الحسناء والضابط... قصة حب دموية
في هذه الأوراق، تصادف قتلة ومجرمين وقطاع طرق، ربما تعثر على بعض السكاكين والمسدسات وكثير من العدوانية، لكنك أيضاً ستعثر على أسباب غريبة للجريمة، وعلى ما لا يمكن أن تجده لدى المحللين والخبراء وصناع القرار... إنها أوراق حقيقية من أجندات ضباط مباحث، أتاحوها لقارئ «الجريدة» بما تضمه من وقائع وصور وذكريات مطارداتهم لتلك اليد الخفية، التي عرفتها البشرية منذ الأزل، وهي يد القاتل.
عندما وقع الرائد فؤاد في غرام المضيفة الأرضية الحسناء لم يكن خبر هذا الغرام المحموم وصل إلى رؤسائه أو زملائه بعد. بل كان ضابط المباحث الماهر في عمله ناجحاً بدرجة كبيرة في إخفاء نزواته مع الحسناء مها إلى أبعد حد!كانت مها مضيفة في أحد الفنادق الكبرى المطلة على نهر النيل، وعلى مسافة قريبة من ميدان التحرير، ولم يكن لها سابق معرفة بالرائد فؤاد، رئيس مباحث أحد أقسام الشرطة في شمال القاهرة، لكنها يوم ذهبت لإنجاز بدل فاقد في السجل المدني في ذلك القسم ضايقها تصرف الموظف، الذي تعمَّد تأخير استخراج البطاقة اعتقاداً منه أن الحسناء الشابة ذات كبرياء دفعتها إلى تجاهل كلمات الإعجاب غير المباشرة في حديث الموظف، الذي دعاها إلى الجلوس إلى جواره لإنهاء الإجراءات فرفضت. صعدت مها إلى مكتب رئيس المباحث لتشكو الموظف فبادرها الضابط الذي اشتهر عبر وسائل الإعلام بالترحاب، قرأت في عينيه ما لا يمكن أن تتجاهله امرأة تفرض عليها طبيعة عملها توسيع دائرة علاقاتها.خلال ساعات تسلمت مها بطاقتها، وخلال أيام كان الضابط والمضيفة سمناً على عسل. هذا ما عرفناه في وقت متأخر وبعد أن وقعت الفأس في الرأس! لكن للحق والحقيقة، أسجل هنا أن علاقة مها بالضابط لم تؤثر على عمله، وإنما كانت علاقة رجل بامرأة، رجل جديد وغريب على النزوات والمغامرات النسائية، وامرأة شعرت أنها أخيراً عثرت على نصفها الحلو وأن زواجها منه سيعوضها الحنان المفقود بوفاة والديها... فهي كانت تعيش بمفردها في شقة والديها، بينما شقيقها الوحيد يعيش مع زوجته في الإسكندرية وتمنعه ظروف عمله من زيارة أخته إلا مرة خلال بضعة أشهر. هذه لمحة سريعة عن حسناء الفندق الشهير. فماذا عن الرائد فؤاد؟عملياً ومهنياً، كان فؤاد من أوائل دفعته، ولذكائه الشديد وحسه الأمني المرتفع التحق بالمباحث في سن مبكرة ورتبته صغيرة. وكان لرؤسائه الحق كله في ترشيحه بعدما أثبت وهو ملازم قدرة فائقة في كشف الجرائم والقبض على المجرمين على رغم حداثة رتبته. استمر فؤاد في تألقه وحالفه التوفيق وترقى خلال سنوات قليلة حتى صار أصغر رئيس مباحث أحد أقسام القاهرة ذات الدوائر الشاسعة ونسبة الجريمة المرتفعة فكانت بصمات فؤاد واضحة في تضاؤل نسب الجريمة واستتباب الأمن. أما شخصياً، فقد كان فؤاد ريفياً من إحدى محافظات الدلتا، لم يعرف القاهرة إلا حينما التحق بكلية الشرطة، وكان من أسرار تفوقه الدراسي حتى تخرج في كليته أنه لم يمر بفترة مراهقة ولا هو سبح في بحور المرأة ولا حتى اقترب من شواطئها. كان وقت فراغه كله مشغولاً بالرياضة وكمال الأجسام، فكان يبدو كشاب