الموريسكيون.. نهاية الأندلس المفقود

نشر في 04-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 04-08-2012 | 00:01
الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي 1

وسط أجواء عصيبة، بدأت وجوه عرف الحزن طريقه إليها منذ زمن من أبناء شعب الموريسكيين في حزم أمتعتهم، استعداداً لمغادرة الوطن، والبحث عن بدايات جديدة، بعد أن طردهم إخوانهم في الوطن بدعوى اختلاف الدين، كان المجهول ينتظرهم وسيف القهر مصلت في انتظار من تتعثر خطواته، ففي إسبانيا المسيحية جرت وقائع واحدة من أكبر عمليات التهجير القسري في التاريخ، تهجير لم يكن يحركه إلا روح البغض والكراهية للآخر، فشعار تلك الفترة الكئيبة من تاريخ الإنسانية كان "اختلافك في الدين يكفي لقتلك"، وكان على أبناء حضارة ولّت أن يدفعوا ثمن تاريخ متراكم طوال ثمانية قرون كانت خلالها حضارة الإسلام في الأندلس نبراساً للنور في العالم كله، لكن بعد أن أطفئت الأنوار، وانسحب الرجال من المشهد سريعاً، لم يبق إلا البكاء على ملك زائل ومجد تالد، وبقي على شعب الموريسكيين أحفاد مسلمي الأندلس أن يدفعوا ثمن تفوقهم الحضاري وميراثهم الضخم من عظماء الأجداد، أمام مجتمع متعصب اتخذ من شعارات الدين ستاراً لأعمال لا يحركها إلا الكراهية لتفوق شعب وتفرد أمة.

جرت وقائع ماسأة تهجير شعب الموريسكيين، في مطلع القرن السابع الميلادي، عندما أصدر الملك فيليب الثالث، في 9 أبريل 1609م، مرسوماً بطرد أحفاد المسلمين من البلاد وترحيلهم فوراً، بعد قرن كامل من الاضطهاد ومحاكم التفتيش التي يشيب لذكرها الولدان.

أكثر من ربع مليون شخص تم شحنهم فوراً في السفن التي أبحرت صوب شواطئ جنوب البحر المتوسط، البعض كان من حظه أن ألقي به أمام سواحل المغرب أو الجزائر أو تونس، لكن الأغلبية لم يحالفها الحظ فماتت أثناء عملية التهجير البشعة. وخلال سنوات قلائل (1609-1614م) هُجر ما لا يقل عن ثلاثة ملايين من شعب الموريسكيين قسراً وجبراً، من اعترضوا قتلوا، فقد كان هدف الإسبان القضاء على هوية مسلمي الأندلس بأي وسيلة.

ومرت عملية محو التاريخ بمراحل عدة من الإذلال، ففي عام 1502م، بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الأندلس بعشرة أعوام، صدر مرسوم تنصير المسلمين في إسبانيا، ليشكل نهاية آخر مجتمع مسلم في الأندلس، وينزل ضربة موجعة لكرامة الأندلسيين.

عمليات الإجبار على دخول المسيحية كانت وحشية، ورغم دخول معظم الأندلسيين في المسيحية ظاهراً، فإنهم احتفظوا في ما بينهم بإسلامهم، وحافظوا على تقاليد الدين الحنيف. في أعقاب هذا المرسوم عرف المسلمون المتنصرون باسم الموريسكيين، تصغيرا لكلمة موروس أي المسلمين، فلم ينس الإسبان يوماً أن هؤلاء هم أحفاد الخلفاء والسلاطين والأمراء الذين حكموا البلاد يوماً في ظل دولة الإسلام. كانت تهم الخيانة جاهزة للموريسكيين من قبل محاكم التفتيش التي لاتزال حتى يومنا هذا تحتفظ بسمعتها السيئة في القمع، فقد اتبعت تلك المحاكم التي قادها قساوسة انتزعت الرحمة من صدورهم، وسائل لا تمت للإنسانية بصلة، فكان مجرد الشك في أي موريسكي سبباً كافياً لأن تبدأ محنة لا تنتهي لهذا الشخص، يتمنى خلالها الموت ألف مرة ولا يجده.

