التحول إلى مركز مالي في بيئة غير ملائمة

نشر في 15-04-2012
آخر تحديث 15-04-2012 | 00:01
 د. علي العبدالرزاق مطلوب إعادة تدوير الثروة النفطية وتنويع النشاط الاقتصادي

إن مؤشرات العلة في القطاع المالي الكويتي تستوجب القيام بإصلاحات ملحة وإعادة بناء استراتيجية جديدة. فخلال العقود الثلاثة الماضية أفضت السياسات الخاطئة وتراخي القوانين وأنظمة الإشراف إلى تكرار حوادث المحن المحلية التي تطلبت في كل مناسبة عملية ضخ ضخمة للأموال العامة من أجل الدعم وحزم الإنقاذ.

موجة الاحتجاج الشبابية التي اجتاحت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة ضد مظاهر الجشع والتفاوت الاجتماعي وضعف الكفاءة في القطاع المالي، قد تجد صدى لها في العديد من أرجاء العالم العربي الذي عانى من تبعات مشابهة بفعل التوسع غير المنضبط في قطاعاته المالية. والكويت هي أحد النماذج التي عانت مثل ذلك التوسع. ففي منتصف السبعينيات من القرن الماضي قررت الحكومة الكويتية اعتماد الأعمال المالية والمصرفية قطاعا رائدا في الاقتصاد المحلي، وتركز هذا التوجه الاستراتيجي في اطار جزئي بغية التوصل الى قنوات يمكن من خلالها تحقيق هدف اعادة تدوير الثروة النفطية والعمل على تنويع النشاط الاقتصادي بعيداً عن النفط وسبر مصادر جديدة للدخل أكثر استدامة.

وبفضل سياسات الدعم الحكومي الى حد كبير، أضحى قطاع الشركات الكويتية المساهمة العامة اليوم يشتمل على نحو 300 شركة غالبيتها مؤسسات مالية ومصرفية واستثمارية. ويغدو انتشار الأنشطة المالية أكثر اتساعاً اذا ما أخذنا في الحسبان كل تلك الشركات العاملة في أنشطة الخدمات والصناعة والتي تدير لحسابها محافظ استثمارية كبيرة أو تنشط في تعاملات استثمارية ذات طابع مالي.

وقد حظي هذا الانتشار بدعم من عاملين رئيسيين، الأول هو الدعم الحكومي المتكرر وعمليات الانقاذ التي أعقبت كل محنة مالية. وقد تدخلت الحكومة المرة تلو المرة من خلال ضخ الأموال بصورة مباشرة وشراء أسهم الشركات المفلسة عن طريق ذراعها الاستثمارية المتمثلة في الهيئة العامة للاستثمار.

وتمثل العامل الثاني في الإطار التنظيمي الفضفاض ومسؤوليات الاشراف المتداخلة والمتشظية لمختلف الهيئات الحكومية وغياب هيئة أسواق المال حتى وقت قريب جداً. ومما فاقم من سوء الأوضاع منع الشركات الأجنبية من دخول السوق المحلية، الأمر الذي أفضى الى ايجاد أرضية خصبة انعدمت فيها الكفاءة وسادها الفساد والسلوك اللاهث وراء المكاسب الريعية.

لذا وبدلاً من ضمان تحول الكويت الى مركز مالي اقليمي وعالمي، اتجهت الكويت وبشكل تدريجي لتصبح مركز حلم مالي يخدم احتياجات فئة صغيرة من فئات المجتمع وعلى حساب ثروات البلاد والمال العام. وكان المستفيد الرئيسي من ذلك هم مديرو الاستثمار وكبار ملاك الأسهم الذين كانت أسماؤهم تتكرر في العديد من الشركات والذين واصلوا تلقيهم للأموال والمكافآت السخية، وكذلك صغار المساهمين الذين حققوا بعضا من الأرباح مع اطمئنانهم الى ان رؤوس أموالهم لن تنقص قط لأن الجهة الراعية الموجودة على مقربة كانت مستعدة دائماً للتدخل لإنقاذهم متى دعت الحاجة الى ذلك.

وباختصار، خلقت هذه الظروف بيئة ملائمة وبوتيرة متسارعة نحو قيام قطاع شركات مساهمة في الكويت تهيمن عليه الأنشطة المالية والمصرفية.

واليوم لاتزال آثار وتداعيات الأزمة المالية العالمية لعام 2008 تخيم على قطاع الشركات الكويتية المساهمة، حيث ما زالت العشرات من الشركات المالية والاستثمارية المتعثرة تصارع من أجل البقاء، وهي تتعلق بفسحة الأمل في انقاذ جديد عبر دورة اخرى من الإنفاق الحكومي وصفقات الانتشال من الغرق. ولكن يبدو أنه بات من المخجل أن تتكرر الرواية من جديد. وفي حقيقة الأمر، بدأ العديد من المواطنين التشكيك في سلامة سياسات الماضي، وهم يتساءلون ما اذا كانت الحكومة تملك الشجاعة الكافية لكي تطلق رصاصة الرحمة هذه المرة.

