طوائف الأندلس

نشر في 13-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 13-08-2012 | 00:01
الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (10)

ملوك الطوائف يتقاسمون

الأندلس... والإسبان يتحدون

كان سقوط الخلافة إيذانا بانفراط عقد دولة الأندلس، فقد سيطرت الفوضى على كل ربوع البلاد، واستقلت المدن تباعا لا تعترف بسلطان قرطبة عليها، وجاء قرار إلغاء الخلافة من جانب زعماء قرطبة، بمثابة الكارثة المحققة على وحدة البلاد، فقد كانت الخلافة رمز العقد الذي تنتظم فيه جميع مدن الأندلس، ومع اختفائها وجد عمال النواحي والأطراف أنفسهم فجأة بدون خليفة، ومضطرين إلى أن يتولوا بأنفسهم شؤون ولايتهم، وهكذا تحولوا من مجرد ولاة تابعين لسلطة الخلافة لأمراء على مدن وإمارات، وطفت على سطح الأندلس دول الطوائف، تعبيرا عن تعدد الولاءات السياسية.

ويرى عدد من المؤرخين أن ظاهرة دول الطوائف كانت تعبيرا عن الخصوصية الأندلسية في أوجها، والمنطلق لهذه الخصوصية هو البيئة، بما تمتاز به من تقسيم جغرافي إلى أقاليم إدارية منفصلة جغرافيا، وأسفرت هذه الخصوصية عن تعددية سياسية، وهو ما نشاهده من ميول حادة إلى الاستقلال، وتحقيق الاستقلال ذاته في الحقبة ما بعد الأموية، ما أسفر في النهاية عن نتائج فادحة على مسار الإسلام في الأندلس.

وبدأ عصر دول الطوائف في مطلع القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، وانتهى بسقوط معظم تلك القوى في نهاية القرن ذاته في يد المرابطين حكام المغرب أو الإسبان، نصارى الشمال.

وأسفر قيام الإمارات المستقلة عن تكريس الطائفية السياسية، وتوزعت الأندلس إلى أكثر من عشرين إمارة، نظمت في ثلاث مجموعات من الممالك عربية وصقلبية وبربرية، على رأس الفريق العربي أمراء إشبيلية من بني عباد، ومؤسس دولتهم القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي.

وكان على رأس دول البربر دولة بني ذي النون في طليطلة، بينما كانت بلنسية أحد أهم مراكز الصقالبة، وكانت التحالفات بين تلك الإمارات لا تقف عند حد العرق، بل كانت حركية تتميز بمرونتها، فقد تجد العربي والبربري ضد تحالف صقلبي–عربي، والعكس، في معارك متواصلة وتحالفات متبادلة، لم تأت إلا بالخراب والتعاسة لأهالي الأندلس في القرى والمدن.

والأخطر أن حكام تلك الإمارات استعانوا بملوك الإسبان ضد إخوانهم في الدين، فكان بداية لتدخل نصارى الشمال في دولة الأندلس، وبدأ منذ تلك الفترة الانقلاب العميق في ميزان القوى داخل شبه الجزيرة الإيبرية لصالح القوى الإسبانية التي تصدرتها وقتذاك مملكة قشتالة.

دعاية جوفاء

عوض ملوك الطوائف ضياع الهيبة العسكرية باتخاذ ألقاب فخمة لم يتخذها إلا الخلفاء العظام، فظهرت ألقاب المعتمد والمعتضد والمأمون والمنصور والمعتمد، وهي ألقاب لم تخف ضعف شأنهم، ولدينا مثال واضح في الشاعر ابن رشيق القيرواني (المتوفى سنة 463هـ/1071م) والذي قال:

مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي اختيالا صولة الأسد

ولم يكن ضعف هؤلاء الملوك خافيا على أحد، ودعايتهم الجوفاء لم تقنع أحدا، لذلك حاولوا تقليد الخلفاء في بناء القصور والعمائر الفخمة التي تخلد ذكراهم، كقصر الجعفرية في سرقسطة الذي بناه المقتدر بن هود، وضم بهوا ذهبيا دعي بمجلس الذهب، وفيه يقول:

قصر السرور ومجلس الذهب بكما بلغت نهاية الأدب

لو لم يحز ملكي خلافكما كانت لدي كفاية الطلب

وأحاط كل أمير بلاط ملكه بالشعراء، يتغنون بفضائله كذبا، وينسجون له من خيال الأشعار أمجادا من الوهم والخيال، ولا غرابة إذن أن ينتج عصر ملوك الطوائف أعظم شعراء الأندلس والأدباء والمؤرخين مقارنة بمختلف الفترات التي مرت على دولة الإسلام في الأندلس، فإلى عصر الطوائف ينتمي القسم الأكبر من تراث الشعر الأندلسي، فأدباء كبار كالأديب والجغرافي البكري والمؤرخ ابن حيان والمفكر ابن حزم وحافظ العصر ابن عبدالبر كلهم نبغوا في ظل ملوك الطوائف، وشعراء كابن اللبانة وابن عمار والأمير المعتمد بن عباد ظهروا جميعا في هذا العصر، الذي شهد أيضا قصة غرام أعظم شعراء الأندلس إطلاقا ابن زيدون بولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي، وهي من أشهر قصص الغرام في الأدب العربي.

كانت تلك الأميرة على درجة رفيعة من العلم والثقافة والشعر والفصاحة، وقع في غرامها ابن زيدون وأحبها حبا ملك عليه قلبه وعقله، وعندما هجرته فترة وبدأت تميل لابن عبدون ألف ابن زيدون رسالته الهزلية في السخرية من حبيب ولادة الجديد، وفي ولادة ألقى أروع أشعاره ومنها قصيدته النونية الشهيرة التي يقول مطلعها:

أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لُقيانا تجافينا

ألا وقد حان صبح البين صبحنا حين، فقام بنا للحين ناعينا

من مبلغ المبلسينا بانتزاحهم حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا

وبيت القصيد قوله:

نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

كانت حياة الأدب والشعر من حسنات عصر دول الطوائف، وكانت هناك بعض الخصال السيئة سادت بين المجتمع الأندلسي على الجانب الآخر، فقد سادت حياة الترف الشديد المدن الأندلسية، وتفاخر أهالي الأندلس بإظهار التنعم بملذات الحياة، في وقت لم يظهر ملوك الأندلسيين أي بادرة أمام تقدم الإمارات الإسبانية على حساب دول الأندلس، بل دخلوا في معارك طاحنة ضد بعضهم من أجل أطماع شخصية ومكاسب مادية.

المصيبة الحقيقية كانت في استعانة ملوك الطوائف بملوك الإسبان النصارى في حروبهم الداخلية، فعلى سبيل المثال تحالف المأمون بن ذي النون ملك طليطلة مع غرسية ملك نبرة ضد المقتدر بن هود ملك سرقسطة، الذي لم يجد إلا أن يتحالف مع فرذلند ملك ليون، في الحرب التي وقعت بين الملكين المسلمين في سنوات 435-438هـ/1043-1046م.

وبلغ الحال بسبب طلب المساعدة من الممالك الإسبانية أن دفع بعض ملوك المسلمين جزية منتظمة لملوك ليون وقشتالة، بعد أن كان ملوك الإسبان معتادين منذ الفتح الإسلامي على دفع الجزية لسادة قرطبة، وصار التنازل عن المدن والقلاع لملوك قشتالة سنة معتادة لدى ملوك الطوائف، فقد كانوا ملوكا ضعافا لا قدرة لهم على نزال الممالك الإسبانية، وغلبت عليهم الأهواء الشخصية إلى أبعد الحدود ونسوا في غمارها دينهم ووطنهم.

وكان مسلك ملوك الطوائف مستهجنا من قبل معاصريهم، وشن عليهم مثقفو الأندلس هجوما حادا، وتزعم هذا التيار الناقد المحذر من ضياع الأندلس كله نتيجة لهذه السياسة الرعناء من قبل الملوك، كل من ابن حيان وابن حزم، الأول بهجومه في تأريخه للخلافة الأموية على حكام عصره بتعداد فضائل أمراء وخلفاء الأمويين ومقارنتها بنواقص ملوك العصر.

بينما شن ابن حزم هجوما ساحقا على ملوك أهل زمانه قائلا: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم، ورجالهم يحملونهم أسرى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس، لعنهم الله جميعا وسلط عليهم سيفاً من سيوفه".

ويعد بنو عباد ملوك إشبيلية أشهر ملوك عصر الطوائف إطلاقا، فقد كانت مملكتهم هي الأضخم، وبلاطهم الأفخم، وجيشهم هو الأكبر بين ملوك الطوائف، كما كان اعتناء ملوك إشبيلية بالأدب والشعر سببا في تخليد مآثر تلك الدولة.