محاكم التفتيش

كانت التحقيقات تبدأ مع المتهم بإلقائه في سجن مظلم، لا يعرف فيه ليلاً من نهار، ويصفد بالأغلال ويترك عدة أيام، ثم يحاكم بتهمة عدم الإخلاص في العقيدة، فإذا اعترف بما نسب إليه، ولو كان بريئاً، خففت العقوبة، لكنه لا ينجو من التعذيب لسبب بسيط وهو اعتقاد قاضي محكمة التفتيش أن المتهم، أي متهم مازال لديه الكثير من الأسرار التي لم يبح بها بعد، ولم يعترف بكل ما ارتكبه من آثام، فربما جرعة أخرى من التعذيب والتنكيل قد تدفعه إلى الاعتراف.

أما إذا لم يتعرف الموريسكي أصلاً فإن أبواب الجحيم تكون قد فتحت وخرجت شياطين التعذيب تأكل من جسد هذا المسكين المنكود، ولا يلبث أن يقضي عليه بالإدانة ليساق إلى حتفه، وهي أمنية غالية بعد ما لاقه من تعذيب، أما إذا ما حصل المتهم على حكم البراءة، وهو أمر في حكم المستحيل، فعليك وقتها أن تبحث في هذا الحطام عن بقايا إنسان.

قاد القساوسة، باسم الدين والدين منهم بريء حملة شرسة للقضاء على مظاهر الحضارة الأندلسية، فمنع استخدام اللغة العربية، وكان التحدث بها في الأماكن العامة جريمة تستحق العقاب، فلجأ الموريسكيون إلى لغة هجينة بين العربية والقشتالية عرفت باسم

"الألخيادو"، بينما أجبروا على التخلي عن العادات والتقاليد والأسماء العربية حتى الملابس العربية أصبحت محرمة، وكانت الكنيسة تشرف على عقود زواج الموريسكيين وتعميد أطفالهم للتأكد من اتباعهم الطقوس المسيحية، بل بلغ الأمر أن الكنيسة الإسبانية خصصت نساء مهمتهن حضور عمليات ولادة نساء الموريسكيين، من أجل التأكد من عدم تلاوة الشهادة عند ولادة الأطفال، فيما كانت أيام شهر رمضان الكريم تحل على الموريسكيين بمزيد من التعذيب المعنوي، فقد أجبروا على تناول الطعام جهراً في نهار شهر الصيام للتأكد من عدم قيامهم بالفريضة الإسلامية، وفي الأعياد الإسلامية كانت أبواب الكنائس تفتح خصيصاً للموريسكيين من أجل ضمان عدم احتفالهم على الشريعة الإسلامية، وكان الهدف من كل هذا هو مسح ثمانية قرون من ذاكرة أحفاد الأندلسيين سادة البلاد يوماً.

صرخ الموريسكيون ولا مجيب، ولم يجدوا من يعينهم من ملوك المغرب العربي لضعفهم وتشتت كلمتهم، وخضوعهم للنفوذ الإسباني- البرتغالي، العدو ذاته الذي يتهدد الوجود الموريسكي، لذلك توجه أبناء الأندلسيين برسائل الاستغاثة إلى سلاطين المماليك في مصر وسلاطين آل عثمان في اسطنبول، على الفور أرسل السلطان المملوكي رسائل تهديد إلى البابوية وملوك إسبانيا، بمعاملة مسيحي الشرق بمثل معاملة مسلمي الغرب، ومنع حجاج أوروبا من زيارة المقدسات المسيحية في القدس، ولم يفعل ملك إسبانيا أكثر من إرسال مبعوث له على وجه السرعة إلى القاهرة وعد السلطان باتباع سياسات أكثر رفقاً بمسلمي الأندلس، طبعا لم يغادر الوعد مكانه إلى مرحلة التنفيذ أبداً، بل على العكس زادت وتيرة الاضطهاد بسرعة.

