فيليكس باومغارتنر... مغامرة السقوط إلى الأعلى

نشر في 16-10-2012 | 00:01
آخر تحديث 16-10-2012 | 00:01
دخل المغامر النمساوي فيليكس باومغارتنر التاريخ من أوسع أبوابه بعد قفزة حرة قام بها من حدود الفضاء إلى الأرض، لمسافة وصلت إلى نحو 128 ألف قدم، ووصلت سرعته إلى 729 ميلا في الساعة. وتصدر خبره وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، و{فيسبوك» و{يوتيوب» حيث حظي بتعليقات مزجت بين السياسة والفكاهة والدهشة وصولاً إلى السخافة، واستعادة بعض العرب عباس بن فرناس .
ما معنى أن يغامر الرجل في حياته، المغامرة في معناها اللغوي تعني «مفاجأة مثيرة»، وحدث خارق مليء بالمخاطر. ولكن مغامرة فيليكس باومغارتنر كانت أقرب إلى «الروليت الروسي». هو الحدث، لكنه كان يرقص مع ملاك الموت من الفضاء، وفي نجاحه يرقص مع المجد، وبين الرقصتين خيط رفيع أو شعرة معاوية.

 تابعنا المغامر النمساوي الذي تصدر واجهة الأخبار العالمية، بعضنا يحسد شهرته العالمية، وبعضنا الآخر يقول: «مجنون هذا»، فيما ردد كثر: «ماذا يفعل، وإلى أين سيصل، وماذا بعد النجاح؟!}.

 بالطبع ثمة سر ما في روح كل مغامر لا يدركه إلا صاحبه، ربما يكون جوهر المغامرة في الحياة محاولة قتل الملل الذي يصيب الإنسان أو الشعور بالتفوق أو محاولة إرضاء الذات. فيليكس، ابن الثلاثة والأربعين عاماً، جعل جمهوراً عريضاً في العالم مسمراً قبالة شاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت يراقب قفزته الخطيرة. كثر منا سأل عن شعوره وهو في الفضاء وليس عن قفزته، بماذا كان يفكر لحظة القفزة، هل فكر في الموت أم في رفع علامة النصر؟ هل تحولت مخيلته شريط ذكريات أم أغمض عينيه وهوى في الفضاء السحيق؟! كل شيء في مخيلة فيليكس وهو يقفز من الفضاء كان مثل برق، برق قفزة قد يتحول فيلماً سينمائياً أو رواية فيها من التراجيديا والمغامرة ما يكفي.

انطلقت هتافات كثيرة... إنه فيليكس يقفز من فوق لوح في حجم لوح التزلج يمتد خارج كبسولة مصنوعة من الألياف الزجاجيّة والإكريليك يبلغ طولها 11 قدماً وعرضها ثمانية أقدام والتي حملها بالون ضخم إلى ارتفاع 128 ألف قدم. وصاح حشد المتفرجين أثناء سقوط المغامر النمساوي عبر الطبقة العليا من الغلاف الجوي قائلين «نحبك يا فيليكس!». كأن هذا الرجل لاعب واحد في مقابل هذا الكون، أدخل أول هدف في هذا الفضاء المليء بالأسرار، الذي يحاول الإنسان بكل جهد أن يمارس سطوته عليه، لكن حتى الآن تبدو البشرية كلها على وجه الأرض كأنها مجرد «صعلوك» لا يمكنه فعل شيء، أمام هول الكواكب واتساع الفضاء وأنواع النجوم ولهيب الشمس.

يكمن إنجاز «المجنون الجميل» فيليكس في أنه أصبح أول إنسان يحطم حاجز الصوت في سقوط حرّ، وجاءت قفزته باتجاه الأرض في الذكرى الخامسة والستين لرحلة الطيار الأميركي الأسطورة تشاك ييجر الذي كسر حاجز الصوت في 14 أكتوبر عام 1947. وحطم باومغارتنر الرقمين القياسيين لأعلى ارتفاع يصل إليه بالون مأهول وأعلى ارتفاع للقفز الحرّ بالمظلة قبل أن يهبط بسلام على الأرض ويرفع ذراعيه في إشارة إلى النصر بعد نحو عشر دقائق من بداية القفز.

