أنطوان السبعلاني في رجْعُ المنابر قصائد تطل برأسها على آلهة الشعر في أسرّتها

نشر في 28-06-2012 | 00:01
آخر تحديث 28-06-2012 | 00:01
No Image Caption
في إصداره الجديد «رَجْعُ المنابر» يسترجع الشاعر أنطوان السبعلاني زمناً للمنابر الشعريّة خصباً، وهو أحد أعلام الشعر العربي الكلاسيكيّ، وقد كتبه ليمسي جزءاً حميماً من تاريخه الأخضر مع القصيدة.

أساء شعراء الحداثة العربيَّة، والنقّاد المأخوذون بشعرهم، إلى القصيدة الكلاسيكيّة عندما اتّهموها بعدم القدرة على البوح حُرّاً معتبرين شروط الوزن والقافية ضرباً من الأسر، زاعمين موسيقى وهميّة سمّوها الموسيقى الداخليّة... بينما كان بإمكانهم الاتّجاه إلى النصّ الحرّ وتسمية النثر الفنّي شعراً من دون أن يتنكّروا لجماليّة القصيدة الملتزمة بالوزن الكامل أو بالتفعيلة، ولقدراتها التعبيريّة التي أثبتها تاريخ الشعر العربي وهي لا توضع في قفص الاتّهام مكبّلة اليدين، ولا تطلب المعونة القضائيّة للدفاع عنها.

في مقدّمة «رَجْعُ المنابر» الخاطفة يعلن النقيب أنطوان السبعلاني أنّ جديده يضمّ بعضاً من قصائد ديوانين سابقين له: «خبز ومطر» و»أصداء ملوّنة»، وبعضاً من قصائد هي من خير يومنا، وينهي كلامه عن هذه القصائد بتساؤل مُرّ: «...كانت لها منابرها في لبنان./ وكان تاريخ!/ أنكون نعيش عَهْدَ نهايتها؟/. ويبدو هذا التساؤل في مكانه، لأنّ استسهال الشعر الحديث والمديح الإعلاميّ الذي يرافقه يُدخلان الكثيرين في التجربة (بمعنى الخطيئة) حتّى الموهوبين منهم، ولأنّ نظّامي القصيدة الكلاسيكيّة كثيرون في حين أنّ شعراءها نادرون ندرة الرحمة في قلب ذئب، لكنّ شاعراً كبيراً واحداً يستطيع أن يطيل عمر هذه القصيدة مئة عام، وقد لا يكون رحِمُ القصيدة غداً على بُخْل.

يستهلّ السبعلاني مجموعته الشعريّة ببائيّة مهداة إلى حفيده الأوّل «أنطوان»، وفيها تكثيف عاطفيّ يجعل رائحة الأطفال تفوح من صدور القوافي، فالآتي أمير يفتح باب الفرح فتحة كاملة، وهو الهديّة من سماء تجمّعَت قبيلة ملائكة زرْق في راحتيه: «كم من ملاكٍ أزرقٍ/ في راحتيه... ونهر طيبْ/ ... أخذ القلوب بدربه/ من ذا يردّ لنا القلوبْ». والشاعر الجدُّ جديد كثيراً في صورته الملائكيّة وموفّق في الجمع بين الأزرق والملاك، كما في جعل راحتَي طفل سماءً تتّسع لسرب ملائكة!

ضفّة الحبّ

في ظلال محبرة عاشقة ينتقل الشاعر إلى ضفّة الحبّ في قصيدة «هزار»، وينادي «مُناه»: «يا منى، في روضة الشعر هزارْ/ مالَه، في عيشه، أهلٌ ودار» غير أنّه يهتمّ بالهزار الذي يشبهه أكثر ممّا يُحمِّل الكلمات هَمَّ الحبّ. فهزار النقيب لا سكنَ له في أهل ولا في دار، إلا أنّ تشرُّدَه لم يمنعه من تَسَلُّق صوتِه إلى أعلى مواطن الفرح، ومن الارتقاء بالألم إلى أنْ: «غارت الأطيار منه، وبكت/ واشتكى الحَوْر... بلى... الحَوْر يغارْ». ومَنْ يعرف السبعلاني يعرف أنّ «هزارَه» يحمل جناحَيْن تباركُهما شمس الحقيقة، ومنقاراً ما أخذ حبَّة قمح واحدة من درب عصفور، وجبيناً ليس أقلّ من مزهريّة نجوم... وإذا كانت قصيدة «هزار» تبوح بالرّجُل الذي يستوطن الشاعر فإنّ قصيدة «الميلاد الأخير» تتفرّغ للحبّ الذي شاءه السبعلاني محمولاً على صوت امرأة تدعوه إلى عيد ميلادها، وليست الدعوة سوى كذبة أخيرة غير أنّها حاجة ملحَّة للداعية: «عيدي غداً... أرجوكَ أن تأتي غدا/ هي حيلةٌ أخرى، ولن تتجدّدا»، ويتقن المدعوّ اللعبة «العُمَريّة» في الغزل وله العُمر مقابل ليلة: «العمر رهنٌ في يديك بموعدٍ/ خذْه، ولا تمْنَع عليَّ الموعِدا»، وإذا كان لكلِّ مدعوّ مقعد فمقعد الشاعر عرشٌ مسوَّر بخفقان القلب: «فهنا مقاعد رفقتي حضَّرتُها/ وحجزتُ باسمك في ضلوعي مقْعدا». ولافتة لغة السبعلاني القريبة جدّاً من الحياة والآخذة شرعيّتها منها، لا من القاموس حيث ترقد الكلمات إلى الأبد، ولافتة أيضاً صورته الشعريّة التي لا يظْهَر عليها عَرَقُ الخيال ولا تصادر زهْوَها رائحة التكلّف، وكأنّه يدعو الواقع إلى القصيدة بكلّ ما في الواقع من نزق وصخب وحياة، ولا يحاول، أبداً، أن يصنع واقعاً من الخيال وفي هذا السياق يبرع السبعلاني في نسج علاقات ناجحة بين العاطفة والخيال واللغة مجترحاً القصيدة التي تقف على الأرض بقدمين حافيتين وتطلّ برأسها من بين غيمتين على آلهة الشعر في أسرّتها.