القمع والكبت لا يولدان إلا الانفجار، هكذا كان واقع الموريسكيين، الذين سدت الأبواب أمامهم تضرعوا فأهينوا، طلبوا الرحمة فحصدوا العذاب، دخلوا المسيحية فطاردتهم محاكم التفتيش، لم يعد إلا السلاح والموت بكرامة بعد أن ألجأتهم السياسة الإسبانية إلى طريق مسدود، قام الموريسكيون بعدد من الثورات العنيفة تعبيراً عن رفضهم لكل هذا العذاب، كلها فشلت للأسف، وكان يصحبها عادة موجة جديدة من التنكيل وقرارت مشددة بعدم حمل الموريسكيين السلاح، كانت ثورة البشورات بالقرب من مدينة غرناطة بين سنتي 1568-1571م، أشد هذه الثورات قوة وكانت تعبيراً عن قمة الغضب الموريسكي لكنها قمعت بقسوة، قبل ان تحل ختام الماسأة بطرد جميع الموريسكيين من البلاد.

كيف اختتمت القصة هكذا؟ كل هذه الوجوه المرهقة المهجرة على شواطئ السواحل المغربية تختصر في تضاعيف ملامحها قصة صفحة من تاريخ الإسلام، عندما كانت الأندلس يوماً جوهرة العالم الإسلامي وجنته الحاضرة، ما الذي أحالها إلى هذه النهاية القاسية، فبلاد الأندلس تجربة إسلامية تاريخية كاملة لها بداية ونهاية، فهي القطر الوحيد الذي خرج منه الإسلام بعد أن استقر فيها قرونا، فنحن نملك لهذا القطر الإسلامي شهادة ميلاد وشهادة وفاة، وهنا تكمن الخصوصية، لذلك بات التوقف عند تاريخ الأندلس ضرورة في زمن تواجه الأمة انقلابات وتقلبات قاسية، لا نعرف إلى أين تحملنا ولا أين تنتهي بنا.

عندما اختفت دولة الإسلام في الأندلس، تركت خلفها حضارة مازالت أنوارها ساطعة ماثلة في قصور الحمراء وجامع قرطبة الكبير والعديد من الآثار الباقية من القرون الخالية في مدن إسبانيا الأندلسية، كعلامات مكانية تؤكد ذاتيتها وتفردها رغم فناء البشر وتغير الأزمان، فضلاً عن تراث ضخم من الإنجاز الحضاري كان ومازال مفخرة للإنسانية كلها، كيف لا وهو العلم الذي تأسست عليه النهضة الأوروبية والكشوف الجغرافية التي غيرت وجه التاريخ، وقامت عليه الحضارة العالمية المعاصرة التي نحيا في ظلالها اليوم غرباء.

لكن هذه الهدية الحضارية قوبلت بحقد دفين خرج إلى العلن سريعاً من قبل الإسبان، فقمعوا أساتذة الأمس القريب ومعلميهم، فكانوا أسوأ تلميذ لأفضل أستاذ، فقد كانت الأندلس تحت حكم المسلمين

-بشاهدة المؤرخين الإسبان والمستشرقين- جنة الأديان، فكان المسلم يتعبد إلى ربه في المسجد يجاوره المعبد اليهودي والكنيسة يتعبد داخلهما أهل الديانتين بكل حرية، نموذج حي من العصور الوسطى يدحض فكرة صدام الحضارت في عصر الحداثة، فقد كانت قرطبة مدينة النور حقاً في وقت كانت باريس تغرق في ظلمات الجهل والبؤس. إلا أن الإسبان لم يعوا الدرس وانقلبوا إلى الضد، ومارسوا جرائم اضطهاد وتنكيل بالمسلمين يندى لها الجبين، خلفت ظاهرة الموريسكيين، مأسأة حضارة تركت أبناءها خلفها.

فتوح المغرب

لقد جرت في النهر مياه كثيرة، فبعيداً عن أراضي القوط في قلب صحراء العرب التي لم يسمع عنها الإسبان يوما خبرا، جرت دراما تاريخية كتب لها أن تغير مجرى حياة البشر، فقد ظهر محمد رسول الله يبشر بالإسلام، ولم يتوقع أحد يوماً أن أتباع هذا الدين سيأتون فاتحين لبلاد الإسبان بعد هذا التاريخ بقرن واحد.

فلم تكد تمر على وفاة الرسول -صلى الله عليه ووسلم- في ضحى يوم الاثنين من شهر ربيع الأول لسنة 11 من الهجرة، الموافق 8 يونيو لسنة 632 ميلادية، سنوات قلائل حتى انطلقت الجيوش الإسلامية تدك أبواب أكبر إمبراطوريات العصر الإمبراطورية الفارسية الساسانية في إيران، وأملاك الإمبراطورية البيزنطية (المعروفة بدولة الروم عند العرب) في الشام ومصر وتونس، شعارهم رفع راية الإسلام وتأمين الدولة الوليدة في جزيرة العرب.