وتأسست دولة بني عباد على خلفية حالة الفوضى في عاصمة البلاد قرطبة، وقدم أهل الرياسة في إشبيلية القاضي أبو إسماعيل بن محمد بن عباد اللخمي، لتولي أمور المدينة في سنة 413هـ، فأصبح والي المدينة وقاضيها، وهنا أخذ يعمل لتوطيد الحكم لنفسه وولده من بعده، فعمل على تكوين فرق من الجيش تابعة له، وعمل على إخضاع إقليم غرب الأندلس الذي يعد المجال الحيوي لإشبيلية.

وحين حانت منيته سنة 433هـ/1042م، كان قد وضع أسس مملكة بني عباد، وأورث الحكم لابنه عباد بن إسماعيل الذي تلقب بالمعتضد، الذي استطاع الانطلاق بإشبيلية إلى صدارة دول الطوائف، واستطاع أن يقضي على سائر إمارات غرب الأندلس الصغيرة وكذلك الإمارات البربرية في الجنوب ولم يمت في سنة 461هـ/ 1069م، إلا وإشبيلية هي العاصمة السياسية والثقافية لبلاد الأندلس.

وعندما تولى المعتمد بن عباد حكم إشبيلية خلفا لوالده المعتضد، وعمل على ترسيخ نفوذه السياسي في بلاد الأندلس، وتحويل بلاطه إلى ملتقى الأدباء والشعراء أمثال شاعره ووزيره الأول أبوبكر بن عمار وشاعر العصر ابن زيدون وابن اللبانة وابن حمديس الصقلي، فكان بلاطه ببذخه وشعرائه لا يقل عن بلاط بغداد أو القاهرة.

وبلغت دولة بني عباد ذروتها في عهد المعتمد، وتمتد في قلب النصف الجنوبي من شبه الجزيرة، من غرب ولاية تدمر شرقا، حتى المحيط الأطلسي غربا، وبعد ان اسقط العديد من الإمارات البربرية الضعيفة واستولى على معظم الأملاك الجنوبية لإمارة طليطلة، إضافة إلى دخوله قرطبة في شعبان 462هـ/1070م، وإنهائه دولة بني جهور، بعد أن دامت 44 عاما، كانت نموذجا للدولة الديمقراطية خصوصا في بدايتها، وكان دخول قرطبة في ملك دولة إشبيلية تعبيرا عن تغير الواقع السياسي في الأندلس وانتقال الثقل السياسي من قرطبة عاصمة البلاد التقليدية إلى إشبيلية عاصمة الأندلس في عصر دول الطوائف.

التقدم الإسباني

مشروعات إشبيلية لتوحيد الأندلس تحت زعامتها واجهتها عقبة كئود، تحطمت على صخرتها جهود بني عباد، تمثلت في التغيرات العميقة التي جرت في الممالك الإسبانية النصرانية في الشمال، فقد كانت إمارات ليون ونافار تتقاسم المساحة الغالبة من أراضي الإسبان، واستغلت تلك الإمارات الحرب الأهلية في قرطبة للعمل على تقوية شؤونها.

وجاء التفسخ السياسي لدول الطوائف في وقت كانت ممالك الإسبان تمضي بخطوات قوية على طريق الوحدة والقوة، فقد توحدت مملكتا نافار وقشتالة نتيجة للمصاهرات بين أبناء الأسرتين الحاكمتين، وأصبح سانشو الكبير ملك نافار وقشتالة، واكتسح مملكة ليون ليضمها إلى دولته، وأعلن نفسه ملكا للإسبان.

وبعد وفاته سنة 426هـ/ 1035م تولى الحكم في مملكة قشتالة وليون الموحدة فرناندو الأول، الذي يعد عصره انقلابا في الأوضاع السياسية في شبه الجزيرة الايبيرية، فميزان القوى انقلب لصالح الممالك الإسبانية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي، فبعد أن كان الملوك الإسبان يحجون إلى قرطبة طلبا للعفو والسماح من خلفاء الأمويين، دار الزمن دورته ولم تعد زيارات سفراء ملك ليون وقشتالة إلا لطلب الجزية المفروضة على ملوك الطوائف في الأندلس.

وأصبح ملك ليون وقشتالة فرناندو الأول صاحب الكلمة العليا في الجزيرة كلها، يتصارع ملوك الطوائف المسلمون على طلب وده يدفعون له الجزية تارة ويتنازلون عن قلاعهم ومدنهم له تارة أخرى، طلبا لنجدته ومعونته، وعندما هاجم أراضي مملكة بطليوس كان يدشن بداية حرب الاسترداد ضد المسلمين، مستفيدا من الرياح الصليبية التي بدأت تهب من روما الباباوية.

