عبد الله خلف: الفصحى تناسب الإعلام أكثر من العامية
عاصر عبد الله خلف تاريخ الإذاعة الكويتية منذ نشأتها حتى يومنا هذا، فقد التحق بالإذاعة منذ بداية الستينيات ليشغل منصب رئيس القسم الأدبي فيها، مقدماً برامج أدبية وثقافية رائدة كان لها صدى مميز في الخليج والمنطقة. عشق خلف اللغة العربية، فكان وما زال حريصاً على استخدامها في برامجه ومحاضراته بالصورة الصحيحة، بعيداً عن اللهجة العامية التي بدأت تغزو المحطات الإذاعية عموماً، ما افقدها قيمتها الأدبية والثقافية. «الجريدة» التقته وأجرت معه اللقاء التالي.
عاصرت عهدين مختلفين من تاريخ الكويت، ما هو وجه الاختلاف بينهما في رأيك؟أشعر بسعادة كوني عاصرت الكويت في العهدين، ما قبل النفط وما بعده، فقد كانت المعاناة كبيرة حتى أتى العهد الجديد وتبدلت الحال إلى الأفضل. لا بد من أن نذكر الذين عاصروا تلك الحقبة بحب وسعادة من دون تأفف أو شكوى من الحياة، فقد كنا نتقبل الحر والبرد في بيئة أشبه ما تكون إلى قرية صغيرة فيها الماديات صعبة، على عكس ما نراه اليوم من تذمر عام وعلى الأصعدة كافة، فقد ذهبت القناعة عن غالبية الناس.حدثنا عن نشأتك؟كانت نشأتي علمية بحتة، فأفراد الأسرة والوالد كانوا يهتمون في تزويدنا بالعلم والمعرفة، فقد تقلد الوالد مناصب قيادية مهمة، وكان مديراً للجوازات ومسؤولاً للبرق، مهمته ترجمة البرقيات من اللغة الإنكليزية إلى العربية للتجار الذين كانوا يقصدون مكتب البرق لترجمة رسائلهم، وكان يُطلق على البرقية حينها كلمة إنكليزية هي «تيل»، ومن يعمل في هذه المهنة «التليجي»، ومن هنا جاء لقب العائلة.ماذا عن دراستك؟درست في مدرستي الشرقية والصباح، وكان أخي فاضل خلف أستاذي في المدرستين. ما ميَّز الهيئة التدريسية آنذاك حرصها على الفعاليات والأنشطة المختلفة داخل المدرسة، كالتمثيل والألعاب البدنية وغيرها، فقد كان المدرسون حينها متفانين في عملهم ولا يتوانون عن تقديم المعلومات للتلامذة سواء قبل الساعات الدراسية أو بعدها. انتقلت بعدها إلى المرحلة المتوسطة، ومن ثم الثانوية في مدرسة الشويخ، ومن المدرسين الذين عملوا فيها وما زلت أذكرهم أحمد العدواني وإبراهيم الشطي ويعقوب الغنيم وعبد الله بشارة وسليمان المطوع، وغيرهم.الأدب والشعرمتى بدأ اهتمامك بالأدب والشعر؟كثيراً ما كان يحرص أخي خالد خلف، بحكم دراسته في القاهرة، على إرسال مجموعة من الإصدارات والكتب إليَّ، من بينها سلسلة «الهلال» و{أقرأ» وعدد من مؤلفات طه حسين والعقاد وسلامة موسى والرافعي، فضلاً عن مكتبة المنزل الخاصة والمميزة التي تتضمن مجموعة لا يستهان بها من الكتب، فقد كان الوالد يحرص على أن يخصص لها مكاناً مميزاً في كل منزل جديد ننتقل إليه. من الأغراض التي أذكرها أيضاً الكرسي الخاص بالوالد وهو مخصص لقراءة القرآن، وهو إحدى الظواهر النادرة وله شعبية كبيرة في الحي، فغالباً ما كان يستخدم للقراءة وللمناسبات المختلفة كـ{الجلوه» في الأفراح، وختان الأطفال وغيرها، وما زال يحضرني منظر الشباب وهم يحملون كرسي الوالد الكبير من منزلنا إلى بيوت أهالي الحي.حدثنا عن نشأة الإذاعة في الكويت.