ونجحت مغامرة العرب المسلمين في إزاحة إمبراطورية الفرس من الوجود، كما استصفوا لأنفسهم أهم ممتلكات البيزنطيين الشام ومصر، ولم تمض سنوات إلا كان العرب في إفريقيا وأسسوا مدينة القيروان سنة 50هـ، وخضعت بلاد المغرب العربي للإسلام من خلال جهود فاتحين عظام أمثال عقبة بن نافع وحسان بن النعمان الغساني انتهاء بموسى بن نصير، الذي اتم فتح بلاد المغرب واخضع قبائل البربر لدولة العرب ودخلوا عن اقتناع في دين الإسلام.

انتهت فتوح المغرب إذن، بعد أعوام كثيرة قاربت السبعين ولم يعد إلا البحر، هكذا فكر موسى بن نصير، وقد اختمر في ذهنه مشروع حربي طموح، بعبور المجاز بين الساحل الإفريقي والساحل الأوروبي وفتح البلدان الأوروبية واحدة تلو الأخرى وصولا إلى روما معقل المسيحية ومنها إلى بيزنطة معقل الإمبراطورية ليفتح أوروبا كلها وينهي الحروب التي تخوضها الخلافة الأموية مع الإمبراطورية البيزنطية إلى الأبد، وتحويل البحر المتوسط إلى بحرية إسلامية. وكانت المحطة الأولى في هذا المشروع هي البدء بتلك البلاد القريبة التي تدعى إسبانيا والتي ستعرف بعد قليل ببلاد الأندلس.

ما قبل الأندلس

من هم المورسكيون؟ وما علاقتنا بهم؟ وكيف ارتبط تاريخنا كعرب بهم يوما؟ المورسكيون هم أحفاد الشعب العربي المسلم في الأندلس الذين بقوا في تلك البلاد بعد زوال دولتهم، عندما سقطت غرناطة آخر معاقل دولة الإسلام في الأندلس في سنة 1492م، ولم يستطع آخر ملوك بني الأحمر في غرناطة إلا أن يبكي كالنساء، قبل أن يرحل تاركاً الأندلس مهاجراً إلى بلاد المغرب، لكنه ترك ملايين خلفه من المسلمين العاجزين عن الرحيل عن بلاد لم يعرفوا وطناً سواها، عالقين في حكم عنصري بغيض قائم على احتقار الآخر وكراهيته.

يستلزم الأمر السفر عكس مجرى التاريخ، لثمانية قرون مضت، من أجل أن نستطلع البدايات ونتتبع الأجيال للوصول إلى هذه اللحظة القاسية، فمنذ ثمانية قرون قبل عملية التهجير تلك، كانت بلاد إسبانيا والبرتغال تحكمها ممكلة القوط التي أخذت تتشكل وتفرض نمطها الاجتماعي والاقتصادي على رعايا البلاد من السكان الأصليين، ومنذ مطلع القرن السابع الميلادي أحكم القوط الغربيون سيطرتهم على بلاد إسبانيا مدة قرن كامل، واستخدموا لإحكام سيطرتهم بناء طبقيا محكما لا يعرف السلم الاجتماعي، فكل طبقة من طبقات المجتمع القوطي الخمس حددت بحدود صارمة. فقد كان على رأس المجتمع طبقة النبلاء التي شكلها سادة البلاد من القوط وعلى رأسهم الملك نفسه وأهل بيته، وكان النبلاء مع رجال الكنيسة يكونون الطبقة العليا صاحبة الامتيازات الواسعة التي حازت الضياع الواسعة والإقطاعيات الوافرة، وتمركزت الارستقراطية في الطبقة العليا التي احتكرها القوط وراثياً، وكان الملك ينتخب من بين النبلاء القوط، ورغم محاولات بعض الملوك في إرساء مبدأ الوراثة وضمان بقاء الملك في ذريتهم فإن نبلاء القوط رفضوا هذا الأمر وهددوا بحمل السلاح إذا مس مبدأ انتخاب الملك، ما أدى في كثير من الأحيان إلى الاحتكام للسيف للفصل في منازعات النبلاء على عرش القوط، أما رجال الكنيسة فقد حصلوا على امتيازات ضخمة تمثلت في الإعفاء من أداء الضرائب، بالإضافة إلى جمعهم أموال النذور من الفلاحين البؤساء.

