الجريدة | تقرير اقتصادي: الحكومة تتبنى تقارير الإصلاح الاقتصادي... وتعمل بعكسها!
تشهد الكويت منذ التسعينيات تشكيلاً للجان أو طلباً لدراساتٍ كلها يصب في النهاية في خانة التوصيات بضرورة إصلاح الوضع المالي وأهمية توفير فرص عمل في القطاع الخاص، وغير ذلك مما لا يجد في النهاية مَن يحوله إلى واقع ملموس.
*دراسة صندوق النقد لن تحرك شيئاً... فالمسألة مسألة قرار*تقرير "الاستشارية" الاقتصادية وافقت عليه الحكومة وأرسلت ميزانية تناقض توصياته
لم يحمل التقرير الذي أصدره صندوق النقد الدولي امس عن الاقتصاد الكويتي، رغم اهميته، أي جديد، خصوصا بشأن التحذير من المستقبل، اذ بات مكررا جدا الحديث الدوري من مؤسسات مالية واقتصادية محلية وعالمية عن مخاطر استمرار الكويت في الوضع الحالي للإنفاق غير المسؤول، مما سيؤدي خلال سنوات قريبة الى ازمة اقتصادية لا تحمد عقباها.أمس أصدر صندوق النقد الدولي تقريره المحذر من مستقبل الاقتصاد الكويتي، وقبله أصدرت مؤسسات مالية عدة كمؤسسة التمويل الدولية وتقرير توني بلير ومؤسسات مثل ستاندرد آند بورز وموديز وبنوك عالمية مثل سيتي غروب وhsbc، تقارير كلها تصب في خانة التحذير من استمرار الوضع الحالي، فضلاً عن تقارير عالية المصداقية كتقارير شركة الشال للاستشارات التي ما انفكت منذ سنوات تطلق التحذير تلو الآخر عن الاختلالات الهيكلية في الميزانية والاقتصاد الكويتي.بل إن اللجنة الاستشارية الاقتصادية التي شكلها سمو امير البلاد قد نصت بشكل صريح على ان الاستمرار بشكل الإنفاق الحالي مستحيل، وأن الكويت ستبدأ في تسجيل العجز اعتباراً من عام 2020 بواقع 3.5 مليارات دينار في السنوات الأولى، على أن يبلغ العجز التراكمي لعام 2030 نحو 174 مليار دينار... الطريف في الأمر ان الحكومة التي صارت تردد نفس هذه التحذيرات هي ذاتها التي تعيد اعتماد الكوادر المالية للموظفين وتجهز ميزانية لعام 2012- 2013 هي نسخة من الميزانيات التي سبق ان انتقدتها وبإنفاق أكبر!فالكويت منذ ما بعد عام 1990، وهي تشهد تشكيلاً للجان أو طلباً لدراسات كلها تصب في النهاية في خانة التوصيات بضرورة إصلاح الوضع المالي والتقليل من الإنفاق الاستهلاكي لمصلحة الإنفاق الرأسمالي، وأهمية توفير فرص عمل في القطاع الخاص من خلال خلق بيئة استثمار سليمة، وغير ذلك من التوصيات التي لا تجد في النهاية من يحولها الى واقع ملموس، خصوصا ان الحكومات المتعاقبة لم تلجأ إلى خيار المغامرة باتخاذ إجراءات اقتصادية صحيحة غير شعبية، خشية ان يترتب على هذا الأمر معركة مع النواب في مجلس الأمة.أرقام مرعبةإن الأرقام الاقتصادية المستقبلية، والتي هي معروفة مع حلولها للحكومة قبل غيرها، مرعبة الى حد كبير، فالكويت بدأت في مواجهة ازمة قبول جامعي لا نعرف ان كانت جامعة جابر ستحلها ام انها ستكون كجامعة الشدادية المتوقع انجازها عام 2020، الامر الذي سيجعلنا نعيش مجددا أزمة قبول جامعي تتراوح بين 3 و5 آلاف طالب مستوفين الشروط، ولكن ليس لديهم مقاعد في الجامعة.كذلك الحكومة التي يطلب منها اليوم أن توفر نحو 20 ألف وظيفة سنوياً عليها بعد أقل من 18 عاماً ان توفر 74 ألف وظيفة سنويا، وهو أمر شبه مستحيل في ظل استمرار الوضع الحالي المتعلق بتضخم الجهاز الإداري للدولة ومحدودية القطاع الخاص.فالفئة العمرية ما بين 4 و24 عاماً والتي تشكل نحو 43.5 في المئة من المواطنين الكويتيين يجب ألا تكون عبئا على الدولة، بل على العكس يجب أن تكون محفزاً أساسياً للنمو الاقتصادي، فكلما زادت نسبة الشباب ارتفعت توقعات الإنتاج في أي بلد، إلا أننا في الكويت نتعامل مع الشباب ككرة ثلج، فاليوم نعاني الشباب كعامل ضغط على التعليم، وغداً على سوق العمل، وبعد غد على الرعاية السكنية ومختلف الخدمات الأخرى.