السماء تمطر شعراً - 3
في مدينة ديري الإيرلندية، خصصت لنا نحن الشعراء، أمسيتين، إحداهما كانت طويلة، استغرقت حوالي ثلاث ساعات، تخللتها القراءة بالعربية والإنكليزية ثم محاور النقاش والورشة الشعرية. اخترت نصوصاً كنت أستشعر أنها تصب في المخيال الشيق ذي الطابع الحياتي والوجودي لجمهور الأمسية. كان الاستحسان مدهشاً، وفائق التصور حتى أحسست بالريبة. إن النصوص التي قرأتها كـ"غرفة في آخر العالم" التي اختيرت في الانطلوجيا الشعرية لمهرجان برناسوس الشعري، أضاءت نصوصاً أخرى تلتقي بأخواتها بالمعنى الذي يرفع من منسوب الغياب لكنه في الوقت ذاته ينحني أو يلملم ويحضن فكرة الذات والآخر بالمعنى الإنساني الكبير، وسأفتح قوساً هنا لأؤكد أن تلك الوفرة من صيغ الترحيب والامتنان، كانت كافية لكي تضيء البعد الجمالي لهذه المدينة.في الورشة الشعرية التي ترأستها مع الشاعرة الأسترالية المخضرمة يون كنسلا للكتابة، طرحنا مسألة السفر كثيمة لكتابة شعرية وتأملية، السفر أمثولة تتأمل فيها الذات نفسها وفق اعتبارات متنوعة، سواء أكان السفر سفراً داخلياً منذ الطفولة أو خارجياً في سياق محطات، يعلم أو لا يعلم المسافر أن كليهما سيقودان في نهاية المطاف إلى نقطة الصفر، نقطة العماء، أتذكر ذلك بعد أن قرأت لكتّاب إيرلندا الكبار الذين أناروا الطريق إلى المتاهات الكبرى، إلى الغابات التي لا يعود منها أحد، إلى المدن الحديثة التي لا يعرف فيها أحدٌ أحداً، إلى شخصية بلوم الذي سيبحث في يوم واحد عن ذاته والعالم بطريقة تهكمية وساخرة في رواية يوليسس لجيمس جويس.
كانت ابنتي ارم برفقتي عندما أشارت في الورشة الشعرية إلى أن السفر، مستقبل ماضٍ، فكرة قد لا تتحقق، لربما كانت إمكانية، رغبة، حنيناً، لكن الفكرة على الدوام، هي الرهان على الحياة. في اليوم التالي وفي أيام أخرى لاحقة شاركتني ارم في القراءات الشعرية عبر الإنكليزية بشكل لافت. تذكرت حينها قولة انسي الحاج "نشم أبناءنا قبل أن نلدهم" المأخوذة على نحو غير واعٍ ربما من جبران خليل جبران، عندما قال "أبناؤكم ليسوا لكم، أبناؤكم أبناء الحياة"، على أي حال في اليوم الثالث والأخير، كانت القراءات مخصصة في مبنى "فيربال آرت سنتر"، وكان الحضور نوعياً، قرأتُ عدداً من القصائد التي كان بعضها يشكل ما يمكن أن أسميه أنا شخصياً مفاصل في تجربتي الكتابية.ولأنني رجل محبٌ للموسيقى فقد أضعتُ قدمي بحثاً عن أمكنة تقدم الموسيقى الإيرلندية الأصلية، كرقصة النهر التي أحبها، إنه أمر ممتع، أخاذ، مبهج، فاتن، الإنصات إلى الآلات النفخية والإيقاعات النغمية الريفية.لقد رأيت صبية تعزف بمهارة واستغراق، تأملي كامل، كما لو كانت تقدم من رحمها ابتسامة الوليد الأولى، لحظة مخاض يتجمع حولها المحبون، أمام أنفاسٍ تسمعُ الطبيعةُ كلها، أصداء الألم، والبهجة والضحكة الرقراقة التي تسري في أعماق النهر.هناك شيء ما في" Deri"حجر قديم، مدفعٌ المدينة منذ 1673،وهناك أيضاً أزهار بين الضفاف.هناك شيء ما، غابات، طيور بلا أجنحة،شمس ناحلة في فصل الصيف.كاتدرائيات ومنعطفات معطّرة بروائح القديسين ومتمردو آخر القرن.هناك شيء ما في ديري.هضبة عالية، سفوح خضراء، وأسوار مفتوحة للغائبين.هناك شيء ما في ديرينهر أسود، أيدٍ تلوح للغرباء، لكنة تحملها الريح إلى الغاباتهناك شيء ما في ديرييوم القديس سان باتريكعندما تكون السماء ممطرة ومضيئة،والأرض رطبةهناك شيء ما في ديري.هناك في الحانة الخلفية، ثمة سحابة في الظل.