والسبعلاني يضرب خيمته للحبّ مكتفياً أحياناً بظلال المرأة على بتوليَّة وزهد: «يا شبْه راهبة، لا ذنبَ يوجعها/ خيرٌ لقلبك أن يبقى بلا ذنبِ/ وحدي أسير، بلا خبز ولا مطرٍ/ كناسك في براري الحقّ والحبّ». ولا اعرف إذا كان هذا الشاعر يُسكت جوعه بخبز الإباء ويرضي قلبه أيضاً بالخبز نفسه، فها هو يدعو الحقّ إلى وليمة الحبّ الذي يَنشده في البراري شأن الذين تضيق بهم دنيا الناس بتهمة السلال الممتلئة خيراً على أكتافهم،... ويا له من عري رائع تلبسه بنات الشّعر في قصائد السبعلاني، ذلك العري المُثقَل بالطّهر والبياض فلا يحرج صاحباته ولا يوقفهنّ لحظة عند باب الخجل: «تأتي إليه بناتُ الشعر راقصةً/ تزهو، وتلهو، على مرمى الهوى الرَّحبِ/ يأتينه عارياتٍ دونما خجلٍ/ لا يلبسُ الثوب إلاّ لابسُ العيبِ»!

وللوطن امتداد وجدانيّ طاعن في الالتزام في شعر النقيب السبعلاني، فلبنانُه جبينٌ لا يعتمر سوى الغيم تاجاً، ويؤلمه حين يراه مادّاً يداً لا تصل إلى يد الحريّة: «حرّيّة... كذبَ الأُلى قالوا بها/ ما عندنا حريّة وشعارُ/ ما عندنا كالناس حُرمةُ فكرةٍ/ أبداً تموت وتُجهض الأفكارُ» فالشاعر يغضب لِوَأد الفكر في وطنه، ولمأساة المبدعين الحاملين همّ لبنان تهمةً يطارَدون بها، وفي ذروة الانفعال الوطنيّ يعلن الشاعر التزامه بالإنسان لأنّه يستوطن الإنسان قبل الجغرافيا: «أنا لا أنام وقرب بيتي بائسٌ/ مأساتُه خبز الحياةِ ودارُ/ أنا لست أومن باليسار، وإنّما/ قلبي وقلب العالمين يسارُ».

والسبعلاني الناذر عمراً للمعلّمين، والحامل رايتهم نقيباً لهم سحابة عشرين سنة، يشدّ على يد المعلّم في قصيدة «المعلّم الخطاب» ويدلّ بالقافية المجروحة على جلاّديه: «أكلَ الحلال ونام ملء جفونه/ ورمى على أقدامه طعْمَ الثوابْ/ حكّامه سرقوا الضِّيا من عينه/ وبلاده سرقتْ لياليه العذاب». وما يؤلم السبعلاني معلِّماً أنّ مغتصبي حقوق المعلِّم يتفرّغون في يوم عيده للتباري في مديحه ورفعه إلى مرتبة الأنبياء إلاّ أنّه نبيّ يجوع ويأكل وصاياه، ويحلو لهم أن يرموه في عيده كلّ عام بسهام التشبيه والاستعارة: «يا سادتي لا تقرأوا فيه خطاب/ ليس المعلّم عندكم غيْرَ الخطاب»...

«رجْعُ المنابر» للشاعر أنطوان السبعلاني شلاّل من شلاّلات الجمال اللغويّة، نازلٌ من أعالي الدهشة، ورذاذه وشمٌ شهيّ على وجوه عشّاق القصيدة.

back to top