للأسف، ما لم يُذكر في الكتب وما لم يُشَر إليه، هو أن إذاعة الكويت بدأت كإذاعة أهلية خاصة لعائلة بهبهاني، لأنهم أوائل من بدأوا بجلب أجهزة اللاسلكي إلى الدولة في الأربعينيات، وكانت تذاع محطتهم تحديداً من منزلهم، وكانت مقتصرة على إذاعة الموسيقى والأغاني على الموجة القصيرة، وعبد المجيد الهندي هو الذي أسّس إذاعة محلية في منزله، تلتها إذاعة الدولة التي كانت تبث من الأمن العام بإرسال ضعيف وإمكانات بسيطة، إلى أن بدل الجيش الجهاز القديم بآخر حديث ليصل حينها الإرسال إلى خارج السور، وكانت عبارة عن غرفة صغيرة إلى جانب مطبخ خاص بإعداد القهوة والشاي. التحقت حينها بالإذاعة، وما يميزها في ذلك الحين عدم اعتمادها على التسجيل، فقد كانت تبث النشرات والبرامج والقرآن الكريم على الهواء مباشرة، ومن المقرئين المعتمدين حينها كان مقرئ البعثة المصرية في المعهد الديني، وآخرون محليون أذكر منهم ناصر حسين محمد وعبد الحميد السيد.ما هي طبيعة البرامج التي كانت تبث حينها؟كانت اللقاءات في المجمل تسلط الضوء على حياة الضيف وعمله، فلم يتوافر مجال للحديث في الأمور السياسية التي كانت مرفوضة آنذاك، إضافة إلى أنها لم تكن تشغل حيزاً كبيراً في المجتمع، عل عكس ما هي عليه الحال اليوم للأسف، ففي الآونة الأخيرة بات كل مواطن كويتي سياسياً، وهذا في الحقيقة أمر مرفوض ولا أؤيده نهائياً.الفرق الشعبيةماذا عن الأغاني والمنوعات؟غالباً ما كانت تقام حفلات غنائية على الهواء مباشرة، تحييها مجموعة من الفرق الشعبية المحلية، ومن بينها فرقة عبد الله فضالة وعبد اللطيف الكويتي، ومحمود الكويتي، وكانت بدايتها بعد عام 1961.متى بدأت إذاعتنا المحلية في الظهور؟انتقلت الإذاعة إلى الورشة العسكرية في الستينيات، تحديداً خلف الأمن العام، ذلك تزامناً مع التحاقي بها، فقد تم تجهيزها بشكل كامل لتكن جاهزة للبث، وكانت تحتوي على «استوديوهات» وأجهزة متطورة، وتمت الاستعانة بفريق من إذاعة الشرق الأدنى حينها، فمع بدء حرب السويس في عام 1956 هوجمت مصر بهدف القضاء على الرئيس جمال عبد الناصر، فتبدل اسمها من إذاعة الشرق الأدنى إلى «هنا لندن» وما زالت إلى يومنا هذا إذاعة «لوجستية»، تغير في عقلية الشارع العربي. ما هو المنصب الذي كنت تشغله حينها؟عملت في الإذاعة وكنت أميل إلى الجانب الثقافي، وفي عام 1964 استلمت القسم الأدبي كرئيس له، وكنت أعمل حينها مع فريق عمل جيد، ضمّ: مصطفى حمام، محمد عمران، علي سرور، فهد حمود، وشاكر عوض، وكان قد تأسس على يد عبد الله عبد الرحمن الرومي واستلمته أنا من بعده. هكذا قدمت عبره برامج ثقافية شهيرة، أبرزها «جولة في عالم الأدب» (أسبوعي)، كنت أكتب من خلاله عن الأدباء والشعراء المميزين آنذاك، ما ساعد بشكل كبير في إبراز إمكاناتهم الأدبية والشعرية في المنطقة، إضافة إلى تقديمي برامج خاصة بالمواسم الثقافية، فضلاً عن برنامج «الشعر ديوان العرب» الذي قمت من خلاله بتأليف كتاب «الشعراء الصعاليك وشعراء المعلقات»، وبعدها قدمت برنامج «مواقف في حياة الشعراء»، إضافة إلى التزامي بالصحافة، وكنت أكتب حينها في «جريدة الأولى» وفي مجلة «النهضة والهدف»، ومن ثم «الوطن»، وجميع مقالاتي كانت تأخذ اتجاهاً ثقافياً واجتماعياً.رجعية وتقدميةما الذي كان يميز الإذاعة الكويتية عن غيرها آنذاك؟