كي لا نُغرِقَ الداو الكبير
كم حلمٍ جميل تبدد وتلاشى أمام جموح بعض الساسة! وكم مشروعٍ تنموي وإثراء مستقبلي نحره هؤلاء على صخرة الرقابة والتشكيك والطعن في النوايا! كم مستثمرٍ خسر جموحه وفقد طموحه للعمل في الكويت فأدار بوصلته نحو دول أخرى تعطيه حقه وتأخذ حقها!حلم تحويل الكويت إلى مركز مالي وإعادتها إلى ما كانت عليه مركزاً تجارياً إقليمياً، حلم ردده أمراء تعاقبوا على حكم الكويت، وتغنت به حكومات توالت واحدة تلو الأخرى، لكنه لم يرقَ إلى الواقع لأنه يصطدم دائماً بجدران السياسة، ويتلاشى في دهاليز تشكيك الساسة وظنونهم ويضيع أمام إفتائهم في ما لا يفقهون.
أضعنا مشروع حقول الشمال شكاً في نوايا الداعين إليه وتشكيكاً في القائمين عليه، فخسرنا فرصةً إن تكررت فستتكرر بأضعاف مضاعفة لكلفتها آنذاك، وخسّرنا بعض سياسيّينا مشروع (الكي-داو) قبل سنوات تحت هاجس التنفيع والتكسب، وتحت وطأة وسواس الكسب والنهب، متجاهلين كل قنوات الرقابة وأدوات الشفافية التي سنّها وقنّنها المشرعون الأوائل ممثلة بلجنة المناقصات المركزية وديوان المحاسبة وإدارة الفتوى والتشريع، ضاربين بمصداقيتها عرض الحائط، وفي الوقت ذاته نصبوا أنفسهم خبراء في كيمياء النفط وفي اقتصادياته، وهم الذين لم تكمل غالبيتهم دراستها الثانوية. هؤلاء الذين حاربوا تطوير قطاع النفط (شريان الاقتصاد) هم أنفسهم الذين يتسابقون على تبديد عائداته وتبذيرها، تارة بإسقاط القروض وأخرى بخفض سن التقاعد وأحياناً بالكوادر، وكأن هذه المغالاة في التبذير لا تتطلب تطويراً للعائدات، وكأن زيادة الإنفاق عندهم لا تستدعي زيادة في الإيراد.حربهم الشرسة التي خاضوها ضد تلك المشاريع، وخاصة مشروع (الكي-داو) هي في حقيقتها حرب ضد التنمية وتطوير اقتصاديات المورد الأساسي وحجب لفرص العمل عن الشباب، إنها حرب على المستقبل ووأد لكل مؤشرات التفاؤل به. لم تخسر (الداو-كيميكال) بقدر ما خسرت الكويت، بل إنها ربحت حتى من إلغاء الصفقة، وربحت أكثر بأن أدارت دفتها في اتجاه دول أخرى كالمملكة العربية السعودية فأنجزت مشروعاً تضاعفت قيمته أربعة أضعاف كلفته في أقل من خمس سنوات، فالخاسر الأكبر هو الكويت وشبابها الذين يستجدون فرص العمل، واقتصادها الذي يئن من الخمول والكساد.لقد رضخت الحكومات السابقة لأصوات بعض الساسة في البرلمان، وتناست أنها كانت صاحبة الغلبة والأغلبية فخسرت وفاءها بعهدها في التنمية والتطوير مثلما خسرت بعض رجالاتها.إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، يكمل كل منهما الآخر لا بطغيانه عليه بل بتوافقه معه، فإن طغى واحد على الآخر فتلك كارثة، وأكبر الكوارث أن تطغى السياسة على الاقتصاد وتصبح موجهاً وقائداً له، ولنا دروسٌ من تجارب الأمم الشيوعية، وعبرٌ من خروج الصين من جلباب شيوعيتها وتسارع نموها الاقتصادي.إن أعضاء مجلس الأمة مشرعين ومراقبين، يشرعون ما يخدم الأمة ويحمي ثوابت ديمقراطيتها ويفتح آفاق مستقبلها، ويراقبون بما يملكون من أدوات حددها لهم الدستور وقننتها لهم اللائحة، لكنهم ليسوا وزراء ولا مهندسين ولا محاسبين ولا أطباء حتى ينصبوا أنفسهم فقهاء وعلماء في ما لا يفقهون وما لا يعلمون، وليس من حقهم أن يكونوا قيّمين على السلطة التنفيذية فيسيروها كما يشاؤون ومثلما يشتهون.سيبقى استمرار زحف أعضاء السلطة التشريعية على اختصاصات وصلاحيات السلطة التنفيذية خطراً كبيراً، ونذيراً بمستقبل مظلم ودليلاً على استبداد ظالم. بالأمس جاءت ضربة في مشروع (الكي-داو) فخسرناه، وغداً ستكون ضربة قاصمة في (الداو) الكبير، فنغرق معه جميعاً.