حرب من نوع آخر

اللافت في قفزة فيليكس أنها كانت تتويجاً لنوع آخر من السباق في الوعي الاجتماعي، فعلى مدى عقود وحتى اليوم كانت البلدان الكبرى والعظمى في سباق حول غزو الفضاء بدءاً من الكلبة الروسية لايكا التي دارت حول الأرض مروراً بالروسي يوري غاغارين أول رائد فضاء في تاريخ البشرية، وصولاً إلى الأميركي نيل أرمسترونغ (توفي قبل أسابيع) أول رائد فضاء ينزل على سطح القمر. كان سباق الفضاء إحدى علامات الصراع الدولي و{الحرب الباردة»، من يغزو العالم الخارجي يشكل النقاط لمصلحته. والأرجح أن هذه القضية مستمرة حتى الآن مع كثير من التجارب الفضائية حول تصوير المريخ وما عليه، وحتى الآن ما زالت النتائج ضئيلة.

وحين نقول غزو الفضاء نقصد بذلك بعض الدول المحورية من اليابان إلى الصين وروسيا وأميركا وفرنسا وغيرها. توظف هذه الدول إمكاناتها الضخمة في سبيل أشياء يمكن وصفها بالرمزية والمعنوية، وكل الخبراء والاختصاصيين في الشؤون الفضائية والجوية هم في خدمة بلادهم. أما المغامر النمساوي فميزته أنه ابن العصامية والتجربة الفردية، وليس وليد مؤسسة كبرى، ويأتي من بلد ليس في واجهة البلدان القوية، وتكمن فرادته في رموزه الثقافية، من الرسام غوستاف كليميت الذي صار «أيقونة النمسا»، وعالم النفس سيغموند فرويد، إلى المتاحف الضخمة والعمارات القديمة والمقاهي التي كان يزورها لينين، فضلاً عن الموسيقى الكلاسيكية والروائي ستيفان وزفايغ والشاعر ريلكه... سيكون فيليكس أحد الرموز الجديدة في المستقبل... فقد «رفع» اسم بلاده فضائياً وليس عالياً فحسب.

مواقع التواصل

أبهرت قفزة فيليكس العالم أجمع، دقائق كانت كافية ليشعر العالم بالذهول والدهشة، ودقائق كانت كافية لتنتعش مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات الطريفة والغريبة والسخيفة والجميلة والمعبّرة، غير أن التوجهات نحو هذه القفزة اختلفت من بلد إلى آخر. في مصر، غرَّد أحدهم على «تويتر» قائلاً: «في عهد سيادة الرئيس محمد مرسي، قفز فيليكس من الفضاء»، وقال آخر: «فيليكس يصل من الفضاء إلى الأرض في ثلاث دقائق وأنا أذهب إلى الجامعة التي في نفس الكوكب والبلد في ساعتين». كذلك ثمة ما حاول استنباط حكمة من القفزة: «تعلّمت أن بعضَ السقوطِ يرفعُ صاحبَه...!». على أن السخرية كانت أبرز التعليقات حول فليكيس، فنقل أحدهم مشاركة جاء فيها: «يا أمة ضحكت من جهلها الأمم... بصراحة بعد الذي عمله فيليكس، موسوعة غينس يجب أن تحذف بعض الأرقام المخجلة، وخصوصاً المسجلة باسم العرب لأن معظمها عن الطبخ والمشروبات... ورغم من ذلك كله غداً يطل علينا ما يريد أن يحضر أكبر صحن ملوخية».

الحال أننا نشهد موجة دائمة تقارن بين إنجازات الغرب و{إنجازات» البلدان العربية، وفي ذلك نوع من جلد الذات وأحياناً من نرجسية مريضة وغرور فاقع. فعلى وجه السرعة، استحضر بعضهم عبر «فايسبوك» و{تويتر» شخصية الأندلسي عباس بن فرناس الذي يعتبر في رأيهم أول من اخترق الجو من البشر وأول من فكر في الطيران واعتبره المنصفون أول رائد للفضاء وأول مخترع للطيران، فقد كسا نفسه الريش ومد له جناحين طار بهما في الجو مسافة بعيدة، ثم سقط فتأذى في ظهره. (وقيل إنه كسر ضلعاً فقط من أضلاعه) وكان عمره آنذاك يقارب الخمسة والستين عاماً.

سياسة

لم تنج قفزة فليكس من الجعجعة السياسية أو من الربط بين النزول إلى الأرض والصعود إلى الملأ الأعلى، وجاء بعض التعليقات متبايناً وساخناً، فأشار أحد المعلقين على «تويتر» أن قفزة فيليكس يشاهدها العالم كله بينما قفزة الرئيس السوري بشار الأسد على دماء شعبه غير مشاهدة على الإطلاق. وكتب آخر معتبراً أن قفزة فيليكس إلى أسفل تستحق الإعجاب فعلاً… ولكن الذي يستحق الإعجاب أكثر هم عشرات الشهداء في سورية... الذين قفزوا اليوم إلى أعلى!