عملاق لا يمر أمام عيون النساء مرور الكرام! وأسجِّل هنا أن مجتمع الشرطة ليس مجتمعاً ملائكياً كله... ولا هو من الشياطين، لكن شأنه شأن المجتمعات الأخرى من المهن المختلفة: قاعدة عريضة سليمة، وقلة تقع في الأخطاء والخطايا عن عمد أو جهل أو سوء أو حسن نية، لذا كان طبيعياً أن تلحس هذه الحسناء عقل الرائد فؤاد وتلفت نظره للمرة الأولى إلى رقة ونعومة وأنوثة الجنس الناعم، هو نفسه اعترف لي في النهاية بأنه لم يحب مها ولم يفكر في الارتباط بها ولم يحلم بأن تكون شريكة حياته وأم أولاده، لكنه في الوقت نفسه كان يرى فيها الشاطئ الذي يستجم فوق رماله الدافئة فتجري الدماء في عروقه مهما كانت برودة الجو. ربما كانت أيضاً نسمة الهواء العليلة التي ترد له الروح مهما كان الجو ملتهباً.لم يزد الأمر عنده عن امرأة تعينه على تأجيل فكرة الزواج حتى يعثر على من تستحق شرف أن تكون أماً لأولاده، وفي غمار هذه المشاعر نسى أو تناسى أن مها أحبته بصدق ولم تفرط في ما فرطت فيه إلا لأنها اعتبرته زوج المستقبل. وكان طبيعياً بعد مرور ثلاث سنوات على هذه العلاقة أن تشعر بالقلق من ناحية، وأن تفوح رائحة العلاقة للمقربين من الرائد فؤاد الذي قرر فوراً تهدئة اللعب والبعد عن الشبهات والحفاظ على مستقبله وسيرته والتضحية بالنهر الذي كان يغترف منه ليروي ظمأه وقتما شاء وبالشكل الذي يريده. وانسحبت مها بهدوء من حياة الضابط الشاب لتوقف نزيف الخسائر وتداوي جراح القلب الموجوع! لكن لا هي ولا فؤاد كان أحدهما يتوقع ما تخبئه له الأيام من أحداث ومفاجآت ووقائع مثيرة.قـــارب النجـــاةذات يوم، وبينما كانت مها تمارس عملها في الفندق الشهير بدأت تترجم تصرفات أحد زبائن اللوبي تجاهها، فهمت أخيراً أنه يعيش على أمل بأن يفوز منها بابتسامة رضا أو حوار هامس كانت تتجاهله. كانت تؤمن ألا علاج لحب مهزوم إلا حب جديد يرفع معنويات صاحبه، ولا يمكن نسيان رجل إلا برجل آخر، ولا يمكن نسيان الذكريات إلا بأحداث جديدة ومتجددة تزرع ذكريات تمحو بها الماضي تدريجاً، لذا لم تتردد في تغيير أسلوب معاملتها لهذا الرجل الذي كان لا يمضي في الفندق أكثر من ساعة زمن يشرب خلالها فنجان القهوة ويشعل بعضاً من سجائره ثم ينصرف. اقتربت منه ومنحته ابتسامة الرضا فدبت السعادة في عروقه... بادرته بالحوار فلم يصدق نفسه. وكانت المفاجآة المذهلة لمها حينما عرفت أن علاء ضابط شرطة نظامي. أدهشها هذا الحظ الغريب الذي يوقعها في طريق الضباط، لكنها شعرت بالسعادة بعدما سمحت لنفسها بمقابلة علاء بعيداً عن عملها... إنه ضابط وهذه الصفة وحدها ستجعل فؤاد يشعر بالندم، خصوصاً أن علاء عرض عليها الزواج الرسمي على يد مأذون وعلى سنة الله ورسوله. صارحها بحبه الجارف خلال العامين الأخيرين وأنه كان يتردد على الفندق الشهير لرؤيتها فحسب على رغم تجاهلها له. أسعدها أن تسمع منه ثقته فيها وبأنه تأكد من أنها على رغم طبيعة عملها شبه المتحرر تحافظ على سمعتها وشرفها وتبخل حتى بابتسامة للمتطفلين عليها من أمثاله.