تحرّروا من الشعور الدائم بالذنب
تحمل كلمة «ذنب» معنَيين مختلفَين. من المنظور القانوني، يُشار إلى الذنب على أنه حالة تُحدّد وفق حكم يطلقه القاضي على سلوك الفرد. أمّا علم النفس فيحدّد الذنب على أنه إحساس سيئ يعتري المرء. في هذا السياق، لا بدّ من التمييز بين الشعور بالذنب الواعي والشعور بالذنب غير الواعي.الشعور بالذنب ظاهرة منتشرة في مجتمعات العالم أجمع. لا شك في أنه إحساس قاسٍ، ومؤلم وصعب الاحتمال. يُعتَبَر هذا الشعور سليماً بل صحياً عندما نشعر بالندم على خطأ ارتكبناه فيشكّل بداية الطريق إلى الصواب. فالإحساس بالذنب هو الخطوة الأولى نحو التوبة، والرجوع عن الخطأ فضيلة. لكنّ هذا الشعور قد يتحول إلى حالة مرضية عندما يجتاح كياننا ويغزو حياتنا مضفياً عليها طعماً مريراً، ما يقودنا إلى حالة من الوهن والعجز.
سيطرة على الآخرينبحسب تحليلات بعض خبراء علم النفس، الشعور بالذنب قد يمنحنا انطباعاً بأننا نملك سلطةً مطلقةً. بكلام آخر، يعني هذا الشعور الإحساس بالسيطرة على العالم والآخرين. عملياً، يمكننا إسقاط عبء مشاعر الذنب على الآخرين. تشمل هذه المرحلة تشويه سمعة الآخر وقدحه وذمّه. بالتالي، نشعر بأننا نرمي الخطأ على غيرنا ونبرّر تصرفاتنا التي تنمّ عن الشعور بالذنب في عقلنا اللاواعي. من خلال تشويهنا صورة الآخر المثالية، نحمّل الآخر مسؤولية الخطأ لأننا نجد ضرورةً في جعله يعاني ما نعانيه.يساعدنا الشعور بالذنب على تجنّب الإدراك المؤلم لعجزنا حين نواجه مواقف عصيبة في الحياة. لا يمكن إذاً استئصال هذا الإحساس عن طريق مكافحة الشعور بالذنب بكل بساطة لأن هذا الشعور تحديداً يمنحنا إحساساً بالحماية والأمان. لكن سرعان ما يزول الإحساس من تلقاء ذاته في اللحظة التي ندرك فيها عجزنا عن السيطرة على الآخرين.بعد التخلّص من هذا العبء، سنتمكن من التمييز بين مسؤولياتنا ومسؤولية الآخرين في علاقاتنا الإنسانية، فنكتشف حينئذٍ أننا لسنا مسؤولين عن راحتهم. يُعزى السبب إلى كوننا نشعر بالمسؤولية المفرطة إزاء الآخر، لذا يتعزز شعورنا بالذنب عندما تتخذ الأمور منحىً سلبياً. تأكدوا من أنكم ستشعرون بحرية تامة عندما تتخلصون أخيراً من أعباء لا علاقة لكم بها!أحد مظاهر العنفقد يتمثّل الشعور بالذنب في الميل إلى «الصدق الجارح». بيد أن استغلال الشعور بالذنب قد يدلّ على وجود رغبة دفينة في جرح الآخرين، والإساءة إليهم وإخضاعهم. فمهما كانت دوافعنا وغاياتنا، يبقى الهدف الأبرز من الذنب تعذيب الآخر. ما الذي يبرّر إذاً اللجوء إلى هذه الوسيلة؟ في الحقيقة، غالباً ما نتمسك بأحاسيس الذنب عندما نشعر بتهديدٍ ما، وبعدم تقدير أو حب الآخرين لنا. أو ربما قد نشعر بضعف بسبب خلل معين في علاقاتنا أو تجاربنا السابقة. في هذه الحالة، نلجأ إلى الإحساس بالذنب علنا نستعيد سيطرتنا على الوضع. لكن للأسف الشديد، لن نحصل على مرادنا عن طريق الشعور بالذنب أو بث هذا الشعور في محيطنا. فعوضاً عن توطيد العلاقات القائمة، قد تؤدي مهاجمة الآخرين وإلقاء اللوم عليهم إلى توسيع المسافة بيننا وبينهم.تصرّفات «مذنبة»إليكم بعض الأمثلة عن تصرّفات صادرة عن امرأة يطاردها الشعور بالذنب:- تختار شريكاً أو عملاً لا يناسبها، فقط بهدف معاقبة نفسها. فإذا صادفت سعادةً ما في دربها تحوّلها إلى حزن.- توهن نفسها باللوم، تحمّل نفسها مسؤولية صراعات أو أخطاء المقرّبين منها. لا تتقبل كلمة عطف أو مجاملة.- إذا كان أهلها قد أفهموها بأن الحياة ما هي سوى واجبات وتضحيات، تشعر بالذنب كلّما وجدت لذةً في شيء ما.- تشعر أحياناً بأنها عاجزة عن التحرّك والتصرّف ما دام حمل الذنب ثقيلاً.- تشعر بعدم الأمان إزاء الآخرين، لديها انطباع بأنهم لا يحبونها. - لا ترفض أي طلب ولا تقول «لا» لأحد. هذا السلوك ينمّ عن شعور دفين بالذنب.