إن مؤشرات العلة في القطاع المالي الكويتي، والتي غدت جلية جداً في أعقاب الأزمة المالية العالمية تستوجب القيام بإصلاحات ملحة واعادة بناء استراتيجية جديدة. فخلال العقود الثلاثة الماضية أفضت السياسات الخاطئة وتراخي القوانين وأنظمة الإشراف الى تكرار حوادث المحن المحلية التي تطلبت في كل مناسبة عملية ضخ ضخمة للأموال العامة من أجل الدعم وحزم الانقاذ ومن دون أن يكون لها أي اسهام جوهري في تعضيد الاستدامة الطويلة الأجل للاقتصاد.

واضافة الى النزيف المالي الناجم عن عمليات الانقاذ هذه ثمة جانب حظي بقدر أقل من الدعاية ولكنه قاتم بالقدر ذاته في هذه المعضلة. فخلال الثلاثين سنة الماضية شكل القطاع المالي مركز جذب واستقطاب للمواهب، فاستوعب أفضل الخريجين والمبادرين في البلاد، وأصبح الحصول على وظيفة في القطاع المالي والمصرفي هدفا غاليا يبتغيه كل خريج أو قاصد لسوق العمل. وتدافع مهندسون وأطباء وعلماء ومدرسون نحو العمل كمصرفيين أومستشاري استثمار أو مرشدي أعمال أو مديرين للمحافظ المالية.

وفي بلد يتسم بنقص حاد في المهارات والمؤهلات المحلية كانت هذه الهجرة الواسعة لحملة المؤهلات وذوي المهارات الى الوظائف المالية والمصرفية (وكذلك الى المؤسسات الحكومية) سببا رئيسيا وراء الركود الاقتصادي الراهن في البلاد.

ويمكن ادراج الاصلاحات اللازمة من أجل تعديل كفتي الميزان والتخلص من خطايا سياسات الماضي ضمن ثلاث فئات:

1 – فتح الباب أمام المنافسة الخارجية:

يقيد القطاع المالي المحلي بشدة دخول الأجانب والمنافسة. وقد انعكس ذلك في المؤشر الذي صدر حديثاً عن البنك الدولي ( اس تي آر آي ) الذي صنف الكويت ضمن أعلى دول مجلس التعاون الخليجي من حيث القيود والعقبات أمام دخول الشركات الأجنبية.

2 – تقوية نظم الحوكمة:

أظهرت أزمة سنة 2008 غياب الحوكمة ووجود ضعف جوهري في اطار العمل التنظيمي في الشركات، وخاصة في قطاع الشركات الاستثمارية. ويمثل صدور قانون هيئة أسواق المال خطوة مهمة على طريق نحو جسر الهوة وفك التشابك والتداخل التنظيمي والاشرافي. واضافة الى الحاجة الى وضع اطار عمل مؤسساتي ملائم، تعتبر تلك خطوة أساسية في اطار الجهود الرامية الى تعزيز التنظيمات المتعلقة بشركات الاستثمار في مجالات منح التراخيص وتحديد طبيعة النشاط وحدود المخاطرة المقبولة وسقف تعويضات المديرين والحوكمة.

3 – تحجيم اجراءات الإنقاذ:

من الحقائق المعروفة ان شبكات الأمان وتوقعات الإنقاذ تزيد من معدل المخاطرة والمجازفة في الصناعة المالية وتعزز التوجهات المغامرة سواء لدى البنوك أوالمستثمرين على حد سواء. ومن أجل معالجة أخطاء الماضي يتعين على الحكومة أولاً الإسراع في حل قضايا الافلاس المعلقة وتصفية الشركات المتعثرة والتي تأثرت بشدة خلال أزمة سنة 2008. والخطوة الثانية هي اعادة تصميم سياسة الغطاء الحالي للبنوك والانتقال نحو نظام تأمين الودائع الذي قد يحسن من انضباط السوق ويقدم الحوافز للاجراء النافي للجهالة. وأخيراً سوف يتعين على السلطات اصدار تشريع وطني يحد من عمليات الإنقاذ بحيث تقتصر على حالات معينة وبموافقة البرلمان. وفي نفس الاتجاه ينبغي وضع قيود أيضا على عمليات الهيئة العامة للاستثمار ومؤسسة التأمينات الاجتماعية في سوق الأوراق المالية المحلية.

ومما لاشك فيه ان متانة القطاع المالي أمر مفيد ومهم للاقتصاد واحتمالات نموه، وسوف تساعد على تحسين نوعية الاستثمار وتعبئة الموارد نحو الاستخدامات الأفضل. ولكن الافتراض بأن الاقتصاد سوف يتمكن من البقاء عبر الأعمال المالية والمصرفية فحسب ليس سوى تفكير حالم، وخاصة عندما يعمل هذا القطاع المالي في بيئة تتسم بغياب المنافسة الأجنبية وعدم الكفاءة وضعف الاشراف التنظيمي.

back to top