فرحت مها بالرجل الذي أحبها فالمرأة يمكنها أن تسيطر على رجل يحبها بينما تكون أسيرة لرجل تحبه هي. كما أن مها في الظروف التي قابلت فيها علاء كانت من هذا النوع من النساء الذي يحتاج إلى رجل طيب متلهف، يفرط في الحب والثقة والتسامح إذا لزم الأمر. كان عيب علاء الوحيد لدى مها أنه متزوج وأب لطفلين، لكن ما طمأنها هو اعترافه لها بأن زوجته أحالت حياته إلى جهنم الحمراء وأنه لم يتزوجها عن حب ولم يصبر عليها سبع سنوات إلا لأجل طفليه من ناحية، وحتى يعثر على المرأة الذي تملأ عينه وحياته ويثق فيها من ناحية أخرى.تحدد موعد الزواج أول أغسطس بعد ستة أشهر فقط من اللقاء الأول، وكانت المفاجآة الثانية حينما تحدث علاء عن ذكريات شبابه في كلية الشرطة وأن أقرب زملاء دفعته كان فؤاد الذي يترأس مباحث القسم الذي تسكن فيه مها. سألها علاء: هل تعرفينه؟ ارتبكت ثم تماسكت وراحت تمتدح أخلاق فؤاد وكيف ساعدها في استخراج بدل فاقد لبطاقتها بأدب جم ولسان عف.قبل الزفاف بثلاثة أيام زار علاء زميل دفعته، ففوجئ الرائد فؤاد بالزيارة وبالحديث الذي جرى على لسان زميله حينما زف إليه في سعادة غامرة خبر زواجه لإحدى بنات دائرته اسمها مها.تفاجأ فؤاد، لكن سرعان ما تمالك نفسه وهو يهنئ علاء مؤكداً له أنه لا يتذكر صاحبة هذا الاسم، لكن لا بد أنها إنسانة فاضلة ما دام وقع عليها اختيار زميله علاء. لم ينم الرائد فؤاد ليلته. هل أخطأ حينما لم ينصح زميله بعدم الزواج من مها؟! أم أنه أصاب بستره لامرأة يظن زميله أنه سيكون أول من دخل بها؟ على آي حال كان القرار النهائي لفؤاد عدم حضور الحفلة البسيطة التي دعاه إليها علاء في عش الزوجية الذي سيكون هو نفسه شقة مها التي ورثتها عن أبويها... سيكتفي فؤاد بإرسال باقة ورد كبيرة وهدية ثمينة وبطاقة باسمه تحمل كلمات تهنئة رقيقة... هكذا كان القرار الذي ارتاح معه ضميره وساعده على النوم ساعتين فقط بعدما بزغ ضوء النهار.البــلاغ الصعـــبمنذ ليلة الزفاف الأولى اكتشفت مها أنها تحب فؤاد في شخص علاء، وأنها كانت بين ذراعي علاء لا تشم إلا عطر فؤاد، ولا تسمع إلا صوته، ولا تشعر إلا بأنامله تتسلل بين شعرها الناعم الطويل وكأنها لمسة ساحر! ولم تتغير الليالي والأسابيع والأشهر التالية عن المشاعر نفسها. انقسمت مها إلى امرأتين إحداهما مع فؤاد بكل ما ينبض به قلبها من دقات تكاد أن تسمعها من بين ضلوعها، والثانية مع علاء تمنحه حقه الشرعي بمقتضى عقد الزواج لا أكثر. ولأنها كانت تعشق الكتابة وتدون مذكراتها يوماً بيوم حرصت على أن تظل أجندتها الخاصة بعيدة عن علاء فلا ذنب له في كل ما حدث ولا يستحق منها أن تصدمه وهو الذي خسر بيته وطفليه من أجلها بعدما رفعت زوجته الأولى قضية طلاق وكسبتها.مرّ عام ونصف العام على زواج علاء ومها، من دون أن يتسرَّب عنهما أي خبر حتى كانت ليلة ليلاء، تلقى فيها الرائد فؤاد بلاغاً من جيران مها بأنهم سمعوا صوت طلقات رصاص متتالية في شقتها في التاسعة مساء فلما فتحوا الأبواب شاهدوا زوجها يسرع بالهرب شاهراً مسدسه وخلفه إحدى السيدات التي تعثرت ووقعت وتمكن الجيران من استبقائها معهم وعلموا منها أنها شقيقة الرائد علاء زوج جارتهم! ولما عادوا إلى الشقة فوجئوا بجثة مها وقد اخترقت إحدى الرصاصات رأسها.