نظرية فرويد الكلاسيكيةتطرّق سيغموند فرويد إلى موضوع الشعور بالذنب عبر دراسة العصاب الوسواسي، كاشفاً النقاب عن ثورة «الأنا» ضدّ الانتقادات التي توهن «الأنا المثالية». ينشأ هذا الشعور في العقل اللاواعي، ولا يمكن مقاربته إلا عن طريق تحليل الأفكار الهوسية حيث يتجاهل المرء الرغبات اللاواعية التي تولّدها. في نظر فرويد، يشكّل الشعور بالذنب عائقاً أمام نجاح العلاج النفسي. بحسب رأيه، لا تتوافر وسيلة مباشرة لمحاربته. بل يكفي نقل هذا الشعور من اللاوعي إلى الوعي.تستند نظرية التحليل النفسي الفرويدية على أسس ثلاثة: الجنس، والطفولة والكبت. وقد أطلق مفهوم «عقدة أوديب» لتجسيد تعلّق الصبي بأمه، و{عقدة الكترتا» لتعلق البنت بأبيها. وقد طبّق نظرياته هذه لتفسير كل ما يدور في حياة الإنسان، بما في ذلك الشعور بالذنب.- عقدة أوديب وجريمة قتل الأب: بغضّ النظر إذا كان القتل قد حدث فعلاً عند الإنسان البدائي أو أنه بقي مجرّد رغبة في قتله، فإن النتيجة هي واحدة، وهي الشعور بالذنب والندم وتأنيب الضمير. فإنّ تماهي الأولاد مع سلطة الأب ليس سوى تعويض عن شعورهم بالذنب.- الحضارة التي تكبح الغرائز العدوانية.- النضوج قبل الأوان وحالة الكرب الممتدة عند الطفل.- قلق «الأنا» تجاه «الأنا العليا» (السلطة الأبوية الداخلية). فيكون هناك تصرف مزدوج من السادية والمازوشية: تستمتع «الأنا» بالعذاب و{الأنا العليا» تستمتع بالمعاقبة.بالنسبة إلى فرويد، الشعور بالذنب إحساس متعارض ومتباين. فمن جهة، قد يكون مَرَضياً وناجماً عن كبت. من جهة أخرى، قد يكون سليماً وصحياً وأخلاقياً إذا كان بمثابة صحو الضمير. لكن كما ذكرنا سابقاً، لا توجد، على حدّ رأي فرويد أي وسيلة مباشرة لمحاربة الشعور بالذنب.الإدراكقد لا نشعر بأننا اقترفنا خطأً. لكن حين ندرك شيئاً فشيئاً حجم المعاناة التي سببناها لأنفسنا ولغيرنا، يترسّخ في أعماق ذاتنا إحساس عميق بالذنب. ولا يلبث يزداد يوماً بعد يوم إلى حدّ أن استئصاله يغدو أمراً متعذّراً. فوحده الشخص الذي تسبّب بهذه الأحساسيس قادر على محوها. وهذا الشخص هو أنت! للتحرّر من هذا العبء، لا بدّ من إدراك سلسلة من الوقائع المتلاحقة. أحياناً، يحصل ذلك وسط صعوبات مادية كثيرة أو مشاكل صحية خطيرة. عندئذٍ، علينا أن نفهم أن ذلك إنذار جدي كي نغير سلوكنا ونعيد استكشاف قيمتنا الفعلية. تذكروا ألا أحد يفقد قيمته الحقيقية، إنما ينساها بكل بساطة...راحة الضميرعبارة شائعة سمعناها مراراً وتكراراً. هل تعمّقت يوماً بمعناها الحقيقي؟ عندئذٍ، ستفهم أنك لن تريح ضميرك إلا بعدما تكون قد فهمت الطريق الخاطئ الذي سلكته وأدركت جميع الأخطاء التي اقترفتها. والأهم من ذلك كلّه هو ألا تشعر بالذنب بسبب تلك الأخطاء. تذكر أنه ما من أحد معصوم من الخطأ. وهذا الوضع ليس خطيراً بحد ذاته، بل الأخطر هو التركيز على هذه الأخطاء وتغذيتها على الدوام إذ إنها قد تسمّم حياتك وتقلّل من تقديرك لذاتك.علاجأخيراً، ينصح الخبراء باتباع مقاربة معاكسة تقضي ببثّ الكثير من مشاعر الحب للتعامل مع الأخطاء التي ارتكبناها وإقناع أنفسنا بما يلي: «لقد تصرّفتُ بهذه الطريقة، لكنني فعلتُ ذلك بحسب مستوى الوعي الذي تحليتُ به في تلك اللحظة. أما الآن، فقد تغيّر مستوى الوعي لدي، لذلك، سأغيّر سلوكي وسأوضح الجوانب المبهمة في داخلي. أريد أن أسامح نفسي بالكامل على كل ما فعلته حتى الآن لأن بعض الأمور قد خرج عن سيطرتي. كان بإمكاني تغيير مسار الأمور، إلا أنني عجزتُ عن ذلك آنذاك. الآن وقد أدركتُ سبب تصرّفاتي السابقة، أسامح نفسي بالكامل عن أخطائي وهفواتي كافة وأسامح نفسي لأنني لم أمنح نفسي وأحبّائي الحب الكافي».