فتح الأندلس... المسلمون في أوروبا

نشر في 05-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 05-08-2012 | 00:01
الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (2)

أتمّ موسى بن نصير فتح جميع بلاد المغرب ووصل بحدود دولة الإسلام إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلسي حاليا)، وقدر لهذا الرجل أن تكتب على يديه صفحة من أعظم صفحات مجد الإسلام، فلم يكن موسى من طراز هؤلاء القادة الذين يكتفون بالقليل ويخلدون للراحة بعد تحقيق انتصار هنا أو هناك، فلم يكتف بنشره للإسلام في المغرب كله، بل تطلع إلى أوروبا ليبسط لواء الإسلام على أممها، فرغم أعوام عمره التي قاربت السبعين كان موسى لا يزال محتفظا بنشاط شاب في العشرين، لذلك كان يتربص ببلاد الإسبان علَّه يجد ثغرة ينفذ منها إلى أوروبا.

كانت الأنباء تتوالى على ابن نصير بأن المجتمع القوطي في إسبانيا قد انحل، تسوده مظاهر الشقاء بين الرعية ومظاهر الترف بين السادة، فقد ترك القوط كل نشاط حربي يميزهم، ويصف المؤرخ الكبير جيبون في كتابه "اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية" حال المجتمع القوطي قبيل الفتح الإسلامي قائلا: "وركن أمراء القوط إلى حياة النعمة والدعة، وفتت في عزائمهم وشجاعتهم نعومة الجو وترف العيش، ولم يعودوا بعد أولئك الغزاة الأشداء الذين أخضعوا روما يوما، بل كانوا غارقين في سبات السلم، لا يعنون بتحصين مدينة، ولا يعبأ شبابهم بتجريد سيف".

استعدادات الفتح

كان أهم ما يشغل بال ابن نصير، كتمهيد حقيقي لفتح إسبانيا، ثغر سبتة الحصين شمال بلاد المغرب الذي كان لا يزال خارج سلطة موسى بن نصير وسيطرته، فمازالت سبتة تابعة لإسبانيا يحكمها الكونت القوي يوليان، فلا يمكن الشروع في أي عمليات عبور لإسبانيا دون السيطرة على هذا الثغر المغربي المهم.

وبينما كان ابن نصير يترقب الفرصة لمهاجمة سبتة الهجوم النهائي، جاءته رسالة من يوليان حاكم سبتة يعرض فيها عليه تسليم معقله، ويدعوه ليس إلى سبتة فقط بل إلى فتح إسبانيا كلها، فقبل موسى على الفور العرض السخي من الكونت.

وكان عرض يوليان يعكس ما يجري على أرض الإسبان من حرب أهلية بين الملك وتيزا (المعروف عند العرب باسم غيطشة)، ومنافسيه على العرش وعلى رأسهم ردريك بن دوق تيودوفرد (المعروف أكثر باسم لذريق)، وهي الحرب التي خربت البلاد وهدمت المعاقل والحصون.

ولم تنته الحرب بهزيمة الملك وتيزا وانتصار ردريك (لذريق) ووصوله إلى عرش القوط، فقد اتصل مناوئوه من الحزب المهزوم بـ"يوليان" حاكم سبتة، باعتباره أقوى حكام القوط للعمل على الإطاحة بردريك من على العرش، أضف إلى ذلك أن يوليان كان لديه ثأر شخصي مع لذريق، الذي غدر بابنة يوليان واغتصبها، فلما وصلت الأنباء إلى يوليان أقسم على أن ينتقم لشرفه المغتصب من لذريق، ورأى أن يستعين بالعرب لتنفيذ مخططه.

رأى موسى بن نصير وقد ألقى القدر بهذه الفرصة بين يديه، أن يسرع بمراسلة الخلفية الوليد بن عبدالملك (حكم 86-96هـ/705-714م) يخبره بأمر المشروع الذي يفكر فيه من غزو بلاد إسبانيا، مهوناً عليه عبور البحر قائلاً في رسالته: "إنه ليس ببحر، وإنما هو خليج يصف صفة ما خلفه للناظر".