لسوء حظ الرائد فؤاد أن وكيل النيابة التابعة له دائرة القسم كان في زيارة للحجز للتفتيش عليه، فلما وصل البلاغ انتقل مع الرائد فؤاد إلى مكان الحادث، ومعهما النقيب طارق معاون المباحث الذي كان على دراية بعلاقة رئيسه مع مها قبل زواجها.ولأن المتهم ضابط شرطة، توجهت مع بعض قيادات مديرية الأمن في مكان الحادث أيضاً فور تلقينا البلاغ. لفت انتباهي بشدة اصفرار وجه الرائد فؤاد بشكل غريب وارتباكه الشديد حينما طلب منه وكيل النيابة معاينة الجثة من جميع جوانبها لتحديد أماكن الإصابات. كنت مندهشاً من الرائد فؤاد، الذي كان يقلب الجثث في الحوادث الكبيرة بقلب أسد جسور، بينما كان في تلك اللحظة لا تقوى يداه على لمس جثة مها! أما الأغرب والأكثر إثارة فكان رؤيتي الخاطفة للنقيب طارق وهو يتصفح أجندة عثر عليها أثناء تفتيش الشقة ثم حرص على إخفائها داخل ملابسه من دون أن يقدمها ضمن أحراز القضية، وصارحني في ما بعد أنه كان يرتجف وهو يقرأ السطور المكتوبة بخط يدها وتسجل فيها كل ما دار بينها وبين الرائد فؤاد، خصوصاً الصفحة الأخيرة المكتوبة صباح هذا اليوم وتعترف فيها بأنها أصرت على الطلاق من علاء لأن حياتها على ذكريات حبها لفؤاد أهون من أن تعيش مع رجل لا تحبه.وأدلت شقيقة الرائد علاء بأقوالها في محضر التحقيق، قالت:«طلب مني أخي الحضور معه الليلة لإقناع زوجته بعدم الطلاق بعدما خرب بيته بيديه لأجلها وخسر زوجته وطفليه... وفعلاً، حضرت معه، لكن مها ركبت رأسها وأصرت على إحضار المآذون لتطليقها، ولما سألها أخي إن كان في حياتها رجل آخر أجابت بكل وضوح: نعم... في تلك اللحظة، فقد أخي أعصابه وأخرج مسدسه وأطلق النار عليها. حدث هذا كله في لحظات من دون أن أستطيع منع أخي من الجريمة».* * *كان الظن أن علاء هرب، لكن ما إن عدنا جميعاً حتى فوجئنا به يجلس داخل مكتب الرائد فؤاد وسلم له نفسه وهو يبكي. وحاول الرائد فؤاد أن يواسيه، لكن علاء كان يردد في هيستيرية بأنه كان يتمنى أن يعرف من مها قبل وفاتها من هو الرجل الذي كانت تحبه.أعتقد أن سؤال علاء كان هو الكرباج الذي يجلد به ضمير الرائد فؤاد من دون أن يشعر، حتى بعدما حكمت المحكمة على علاء بالسجن المشدَّد عشر سنوات.جاءني الرائد فؤاد آنذاك وصارحني بحالة الاكتئاب التي يمر بها كلما تخيل ماذا كان يمكن أن يحدث له لو وقعت مذكرات مها في يد علاء... أو وكيل النيابة. ووعدني بأن يكون هذا الحادث هو نقطة التحول الخطيرة في حياته نحو الاستقامة.. فعلاً، زاد احترامي له في السنوات التالية، حينما علمت بمواظبته على الصلاة والإسراع في الزواج والابتعاد عن الشبهات حتى ترقى ووصل إلى منصب قيادي كبير في مباحث وزارة الداخلية، لكني وبمشاعر الأخ الأكبر كنت حزيناً للغاية على ضياع مستقبل الرائد علاء الذي مات في السجن بعد خمس سنوات فقط من صدور الحكم عليه.وهذه هي الدنيا، ليس كما عشتها فحسب، ولكن كما أقرأها في أجندة الحسناء القتيلة. لقد حاول معاون المباحث أن يمزقها، لكني جذبتها منه وما زلت أحتفظ بها في بيتي.