)، بل تدور معركة كبيرة على هذه الأرض العريقة لكنها مثقلة بالأعباء. قد تكون هذه المعركة فصلاً آخر من صراع مصر العقيم لإيجاد مخرج لمظاهر الحرمان والاستبداد التي طبعتها لفترة طويلة.

فؤاد عجمي Fouad ajami

back to top