 وجاء تعليق آخر معبراً عن الاستياء لما حل بالأمة العربية من تخلف وتأخر، وتحدث عن قفزة عباس بن فرناس منذ أكثر من ألف عام، مبدياً تأسفه على أن فيليكس الغربي هو من يقفز اليوم، وتساءل: هل تتوقعون أن نعود لنتقدم ونقفز؟ إحدى الناشطات العربيات علقت بدورها: «نجح فيلكس لأنه ليس عربياً، يحطمه شعبه، وترفضه دولته، ويؤكل حقه بثمن بخس».

وكمعلق رياضي عقّب شاب من طولكرم على قفزة «فيليكس»، وكأنه مذيع رياضي يعلق على مباراة حامية الوطيس، فكتب:

«فيلكيس بدو يقفز

فيليكس جآهز للقفز...

فيليكس مستعد!

فيليكس عمّ يحمي»!

كتب أحد الصحافيين الأردنيين تغطية لأجواء القفزة في الأردن قائلاً وإن أخفق فيليكس في تحقيق هدفه بتحطيم نظريات نيوتن الفيزيائية حول الجاذبية الأرضية، نجح الأردنيون في تحطيم الصورة النمطية المتعارفة عنهم بـ «الكشرة» والجدية في حياتهم، مطلقين العنان لروحهم الفكاهية والناقدة، فربطت العبارات والتغريدات بين اللحظة التاريخية وبين السياسة الأردنية، أبرزها: «الحكومة الأردنية ترفض الاعتراف بقفزة المغامر فيليكس كونه لا يحمل شهادة التوجيهي من الأردن»، «الحكومة الأردنية تفكر بفرض ضريبة هبوط على المغامر فيليكس إذا هبط في الأردن والمعايطة يؤكد… ثم ينفي»... وانتقدت عبارات أخرى التلفزيون الأردني وعدم مواكبته للأحداث بعبارة «عاجل التلفزيون الأردني: وفاة عباس بن فرناس بمحاولة فاشلة للطيران».

في لبنان تحوَّلت تغريدة أخرى منقولة عن حساب النائب اللبناني سامي الجميل إلى إطلاق النِّكات حول كيفيَّة تعاطي التلفزيون الرسمي اللبناني مع الحدث، وهو المتَّهم دائمًا بتأخّره في نقل الوقائع وكتبت: «عاجل تلفزيون لبنان: رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ يصل إلى سطح القمر».

فنانات

نجمات العالم العربي كان لهن بعض التعليقات الفيسبوكية والتويترية على «القفزة» الفيليكسية، في تعليق لشريهان: «فيليكس في الفضاء يكتب التاريخ ونحن نريق الدماء لنكتب دستور». أما الفنانة الإماراتية أحلام التي كتبت تغريدات عدة على تويتر فبيَّنت عن متابعتها لحظة بلحظة دقائق القفزة التاريخية، ودعت لباومغارتنر بالتوفيق واصفة إياه بالمغامر.

وبدأت المغنية اللبنانية إليسا تغريداتها بالدعاء والثناء على هذه الخطوة، فيما عبرت هيفا وهبي عن حماستها ومتابعتها للقفزة، وطغت الطرافة على تغيرات الفنانة العراقية شذى حسون التي تساءلت ما إذا كان سينجح في تحقيق حلمه أم سيترحَّم العالم عليه، ونشرت صورة أخرى من كليبها الأخير «علاء الدين» وهي ترمي بنفسها من مبنى عالٍ وتقارن بينها وبين فيليكس.

الأدب

هل تفتح قفزة فيليكس نمطاً جديداً في الكتابة الروائية على الفضاء الخارجي؟ الأرجح أنه من المبكر الحديث عن هذا الأمر. لكن ما نعلمه أن الإنسان تعلق بالفضاء منذ القدم، كان يبحث عن معرفة الكون وما فيه من أسرار وعجائب منذ زمن طويل. وحاول الكثير من الناس الطيران إلى السماء ونذكر على سبيل المثال ايكاروس اليوناني الذي صنع لنفسه أجنحة من ريش الطيور كأول من حاول ارتياد الفضاء، ولا ننسى العالم العربي عباس بن فرناس الأندلسي الذي حاول القفز والطيران ولكنه سقط.

