علاقة مُربكة

نشر في 18-11-2012
آخر تحديث 18-11-2012 | 00:01
 آدم يوسف بينما كنت أقلّب مؤشر الإذاعة، توقفت ذات مرة عند حديث لأحد المتخصصين في البرمجيات الحديثة، وتصميم المواقع الإلكترونية، كان هذا الباحث يتحدث بإصرار عن زوال الكتاب الورقي، وبزوغ شمس القراءة الإلكترونية، وكاد من شدة حماسه، يحدد فترة زمنية محدودة، وبعدها لن يصبح لهذا الكائن الورقي وجود.

لم أستسغ يوما دعوات أو مقولات من هذا النوع، ولم يقع في نفسي ذات مرة يقينٌ بزوال الكتاب الورقي، أو فقدانه مكانتَه لدى القرّاء، وكنت ألاحظ أن كل الذين يروّجون لهذه المقولة، هم من العاملين في مجالات تتعلّق بالفضاء الإلكتروني، ابتداء من ظهور فكرة البريد الإلكتروني، وصولا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وصرعاتها المتعدّدة.

ليست فكرة بقاء الكتاب الورقي مرتبطة بالناحية النفسية فحسب، أو هي نوستالجيا، تشدنا إلى أزمان غابرة، بل هي نابعة من تعقيدات تقنية، وعقبات عديدة تجعل من الصعب الاستغناء عن الكتاب الورقي، من أجل لحظات نقضيها أمام شاشة مضاءة، تؤذي العين، ولا تمنحنا المعلومة والفكرة بالعمق والتخصص ذاته الذي يمنحنا إياه الكتاب الورقي، ولست أدري كيف اقتنع هؤلاء الداعون إلى تبني فكرة النشر الإلكتروني بالاستغناء

عما يزيد على نصف قرن من تاريخ الكتاب الورقي، من أجل مدى زمني لا يتعدى في أحسن حالاته عشرة أعوام، كيف يدّعي هؤلاء الاستغناء عن كل هذا التاريخ والتراكم المعرفي والتقاليد المستقرة من أجل مسألة هي أقرب إلى التسلية والترفيه منها إلى ابتغاء الكم المعرفي والعلمي.

يتذرّع الداعون عادة إلى تبني فكرة النشر الإلكتروني بعدة حجج، من بينها سهولة الوصول إلى المعلومة، وسهولة التصفح عبر الإنترنت، وكذلك اختصار المساحة والزمان، والتقليل من عبء الحمل، والانتقال من مكان إلى آخر، ولكن بالمقابل ثمة عقبات تعوق هذه الفاعلية، من بينها استحالة مواصلة القراءة لساعات عبر شاشة مُضاءة، وذلك للأذى العضوي الذي تعاني منه العين، وكذلك لارتباط القراءة الإلكترونية بعوامل أخرى من بينها توافر الأجهزة المخصصة لذلك، وشبكات الإنترنت، والتيار الكهربائي، جميعها أمور تقف حائلا دون الاعتماد كليا على هذه التقنية في القراءة والبحث.

وأما العامل الأخير الذي يرجّح كفة الكتاب الورقي، فهو ذلك المرتبط بالإرث التاريخي، وفكرة الحنين، ومن ثم احتضان الكتاب وملامسة أوراقه، وتقليب صفحاته، وتدوين بعض الملاحظات على هامشه لسهولة العودة إليها، أمور كهذه تجعل العلاقة بين الكتاب وصاحبه أشبه بالغرام والمحبة، وهذا ما يفسر صعوبة الاستغناء عن كتاب ما حتى بعد قراءته، مرات عدّة.

على المستوى الشخصي لدي مكتبة ضخمة خلّفتها ورائي في مدينة الرياض، تحوي ما لذّ وطاب، أذكر من بينها كتب بمنزلة المراجع الأدبية والتاريخية، كـ «كتاب الأغاني»، و»البداية والنهاية» ، و»الكامل في البلاغة» و»الكامل في الأدب» وكتاب الحرب العالمية بجزأيه الأول والثاني، والكثير من الدواوين الشعرية القديمة والحديثة. هذه الكتب أتصفحها بحنين بالغ حين العودة إليها، وأدرك يقينا الصعوبة التي تواجهني في الانتقال بها من مكان إلى آخر. وحين استقرّ بي الحالُ في الكويت تكوّنت لدي مكتبة أخرى بعناوين ومعطيات معرفية مختلفة، حتى غدا كل ركن، وجحر ضيق في بيتي الصغير  مأوى لإصدار أدبي أو نقدي، محشور هنا وهناك، يعبث بها صغاري، فأخطفها من بين أيديهم وأعيدها إلى مكانها، وبرغم ذلك أجد صعوبة في الاستغناء عن أي منها.

إنها علاقة مُلتبسة ومربكة تلك التي تربطنا بكتب نقتنيها، قد تكلفنا الكثير، نجد صعوبة في توفير مكان يحتضنها، قد لا نعود إلى قراءتها إلا عند الحاجة، لسنا نقوى على شحنها أو إرسالها إلى ركن آخر من هذه الأرض، وبرغم ذلك نصرّ على اقتنائها والمحافظة عليها.

back to top