العلمانيون الأتراك يتحولون إلى الكمالية المؤمنة

نشر في 24-05-2012 | 00:01
آخر تحديث 24-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. محمد العادل مؤتمر لافت للنظر احتضنته مدينة اسطنبول أخيراً نظمه حزب الشعب الجمهوري المعارض في تركيا والذي يعتبر قلعة العلمانية و"الكمالية"، وكان يوصف دوماً بالجناح السياسي للمؤسسة العسكرية نظراً لأن مؤسس هذا الحزب العريق هو مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية.

هذا الحزب الكمالي استضاف ولأول مرة في تاريخه قيادات فكرية وسياسية وبرلمانيين من تيارات إسلامية مختلفة من البلدان العربية في مؤتمر خصّصه لمناقشة تأثيرات الربيع العربي على مستقبل المنطقة، وقد أكدت قيادات حزب الشعب الجمهوري التركي أنهم وجهوا الدعوات إلى العديد من الجماعات الإسلامية الإخوانية والسلفية وغيرها على رأسها جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر التي حضر ممثلها في تركيا في حين غابت جماعة "الإخوان المسلمين" السورية عن هذا المؤتمر رغم وجود معظم قياداتها في اسطنبول.

الكلمة الافتتاحية للمؤتمر التي ألقاها زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلشدار أوغلو عكست تحولاً كبيراً في نظرة هذا الحزب العلماني لمحيط تركيا العربي والإسلامي، حيث أكد بشكل واضح حرص حزبه على التقدم بمستوى الشراكة في المجالات المختلفة بين بلاده والبلدان العربية والإسلامية المختلفة، وكرر زعيم الحزب أكثر من مرة في خطابه مساندة حزبه للربيع العربي وثورات الشعوب المطالبة بإزالة الدكتاتوريات وبناء دولة المؤسسات والحقوق والحريات.

وكان احتفاء المؤتمر بالناشطة اليمنية توكّل كرمان الحائزة "جائزة نوبل"، وكذلك الحفاوة التي قوبل بها جميع المشاركين من القيادات الإسلامية دليلاً واضحاً على اهتمام حزب الشعب الجمهوري وحرصه على فتح قنوات اتصال وحوار مع التيارات الإسلامية العربية بتوجهاتها ومدارسها المختلفة.

هذا التوجه الجديد لحزب الشعب الجمهوري العلماني التركي نحو المحيط العربي والإسلامي يحتاج في تقديري من النخب العربية إلى قراءة دقيقة وواعية، لأن الحزب ذاته هو الذي كان سبباً في حالة القطيعة بين تركيا وبقية أطراف العالم العربي والإسلامي عقب سقوط الدولة العثمانية، بل إن كثيراً من الباحثين العرب يحمّلون هذا الحزب وزعيمه مصطفى كمال أتاتورك مسؤولية إنهاء نظام السلطنة العثمانية.

ومهما كانت الأسباب والدوافع وراء توجه حزب الشعب الجمهوري نحو العرب، فإن ذلك يشير إلى أن قادة العلمانيين والكماليين في تركيا قد شملتهم حملة المراجعات التي تعيشها تركيا منذ أكثر من عشر سنوات لخياراتها الداخلية والخارجية المختلفة، وهو ما يجعلنا أكثر اطمئناناً على مستقبل العلاقات العربية التركية من خلال انخراط حزب علماني كمالي معارض في هذا التوجه إلى جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة بقيادة رجب طيب أردوغان الذي يقود عملية المصالحة التاريخية بين تركيا ومحيطها العربي والإسلامي منذ وصول حزبه إلى السلطة في نوفمبر 2002.

يتفق العديد من الخبراء على أن معظم الأحزاب التركية قد بلغت درجة كبيرة من الوعي تجعلها قادرة على التمييز بين المصلحة العليا للدولة والحسابات السياسية والأيديولوجية الضيقة للأحزاب، وقد يندرج هذا التوجه الجديد لحزب الشعب الجمهوري العلماني نحو العرب في إطار خيارات الدولة التركية التي لا يرسمها فقط الحزب الحاكم.

وقد سألت زعيم حزب الشعب الجمهوري السيد كمال كلشدار أوغلو عن سر هذا التحول الذي يعيشه حزبه فأجابني قائلاً "إننا نتحدث عن حزب الشعب الجمهوري الجديد"، ويبدو أن تأكيده على عبارة "الجديد" يشير إلى أن هذا الحزب العلماني الكمالي قد بدأ عملياً في تجديد نفسه والتصالح مع واقعه التركي أولا ثم محيطه الخارجي ثانياً، ولعل ما يؤكد ذلك الحملة التي قادها زعيم حزب الشعب الجمهوري لإبعاد عدد من القيادات التقليدية للحزب والتي كانت تحسب على التيار الكمالي المتشدد داخل الحزب ومعروفة بقربها الشديد من القيادة العسكرية التركية.

وقد كان لافتاً للنظر تصريحات زعيم حزب الشعب الجمهوري الداعية لمحاسبة الجنرالات الانقلابيين ومحاكمتهم وتشديده على أن زمن الانقلابات العسكرية قد ولّى رغم أن هذا الحزب في نسخته القديمة كان يساند دوماً مواقف الجنرالات ويقف داعماً لجميع الانقلابات التي شهدتها تركيا بل وقد يكون طرفاً سياسياً فيها باعتبار أن المؤسسة العسكرية وحزب الشعب الجمهوري كانا يعتبران نفسيهما أوصياء على الدولة العلمانية والمبادئ الكمالية في تركيا.

ومع انحسار الأيديولوجية الكمالية والتهاوي التدريجي لنفوذ مؤسساتها على رأسها المؤسسة العسكرية برزت أصوات علمانية تركية تدعو إلى العمل على تجديد الفكر الكمالي و"تصحيح" مساره ليتصالح مع الواقع التركي، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال حرص حزب الشعب الجمهوري على دعم حقوق الطالبات المحجبات واستقطاب العديد من المحافظين في صفوف حزبه بالإضافة إلى إصرار قادته على الظهور أمام وسائل الإعلام وهم يؤدون صلاة الجمعة ويشاركون في احتفالات المولد النبوي الشريف وغيرها من المناسبات الدينية في إشارة واضحة إلى رغبة حزب الشعب الجمهوري في التأكيد على عدم معاداته للدين مما يؤكد فعلاً أن العلمانيين الأتراك أصبحوا يتوجهون اليوم نحو تشكيل علمانية عاقلة وكمالية مؤمنة حتى تجد لها مكاناً في تركيا الجديدة وتحافظ على بعض مكاسبها التاريخية.

* رئيس المعهد التركي العربي للدراسات الاستراتيجية بأنقرة

back to top