وبعد ذلك حاول الإنسان صنع الطائرات وتطور ذلك عبر السنين إلى أن استطاع الأخوان رايت صنع طائرة، وتطورت الطائرات حتى تجاوزت سرعتها سرعة الصوت، ثم صنعت الصواريخ وحاول العلماء زيادة السرعة للاقتراب من سرعة الضوء كي يصل إلى أكثر مسافة ممكنة في الفضاء بأقصر وقت ممكن.

إلى حافة الفضاء

ولد فيليكس باومغارتنر في مدينة سالزبرغ النمساوية عام 1969، وكان يحلم منذ طفولته بالقفز الحر من السماء وقيادة الطائرات الهليكوبتر، ونجح في القيام بأول قفزة من هذا النوع وهو في سن السادسة عشرة، ثم صقل مهارته في القفز الحر من خلال الانضمام إلى فريق استعراض القوات الخاصة النمساوية ليتحول إلى قافز حر محترف. في عام 1988، راح يقيم عروض قفز حر لصالح «ريد بُل»، حيث توافق الفكر غير التقليدي للشركة مع روح المغامرة لديه ليتعاونا معاً منذ ذلك الحين.

بحلول التسعينيات، رأى باومغارتنر أنه وصل إلى أقصى نقطة ممكنة في القفز الحر ومدَّ نشاطه إلى رياضة القفز من الأماكن الثابتة بالمظلة، حيث وجد أن ردود الفعل والتقنيات المحددة المطلوبة للارتفاعات المنخفضة لتلك الرياضة تعمل أيضاً على تحسين أسلوبه في القفز الحر من على مسافات شديدة الارتفاع.

وقد تمكن من تسجيل أرقام قياسية عالمية في القفز من أماكن ثابتة، وهو أحد الداعمين لمؤسسة أبحاث النخاع الشوكي غير الربحية «وينغز فور لايف»، ويأمل بأن تكون تجربة «ريد بُل» علامة بارزة في تاريخ أسطورته الرياضية.

ورغم معرفته أن مغامرة «ريد بُل ستراتوس» خطوة نحو المجهول، إلا أن عزمه على الوصول إلى حافة الفضاء وكسر حاجز الصوت أمر لا يقبل الجدال لديه، فهو يعتبر أن مشاركته مصدر فخر له.

إنجازاته وأرقامه القياسية

- 1997: حصل على لقب بطل العالم في القفز من مكان ثابت في ولاية ويست فيرجينا الأميركية.

- 1999: حقق رقماً قياسياً عالمياً في أعلى قفزة منخفضة من مكان ثابت، تمثال المسيح في العاصمة البرازيلية ريو دي جانيرو (95 قدماً).

- 1999: حقق رقماً قياسياً عالمياً في أعلى قفزة من مكان ثابت، من فوق برج «بتروناس» في العاصمة الماليزية كوالا لامبور (1479 قدماً).

- 2001: ترشَّح لجائزة «وورلد سبورتس» في العاصمة البريطانية لندن عن فئة الرياضات الخطرة.

- 2003: نجح في عبور قناة المانش الفاصلة بين بريطانيا وفرنسا من خلال جناح من الكربون.

- 2004: قفز داخل كهف «مارمت» في كرواتيا والذي يصل عمقه إلى 623 قدماً.

- 2006: نجح في الحصول على رخصة قيادة الهليكوبتر من خلال مدرسة لتعليم قيادة الطائرات المروحية في الولايات المتحدة.

- 2007: استطاع ممارسة القفز من مكان ثابت، فقفز من أطول مبنى في العالم آنذاك (برج «تايبيه 101» في تايوان والذي يصل ارتفاعه إلى 1669 قدماً).

- 2012: قام بأول تجربة قفز من بالون على ارتفاع شاهق في 15 مارس من كبسولة مضغوطة، فمارس السقوط الحر من ارتفاع 71581 قدماً فوق مدينة «روزيل» الأميركية بسرعة تصل إلى 364.4 ميلاً في الساعة، ويعد ثالث شخص يستطيع الهبوط من ذلك الارتفاع وينجو من الموت.

- 2012 (25 يوليو): نجح في القفز من ارتفاع 97063 قدماً فوق سطح البحر (29 كم) وأكمل سقوطاً حراً بسرعة طائرة تجارية (864 كم/ ساعة) وهو إنجاز رائع في تاريخ القفز الحر، وخطوة أثبتت سلامة أنظمة الأمان وعملها بكفاءة استعداداً لمغامرة «ريد بُل» التي تتضمن القفز من ارتفاع 120 ألف قدم.

back to top