الحكاء يعيش في غيبوبة... محمد البساطي ينتظر قصته الأخيرة
لم تمتد فرحة الأديب المصري محمد البساطي بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب هذا العام طويلاً، فسرعان ما دخل في غيبوبة كبدية، ونقل إلى غرفة العناية الفائقة.يعاني الأديب محمد البساطي سرطان الكبد منذ فترة، وخضع لجراحة سابقاً، إلا أن حالته تبدو متأخرة، حسب تأكيدات الأطباء المعالجين.
ينتمي البساطي إلى جيل أدبي أطلق عليه النقاد جيل الستينيات، ضم أدباء مثل إبراهيم أصلان، يحيى الطاهر عبدالله، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، إدوار الخراط، وغيرهم. عكست أعمالهم دراما التحولات الكبرى التي عاصروها منذ صعود ثورة يوليو 1952 المصرية حتى انكسارها، وشهدوا توهج الحلم القومي وخفوته وانطفاءه.قدم البساطي عبر مسيرته الإبداعية أكثر من 20 مؤلفاً، بين الرواية والمجموعات القصصية، دارت جلها في أجواء الريف الساحر، وتناولت حياة المهمشين الذين يواجهون مصائرهم غير مكترثين بسطوة السلطة أو تغيرات العالم من حولهم.يصفه نقاد كثر بأنه حكاء ماهر، يلتقط شخصياته الأثيرة من قلب الواقع، ويخضعها لعالمه الساحر، معبراً عن المأساة الإنسانية من خلال هموم شخصياته البسيطة وأحلامها، فقد يختار مجموعة من النسوة العجائز اللائي فقدن أزواجهن في الحرب، ويصنع منهن روايته «أصوات الليل»، التي تدور أحداثها في قرية مصرية، عن عجائز تتزايد أعدادهن، ثم يركبن القطار إلى المدينة لصرف معاشهن عن الشهداء، فيعدن بالذاكرة إلى أزواجهن ويفتحن جراحاً كبيرة.وتغري البساطي فترة الحرب العالمية الثانية، فيدخل في أتونها، ويحكي سيرة تبدو للوهلة الأولى سيرة صبي في القرية، كما في روايته «القطار» التي تتطور إلى سيرة وطن بأكمله يتلظى بنيران حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وهذه الرواية تحمل جانباً من السيرة الذاتية للبساطي، حسب اعترافه حينها ووعد بكتابة جزء ثان لها إلا أنه لم يكمله حتى الآن.عن كتابته للريف، يؤكد البساطي في حديث له في معرض القاهرة للكتاب: «أكتب عن الريف الذي عشته والذي هو باق في الذاكرة، ولا أطرح مشاكل الريف بالمعنى الطبقي الاجتماعي، مثل العلاقة بين الفلاح والإقطاعي، أو بين المالك والمستأجر، فهذه الأمور استهلكت في الكتابة وكتبها باستفاضة عبدالرحمن الشرقاوي في رواية الأرض وكتبها يوسف إدريس وكتبها غيرهما. أختار نماذج إنسانية من الريف وأعبر من خلالها عن الهم الإنساني العام، ودائماً ما يكون الاختيار من الفئات المهمشة في الريف أو التي تعيش على أطرافه، وهذه الفئات تعيش عالماً إنسانياً ثرياً من الحكايات والوقائع والثقافة الشعبية، وهو عالم غني للأديب إذا ما اراد أن يتزود به».الاختلاف وعندما يخرج من أجواء الريف إلى المدينة، يسعى البساطي إلى الاختلاف ويربط الأماكن بالأحداث. في روايته «أسوار» يذهب إلى السجن، فيقدم صورة قاسية لمجتمع السجن تخلو من مشاهد التعذيب التقليدية لتكون أكثر واقعية، حيث العلاقات بين الحراس والمساجين، وبين المساجين وبعضهم البعض، كذلك ينتقل إلى غرف الحراس ليظهر السجن على حقيقته القاسية، حيث يتحول الجميع إلى عبيد محبوسين داخل أسوار عالية.ويكشف في روايته «ليال أخرى» عن مرحلة التحولات العاصفة التي وقعت في السبعينيات، عندما عصف أنور السادات بالمثقفين واختار الصلح مع إسرائيل، والتحول بالاقتصاد والمجتمع إلى وجهة مغايرة لما كانت عليه الحال قبل ذلك.يقول البساطي عن الأماكن والعوالم التي يكتب عنها: «أحب أن أكتب عن عالم عشت فيه أو عايشته وعاينته، فتكون قد نشأت بيني وبين وقائع العمل وأحداثه وشخصياته علاقات حميمة، فرواية التاجر والنقاش عن أناس عشت بينهم في أسوان، والمقهى الزجاجي عن وقائع وأحداث عشتها في المنيا، فأنا مع المعايشة الحياتية للعمل الأدبي لأنك عندما تعايش العمل الأدبي يخرج وحده بشكل طبيعي وتلقائي وبعيداً عن الافتعال».محطات حياتهولد البساطي عام 1937 في بلدة الجمالية المطلة على بحيرة المنزلة في محافظة الدقهلية، وحصل على بكالوريوس التجارة عام 1960، عمل مديراً عاماً في الجهاز المركزي للمحاسبات، ورئيساً لتحرير سلسلة «أصوات» الأدبية التي تصدر في القاهرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة».بدأ مشواره الروائي عام 1967 برواية «التاجر والنقاش»، وتبعتها: «المقهى الزجاجي، الأيام الصعبة، بيوت وراء الأشجار، صخب البحيرة، ويأتي القطار، ليال أخرى، الخالدية، جوع». كذلك صدرت له مجموعات قصصية مهمة عدة، أبرزها: «حديث من الطابق الثالث، أحلام رجال قصار العمر، هذا ما كان، منحنى النهر، ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً، ساعة مغرب». وحصل البساطي على جوائز عدة من بينها جائزة أحسن رواية لعام 1994 في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن روايته «صخب البحيرة»، وفاز عام 2001 بجائزة «سلطان العويس» في الرواية والقصة مناصفة مع السوري زكريا تامر، وذكرت لجنة التحكيم في حيثيات منح الجائزة أن «أعمال محمد البساطي تتسم بالاقتضاب البليغ الدال سرداً، وأسلوباً ومعنى، وتتوق إلى استحداث أفق شعري رائق، يعمد إلى التجربة الاجتماعية والنفسية والسياسية فيلقي النور على الجوهري فيها، محتفظاً بما هو إنساني عام، لعرضه ضمن بنية تخيلية تمتاز بالشاعرية».وأضافت اللجنة أن البساطي هو كاتب الإيماء والرمز والألوان الخفية، واللمح السريعة.. إذ تقتضي أعماله حضور القارئ وإسهامه في القص، لقد تمكن البساطي من أن يخط لنفسه أسلوباً يحمل بصمته، وظل يطوره بالغاً به أوج النضج الفني الذي يسر له العكوف على المشاهد الغنية بإنسانيتها وعرضها بتكثيف وشاعرية.