الإذاعة في عهد المغفور له الشيخ عبد الله السالم لم تكن تدخل في المهاترات، على عكس الإذاعات الأخرى آنذاك التي تحولت إلى منابر يتشاتم من خلالها رؤساء الدول، لتصنف دولهم إلى رجعية وتقدمية بحسب حراكها السياسي، فالدولة التقدمية هي التي تشهد انقلابات، حتى وإن كانت متخلفة، كاليمن مثلاً. هنا أود أن أنوه إلى سياسة الشيخ عبد الله السالم كحاكم للكويت حينها، في تجنيب الدولة تلك المهاترات بحكمته ورجاحة عقله، فضلاً عن علاقته الجيدة بالرئيس جمال عبد الناصر ورؤساء الدول العربية الأخرى، لتنتقل بعدها المدرسة الحيادية الإعلامية إلى الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح حفظه الله، وجابر العلي رحمة الله عليه من بعده، واللذين سارا بدورهما على الحيادية المنهجية نفسها، ما جعل الكويت في منأى عن تلك الحروب الإعلامية، واستمر هذا النهج الوسطي إلى يومنا هذا.متى بدأت الإذاعة المحلية رواجها؟تطورت الإذاعة فنياً بدخول العنصر الوطني، ففي السابق كان الاعتماد الكلي على مؤسسها حمد المؤمن رحمة الله عليه، وكان حينها متفوقاً حتى على المذيعين الوافدين، ليأتي بعده عبد الرزاق السيد ورضا الفيلي، ومن ثم أنا، وفور التحاقي بالإذاعة ابتعثت إلى القاهرة مع عدد من الزملاء لاكتساب الخبرة من الإذاعة المصرية، ذلك بأمر من وكيل وزارة الإعلام «الإرشاد» المرحوم أحمد السقاف. كانت تجربة مثمرة اكتسبنا من خلالها خبرات فنية من إذاعة مصر الرائدة، وذلك في عام 1965.ما الذي كان يميز الإذاعات في الماضي؟التزامها باللغة العربية واحترامها بشكل كبير، على عكس ما نشهده اليوم من تراجع في اللغة، مثل إذاعة لندن والقاهرة اللتان بدأتا الميل إلى اللهجة الشعبية، بالإضافة إلى إذاعة دولة الكويت والتي كانت وما زالت تفتقر إلى الصوت الوطني على رغم امتداد مشوارها الإذاعي إلى ما يقارب 60 عاماً.اللغة العربيةهل أنت ضد استخدام اللهجة العامية في الوسائل الإعلامية؟لا أطالب بمحو العامية، فهي تلائم المسلسلات والمسرحيات، على عكس الأخبار والبرامج الثقافية التي هي بحاجة ملحة إلى اعتماد اللغة العربية في تقديم الحوارات والموضوعات.ما هي الصعوبات التي كانت تواجهكم كعاملين في الإذاعة الكويتية؟شهدنا تعصباً من بعض الأساتذة المصريين، ومثال على ذلك إبراهيم أنيس، فعلى رغم محاولات البعض من القضاء على لفظ الجيم بالعامية، إلا أن أنيس كان يرفض الالتزام بالفصحى في الدورات الخاصة بالإذاعة، وكان لافتاً أنه كان يحرص على عدم اجتياز من يلفظ الجيم باللغة العربية الفصحى، وكنا نرضخ كمذيعين لنطقها بالعامية لاجتياز الدورة، إلا أننا لم نعتمدها نهائياً، وكنا نحرص على أن يلفظها زملاؤنا المصريون بالطريقة الصحيحة. واللافت أيضاً أن إذاعات كثيرة سارت على نهجنا، من بينها إذاعة السعودية والبحرين وقطر وغيرهم. ومن الطريف أن المذيع عبد العزيز شهاب أطال الله في عمره كان يحرص على لفظها بالعامية وبالطريقة المصرية، خصوصاً في الأخبار، معتبراً أنها الطريقة الرائدة حينها، في حين كنا نحن من يلزم إخواننا المصريين على تركها.ما هو تقييمك للبرامج الإذاعية من ناحية اللغة اليوم؟للأسف، اللغة العربية في تراجع، إذ تشوب البرامج الثقافية والإخبارية أخطاء فادحة، ما يؤكد عدم اهتمام الهيئة التدريسية باللغة ومخارج الحروف الصحيحة، ليحول كثر الجيم إلى لفظ مختلف بحسب اللهجة المصرية والسودانية واليمنية، فضلاً عن غيره من حروف.بعد التطور الذي شهدته البلاد عموماً والإذاعة خصوصاً، ما الذي تطمح إليه على المدى البعيد؟ما زلت أقدم عبر إذاعة دولة الكويت برنامج «الشعر والشعراء» وهو معني بالشعر الفصيح من العهد الأموي العباسي إلى الشعر الحديث. أتمنى له الاستمرار والتطور، ففي السابق ساد قبول لهذه النوعية من البرامج الثقافية، أما اليوم وللأسف فلم تعد تلقى أي اهتمام كما كانت عليه في سابق عهدها.