المكارثية البراكية

نشر في 24-05-2012
آخر تحديث 24-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 حسن مصطفى الموسوي في نهاية الأربعينيات إلى بداية الخمسينيات، أي مع بدء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ظهرت موجة مناهضة للشيوعية في الولايات المتحدة وتصدرها السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي. وتمثل هذه الفترة حقبة مظلمة في تاريخ الحريات بسبب الطريقة التي أدار بها مكارثي هذا الملف من أجل التكسب الانتخابي، فأنشأ لجنة في مجلس الشيوخ معنية بملاحقة المشتبهين بإيمانهم بالشيوعية، سواء كانوا سياسيين أو موظفي الحكومة أو مواطنين وأكثرهم من المخرجين وكاتبي النصوص الدرامية، ولم يكتف بملاحقة الناس بل الكتب أيضا من أجل منعها من النشر.

فكان مكارثي يستدعي المواطنين ويخضعهم لاستجوابات ويهددهم، بل ويستهزئ بهم أمام الكاميرات، وكانت حصيلة أعماله سجن العديد من الأميركيين ووضع مئات منهم على قائمة سوداء تحرمهم من الحصول على وظائف.

وكان الإرهاب الإعلامي الذي خلقه مخيفاً لدرجة أن السياسيين ومرشحي الرئاسة، مثل الرئيس أيزنهاور، كانوا يتحاشون مواجهته، بل اعترف أحد القضاة بأنه خشي الحكم بعدالة على أحد المتهمين بسبب خوفه من اتهامه بالتعاطف مع الشيوعية! وقال عنه المذيع المعروف وولتر كرونكايد لاحقاً بأن مكارثي كان فاشياً.

لكن ما إن بدأ هذا المسلسل بالاستمرار حتى بدأ الناس بمواجهته، وكان أبرزهم المذيع إدوارد مورو الذي وظف برنامجه الليلي على قناة "سي بي إس" لإبراز حقيقة الأكاذيب التي كان يسوقها مكارثي وكيفية تلاعبه بالحقائق، حتى جاءت الضربة القاضية على يد جوزيف ويلش الممثل القانوني للجيش في إحدى جلسات لجنة مكارثي حين رد على اتهامه لأحد القانونيين بالعمالة للشيوعية بقوله: "لقد عملت ما فيه الكفاية، أليس لديك أي إحساس بالشرف سيدي؟ ألم تترك أي ذرة من الشرف؟".

بعد هذه الحادثة انفجرت فقاعة مكارثي وبات منبوذاً في الكونغرس بعدما كان يهابه الجميع، وأدانه مجلس الشيوخ وجرده من اللجنة التي يرأسها حتى مات بعد سنوات قليلة عام 1957 بعد تدهور صحته سريعاً بفعل إسرافه في شرب الخمر وعوامل أخرى أهمها ما جرى له سياسياً.

ظاهرة مكارثي ليست مجرد حادثة تاريخية محدودة في الولايات المتحدة، بل هي ظاهرة موجودة في كل المجتمعات، وبالطبع موجودة عندنا وفي مجلس الأمة، وأبرز من يمثلها هو النائب مسلم البراك، خصوصاً في المجلس الماضي بعد فشل استجوابيه لوزير الداخلية (الذي أقسم البراك على خلعه من منصبه)، وحين لم يتحقق مراده بدأ بزيادة جرعة الصراخ والشتائم وتخوين الآخرين والضغط على مناوئيه، وكلنا يذكر كلمة النائب المويزري دفاعاً عن وزير الداخلية واستنكاره لمحاولة ضغط البراك عليه عبر إرسال ناخبيه إلى ديوانه، وجاءت شبهة "الإيداعات" و"التحويلات" لتمثل الفرصة الذهبية لتصفية الحسابات مع الشيخ ناصر المحمد، فبدأ بتوزيع اتهامات الرشوة يمنة ويسرة حتى طالت من لم يكن ضمن قائمة المشتبه بهم رسمياً، واتهم صراحة المحمد بأنه الراشي وعندما طلب منه الدليل قال: "بالعقل هو الراشي!".

وعندما جاء وقت التحقيق في القضية بالمجلس الحالي تأملنا ترؤس شخصية محايدة للجنة، فكانت المفاجأة بترؤس البراك صاحب "الموقف المسبق" للجنة التي أقرت بطريقة مخالفة للائحة يُشتمّ منها رائحة الإدانات المسبقة، ففيه الخصام وهو الخصم والحكم. وخلال رئاسته للجنة بدأنا نرى الانحراف في أدائها، فظن أنه أصبح السلطة القضائية يستدعي من يشاء من موظفي حكومة ومواطنين أيضا، فرأيناه يستدعي محمود حيدر، "وهو ليس بموظف حكومي"، بناءً على معلومات أدلى بها نسيبه محمد عبدالقادر الجاسم صاحب الخصومة الشخصية مع الأول! لست من مؤيدي حيدر بل سبق وانتقدت أداء أجهزته الإعلامية وأسلوبها، لكن تحول لجان التحقيق إلى محاكم تفتيش بناء على خصومات شخصية وممارسة الإرهاب الإعلامي، هو ما نرفضه.

ولست بمبرئٍ لناصر المحمد ولا مدينه، لكني ضد أن يكون الخصم هو الحكم، خصوصاً بعد أن أبدى البراك عدم اكتراثه بحكم محكمة الوزراء بحفظ قضية "التحويلات" ضد المحمد، واتهامه للمحمد مجدداً قبل يومين بأنه أكبر راشٍ في الشرق الأوسط! "يابسه شوي"، وهو ما يدل على أن جنون العظمة والعناد سيطرا تماماً على هذا الرجل الذي يدّعي البطولة والشجاعة لكنه يخاف من ركوب الطائرة ولا يستطيع اتخاذ أي موقف ضد الرأي العام. إن هذه الظاهرة بما تملك من جمهور عريض من المطبلين قد تبدو خارقة مثل ما كان مكارثي يوماً، لكن بالنهاية لا يصح إلا الصحيح، وسيأتي يوم يدرك فيه الناس خطورتها وآثارها السلبية على المجتمع والبلد ككل.

back to top