ووضع فرناندو سياسة واضحة للقضاء على القوى الإسلامية، مستفيدا من التناقضات الداخلية بينها، من خلال إضعاف ملوك الطوائف والاستفادة من ضعفهم لإخضاعهم لسلطانه وسيطرته، إما بإقطاع أغنى أقاليمهم أو إرهاقهم من خلال دفع جزية مضاعفة، وبدأ بإعلان نفسه إمبراطورا للإسبان في سنة 447هـ/ 1056م، وهي خطوة تذكرنا بإعلان عبدالرحمن الناصر نفسه خليفة قبل ما يزيد على قرن، فالهدف واحد في الحالتين، وهو تأكيد أن كلا منهما أكبر حاكم عصره في الجزيرة.

بدأ الملك فرناندو مخططاته بمهاجمة إمارة بطليوس، التي تشغل الشمال الغربي للأندلس، وتضم حاليا الأجزاء الشمالية والوسطى من دولة البرتغال، وفي سنة 449هـ/1057م هاجمت قوات فرناندو الأول بازو ولاميجو وأسقطهما بعد مقاومة شديدة من أهالي المدينتين.

وأفرط في استخدام العنف ضد المسلمين، في وقت لم يحرك المظفر بن الأفطس حاكم إمارة بطليوس ساكنا أمام سقوط المدينتين، اللتين تعتبران من أملاكه، لإدراكه استحالة الدفاع عنهما، راضيا بسياسة الأمر الواقع مكتفيا بالسلامة.

لكن فرناندو كان يعلم ضعف ابن الأفطس جيدا، لذلك ما ان أنهى عملياته الحربية بنجاح، أرسل يطالب ابن الأفطس بالجزية، مهددا اياه بالتوغل في بلاده، لكن الأخير رفض، فالمال كان أحب إليه من دماء المسلمين، ولم يعبأ بهجوم فرناندو على أراضي مملكته يعيث فسادا، ويتحصن في قلاعه خوفا من لقاء جيش فرناندو الذي قدر بعشرة آلاف جندي.

ووجد فرناندو أن ابن الأفطس أضعف كثيرا مما توقع، وأن ملوك الطوائف تجاهلوه، ولم يمد أحد له يدا ضد هجمة الإسبان، لذلك رأى أن التوغل في بلاد المسلمين وتحقيق نصر كبير فرصة يمكن اقتناصها، فقرر توجيه هجوم سريع على مدينة شنترين أحد أهم مدن الغرب الأندلسي.

إلا أن ابن الأفطس كان يعلم علم اليقين أن سقوط شنترين يعني سقوط مملكته كلها، لذلك أسرع بتحصينها، وعرض على الإسبان الصلح، ووافقوا عليه نظير دفع ابن الأفطس جزية سنوية مقدارها خمسة آلاف دينار، وأمست إمارة بطليوس المسلمة مجرد تابع ذليل لمملكة ليون وقشتالة، وتأكد بذلك لفرناندو أن القوى الإسلامية في الأندلس لم تعد لديها من القوى والشجاعة ما يجعلها تناهضه.

بدأ شعور القوة يتسلل شيئا فشيئا إلى نفس فرناندو، وبدأ يتحرك على أساس أنه العاهل الأكبر للبلاد، فهاجم مملكة طليطلة، خصوصا أن مملكة ليون كانت تحالفت مع مملكة سرقسطة وسادتها من بني هود ضد بني ذي النون سادة طليطلة.

لذلك هاجم فرناندو في عام 454هـ/1062م، حدود مملكة طليطلة الشمالية الشرقية، المتاخمة لمملكته، وحقق انتصارات أولية وسط تراجع إسلامي، ولم يجد المأمون بن ذي النون إلا أن يهرول حاملا معه ذهبه وفضته ليلقيها تحت أقدام فرناندو ليشتري سلامته بماء وجهه، معلنا دخوله في طاعة فرناندو متعهدا بدفع الجزية.

سقوط «قلمرية»

لم تعد هناك من ممالك يخشى فرناندو بأسها إلا مملكة بني عباد في إشبيلية، كبرى إمارات الطوائف، فهاجمها في سنة 455هـ، وأحرق قراها وخرب أراضيها، فلم يجد المعتضد بن عباد إلا أن يقدم الهدايا معلنا الطاعة والولاء، طلبا للسلم.

ووجدها فرناندو فرصة لتأكيد زعامته الدينية لنصارى إسبانيا فطلب من المعتضد نقل رفات القديسة خوستا، المدفونة في إشبيلية، التي استشهدت في عصر الاستشهاد الكبير أيام الأمبراطور الروماني دقلديانوس (حكم في الفترة 284-305م)، ووافق المعتضد فورا، فلم يكن يفوت الفرصة لتعضيد علاقته بفرناندو، وعلى الفور نقلت رفات القديسة خوستا في احتفال ضخم من إشبيلية إلى ليون.