وعندما يقفز سعر التعادل في الميزانية في غضون 7 سنوات من 36 دولاراً للبرميل إلى 82 دولاراً دون أن يواكبه إنجاز للمشاريع أو تطوير للخدمات أو توفر فرص عمل وبيئة للاستثمار، فهذا دليل حي على سوء صرف الدولة لأموالها وتبذيرها على سياسات شراء الولاءات أكثر من إنفاقها على مشاريع ذات فائدة للاقتصاد الكويتي.هذه المشكلات الخدمية وغيرها ليست وليدة اليوم او امس، بل ان التحذير من وقوعها يعود الى تسعينيات القرن الماضي عندما تشكلت لجنة اصلاح المسار الاقتصادي، وقبلها اللجنة العليا لإصلاح الاختلالات في الاقتصاد الكويتي، ووضعت تقارير في غاية المهنية، لكن كان مصيرها الأدراج، لأن متخذ القرار لا يريد ان يتخذ القرار الصحيح ويفضل استمرار الوضع الراهن بلا مشكلات مع الشارع او النواب، حتى ولو دفعت الكويت الثمن في المستقبل. استنزاف المدخراتيقول تقرير صندوق النقد الدولي ان الكويت ستستنزف جميع مدخراتها من إيرادات النفط بحلول عام 2017 إذا استمرت في الإنفاق بالمعدل الحالي، ولن تتمكن من ادخار عائدات نفطية في صندوق الأجيال القادمة، وإن على الكويت تنويع اقتصادها وتحسين بنيتها التحتية ومناخ الاستثمار إذا أرادت استمرار الوضع المالي الجيد.ويكشف التقرير أن الإنفاق الحكومي سيبلغ نحو 25 مليار دينار في 2017، وأن هناك حاجة ملحة إلى التماسك المالي في حال انخفاض أسعار النفط.في المقابل , أظهر مشروع الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2012-2013، الذي أحاله مجلس الوزراء الأسبوع الماضي الى المجلس الأعلى للتخطيط تمهيدا لتحويله الى مجلس الأمة، ثبات العقلية الاقتصادية في ادارة الدولة حتى وإن اختلف الأشخاص.فالميزانية الجديدة التي تبلغ قيمتها 22 مليار دينار أتت بنفس فلسفة الميزانيات السابقة التي كان جل الإنفاق فيها يرتكز على الانفاق الاستهلاكي الخالي من العوائد على حساب الإنفاق الاستثماري الخاص بالمشاريع، كما أنها عبرت عن نمو لافت في آليات الصرف من حيث بلوغها هذا الرقم لأول مرة في تاريخ الكويت، إذ نمت الميزانية خلال عامين فقط بنسبة 36% بالمقارنة مع عام 2010-2011 والذي كانت الميزانية فيه 16.1 مليار دينار.ولعل هذه القيمة الكبيرة في نمو الموازنة بنحو 6 مليارات دينار خلال عامين ما كانت لتتم لولا النمو الحاد في زيادات الأجور والرواتب، خصوصا إذا علمنا ان موازنات الكويت بين عامي 2000 الى 2003 لم يكن أي منها يتجاوز في مجمله 5 أو 6 مليارات دينار، أي أن فرق الزيادة في رقم الموازنة بين عامي 2010 الى 2012 يعادل ميزانية الدولة في عام واحد قبل نحو 10 سنوات.وهذا مؤشر خطير جداً، خصوصا أن النمو لم ينعكس على المشاريع أو الاستثمار أو البنية التحتية، بل على إنفاق استهلاكي يذهب معظمه على الرواتب والمنح ودعم السلع والخدمات. فحسب الموازنة الجديدة، تبلغ قيمة الباب الرابع الخاص بالمشاريع 3.1 مليارات دينار فقط أي ما يوازي 14% فقط من الإنفاق العام، وهي نسبة متدنية جداً، إذا ما قورنت بباقي دول الخليج، فسلطنة عمان تتربع على قائمة الإنفاق على المشاريع مقابل الإنفاق الكلي بنسبة 36%، ثم قطر بـ31%، فالسعودية 22%، تليها الإمارات والبحرين بـ21% لكل منهما، أما الكويت فهي في ذيل القائمة 14%.لذلك فإن كل التقارير التي تعدها الحكومة أو المؤسسات الدولية لا قيمة لها لدى الحكومة، لأن الأساس هو خدمة مشروع الاستمرار في السلطة او لنقُلْ مشروع الحكم على حساب مشروع الدولة، فلا احد في الحكومة يريد ان يعاكس رغبات النواب في استمرار بل زيادة النمط الاستهلاكي في الميزانية، حتى إن كان المستقبل القريب يحمل العديد من المؤشرات الخطيرة... فالسلطة على ما يبدو أهم من الدولة ومستقبلها. الميزانية الجديدة تبلغ قيمتها 22 مليار دينار أتت بنفس فلسفة الميزانيات السابقة وجل الإنفاق فيها استهلاكي-الكويت ستستنزف جميع مدخراتها من إيرادات النفط بحلول عام 2017 (صندوق النقد)