وشكلت طبقة الأحرار، الطبقة الوسطى في المجتمع والتي تكونت من الحرفيين في المدن الإسبانية، ولم تكن حياتهم إلا شقاء متصلا، فقد كان الغرض من وجودهم توفير متطلبات نبلاء القوط من بذخ وحب للحياة من ناحية، ودفع الضرائب التي قسمت ظهرهم من ناحية أخرى، فلم يكن غريباً أن يفر العديد من أهالي المدن إلى الأرياف والأماكن النائية هرباً من فظاعة الضرائب وجشع نبلاء القوط ورجال الدين.

لم يكن حال الريف الإسباني أحسن حالاً من حال المدينة، فقد عاش الفلاحون تحت حد الكفاف، وكانت كسرة خبز هي الغذاء لأسرة كاملة في يوم من العمل الشاق، فقد خضع الريف الإسباني لحكم القوة وصارت الضياع الكبيرة ملكاً للنبلاء الذين أنزلوا ملكها الأصليين إلى مرتبة القن (عبد الأرض) الذي يرتبط بالأرض التي يعمل عليها كملك شخصي لصاحب الإقطاعية، الذي يملك الأرض بما عليها من بشر وحيوان وزرع، وكان على القن فضلاً عن العمل في زراعة الأرض دفع ضريبة الرأس الباهظة، وان يشترك في أعمال الجندية أثناء الحرب، وما أكثرها في إسبانيا القوطية، وليس للقن أن يتزوج دون موافقة سيده النبيل، فإذا فعل فصلت عنه زوجه، وعندما يتزوج القن من امرأة ريفية في قرية أخرى تخضع لنبيل آخر، كانت ذريتهما تقسم بين السيدين النبيلين.

أما في قاع المجتمع فكان يوجد العبيد الذين مثلوا الطبقات المعدمة وأسرى الحروب والمفلسين والمجرمين سابقاً، وكلما زادت المظالم الاجتماعية زاد عدد العبيد في المجتمع الإسباني، ولم يكن للعبد أي حق سياسي، ولا يحق له الحصول على الحرية، فهو عبد وذريته من العبيد ولا يملك شيئاً لتغيير هذا الواقع المؤلم.

هكذا كان المجتمع الإسباني في العصر القوطي مجتمعاً إقطاعياً، ينحل ببطء، ويعاني فيه الرعية صنوف البؤس والشقاء، وقد مزقته عصور طويلة من الظلم والإرهاق والإيثار، السادة فيه يملكون كل شيء، أما الشعب فقد تجرع مرارة الحكم القوطي في صبر وأناءة، فيما تعالى النبلاء القوط على الجميع فرفضوا مخالطة الشعب الإسباني ذي الجذور الرومانية، وعاشوا في عزلة عن رعاياهم الذين هاشوا حياة يرثى لها، عنوانها الحرمان وواقعها السخرة، فالجميع كانوا أرقاء أو شبه أرقاء لدى ساداتهم من القوت، وكانت كتلة اليهود في إسبانيا موضع بغض وتعصب وتحامل ضدهم، يعانون أشنع ألوان الاضطهاد، وكانت الكنيسة الكاثوليكية تحاول بكل ما أوتيت من قوة تنصير اليهود مستخدمة سلاح التعذيب والاضطهاد.

لذلك لم يكن غريباً ألا يحمل الشعب الإسباني المسكين إلا كل مشاعر الكره والحقد لساداته من القوط، يطمح إلى مخلص يخلصه من ربقة هذا الذل القوطي، ويعيد إليه كرامته الإنسانية المفقودة. ولم يتأخر انتظار الرعايا الإسبان كثيراً، فقد جاء المخلص يدق أبواب إسبانيا من وراء البحار، إلا أنه لم يكن من مخلص بيزنطي أو فرنجي أو أي من الشعوب الجرمانية، كما كان يتمنى الفلاح الإسباني.

back to top