وهكذا وطد فرناندو الأول سلطانه على ملوك الطوائف، وأصبح عصا الرحى في السياسة الأندلسية، وساعده على ذلك التغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي جرت في المعسكرين الإسلامي والمسيحي على حد سواء، فقد كانت بلاد الإسبان في الشمال بلاداً جدباء يغلب عليها الطبيعة الجبلية فعاشوا في فقر مدقع وبؤس مطلق.

ويثير ثراء المسلمين في الأندلس حسدهم، فتربوا على الشقاء وأعمال النهب والسلب على حساب المسلمين، وعندما كانت الأندلس قوية استطاعت التعامل مع هذه العمليات وفرضت سطوتها، لكن الآن مع تفتت الجبهة الداخلية وتشرذم الأندلس استطاعت هذه الهجمات أن تحرز النجاح. وتطورت هذه العمليات مع انهيار وحدة الأندلس إلى عمليات توسع، رغبة في الاستفادة من خيرات الأراضي الإسلامية، وهو التحول الذي قاده فرناندو الأول، الذي يعد حقيقة مؤسس حرب الاسترداد (لاريكو نكستا بالإسبانية) التي سيقودها الإسبان باطراد منذ هذه الفترة.

وواصل فرناندو سياسته التوسعية، ووضع نصب عينيه الاستيلاء على مدينة قلمرية (أو قلنبرية)، من أعمال بطليوس، التي تتحكم في طرق التجارة والمواصلات بين مدن غرب الأندلس، وهي واقعة في الأراضي التي فتحها المنصور بن أبي عامر قبل 75 عاما، فهجم فرناندو بجيوشه على المدينة، ضاربا عليها الحصار في سنة 456هـ/1064م.

ولعبت الخيانة دورها في سقوط المدينة، فقد اتفق والي المدينة المدعو "راندة"، على تسليم المدينة مقابل خروجه سالما هو وأهله، وغادر المدينة من أبوابها الخلفية سرا، تاركا المدينة لمصيرها المحتوم، في ظل عجز حاكم البلاد المظفر بن الأفطس عن مد يد العون للمدينة، فسقطت بعد حصار دام ستة أشهر. شرهت نفس فرناندو لفتح المدن الإسلامية وضمها لسلطانه، بعد نجاحه في دخول قلمرية، مستغلا حالة الضعف البين لأمراء الطوائف، فقرر مهاجمة مدينة بلنسية، بجيوشه في العام التالي لفتح قلمرية، لكن محاولاته للاستيلاء على بلنسية تحطمت أمام أسوارها الحصينة وأبوابها المنيعة، وقيادة والي المدينة عبدالملك بن عبدالعزيز المنصور لجهود الدفاع عن المدينة.

ولما صعب الفتح على فرناندو لجأ إلى الخديعة والحيلة والمكيدة، ففكر في حيلة شبيهة بحيلة حصان طروادة، فتظاهر بالانسحاب والهزيمة، وأمر بفض الحصار عن المدينة، وترك غنائم الجيش وذخائره أمام أسوار المدينة، فما كان من أهالي المدينة الفرحين بالنصر إلا الخروج من المدينة لمتابعة فلول جيش فرناندو، الذي كر على أهالي بلنسية وشتت جمعهم وقتل فيهم كيف شاء. وسقطت المدينة في يد فرناندو، ونصب مجلسه الخاص في قلب المدينة، لكنه لم يهنأ كثيرا بانتصاره فقد بدأت الشيخوخة تعرف طريقها إليه وبدأ المرض يعرف طريقه للجسد الذي أنهكته الحروب والمعارك، فأمر بالانسحاب من المدينة والعودة فورا إلى ليون، وهناك تُوفي في سنة 457هـ/1065م. ولم تكن وفاة فرناندو الأول إلا إعلان نهاية حقبة طويلة امتازت بالمهانة والذل للأندلس، نقلت فيها مراكز صنع القرار من قرطبة وإشبيلية وسرقسطة إلى ليون، ولم يمت إلا بعد أن أصبح عاهل شبه جزيرة إيبيرية، بعد أن أخضع ملوك الإسبان والأندلس لسلطته، وانتظم ملوك الطوائف في حبل ذله، يدفعون الجزية وهم صاغرون ويشترون السلامة بالكرامة.

back to top