وجاء رد الوليد سريعا لموسى بأن يختبر وعود يوليان بالسرايا، أي بالحملات الصغيرة، وألا يزج بالمسلمين في أهوال البحر، وألا يخاطر موسى بن نصير بقيادة الجيش، حتى إذا تعرض الجيش الإسلامي للخيانة في بلاد الأندلس لا يحدث كبير اضطراب في بلاد المغرب لوجود موسى فيها، أما إذا قُتل فقد تكون فتنة لا يعلم إلا الله مداها.

صدع موسى بالتعليمات القادمة من عاصمة الخلافة دمشق، واتخذ من طنجة مقرا يهيئ فيه عدة الفتح ومركزا أعلى لقيادة القوات، وبدأ موسى مشروعه بمحاولة صغيرة، استطلاعية أكثر منها عمل حربي حقيقي، فجهز خمسمائة مقاتل، بقيادة جندي من البربر يدعى طريف بن مالك، فعبروا البحر من سبتة في أربع سفن قدمها يوليان، إلى الجهة المقابلة من الساحل الإسباني التي سميت بعد ذلك جزيرة طريف باسم قائد الحملة، وذلك في رمضان سنة 91هـ/ 710م، وأصابت الحملة الكثير من الغنائم، وقص قائدها على موسى بن نصير نتائج غزوته، فاستبشر بالفوز، وكثّف استعداداته لإتمام الفتح.

طارق بن زياد

في رجب من سنة 92هـ/ 711م، انتهى موسى من تجهيز جيش الفتح من العرب والبربر بقيادة طارق بن زياد، ومن الغريب حقا أن المصادر على تنوعها لا تحدثنا كثيرا عن حياة الرجل الذي ارتبط اسمه بفتح الأندلس، فالأغلب أنه من أصول أمازيغية وتحديدا قبيلة نفزة، وفقا لما أورده مؤرخ المغرب ابن عذاري.

عبر طارق بن زياد البحر بجيشه تباعا من سبتة في سفن يوليان، ونزل أولا في يوم (الاثنين) الخامس من رجب سنة 92هـ/ 27 أبريل سنة 711م) بتلك الجزيرة الصخرية التي تحمل اسمه حتى يومنا هذا، جبل طارق، والتي تتحكم في واحد من أشهر وأهم مضايق العالم، وانتظر طارق حتى اكتملت قواته وجيشه الذي كان يقوم على البربر حيث لم يتجاوز عدد العرب ثلاثمائة معظمهم من القادة من بين سبعة آلاف مقاتل.

بدأ طارق نشاطه بمهاجمة ولاية الجزيرة الخضراء، في جنوب إسبانيا، وهزم حاكمها القوطي تيودومير وفتح مدنها تباعا، هنا شعر حكام الولايات المجاورة بالخطر يتهددهم فما كان إلا أن بعثوا برسائل استغاثة للملك لذريق، الذي كان مشغولا بحروبه ضد قبائل البشكنس الشرسة في الشمال، فأمر بإنهاء الحرب والعودة إلى عاصمة ملكه طليطلة وقد شعر بفداحة الخطر المحيق بعرشه ودولته، وتقدم الملك لذريق بقواته صوب الجنوب في جيش ضخم قدر بمائة ألف جندي.

ما إن وصلت الأنباء إلى ابن زياد بتحرك ملك القوط حتى كتب سريعا إلى موسى بن نصير يستنجد به في ظل هذا الظرف العصيب، فأمده على عجل بخمسة آلاف مقاتل، فبلغ جيش المسلمون اثني عشر ألفا، وانضم إليهم يوليان بقوة صغيرة.

أدرك طارق بن زياد خطورة الوضع وأن جيش القوط يفوق جيش العرب عددا وعدة، ورأى أن ثقة الجيش المسلم بدأت تهتز، فما كان منه إلا أن قام خطيبا في الجيش المسلم وخطب خطبته الشهيرة التي يقول في أولها: "أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر".

عملت هذه الخطبة البلاغية دورها في بث الحماسة في نفوس الجنود، وأذكت همم المسلمين، قبل اندلاع المعركة الفاصلة.

معركة وادي لكة

بدا أنه لا مفر من النزول إلى ساحة الوغي، ففي الثامن والعشرين من شهر رمضان لسنة 92هـ/ الموافق 17 يوليو سنة 711م، التقى الجيشان وأنصار الحضارتين والديانتين في أوروبا لأول مرة، في معركة استمرت سبعة أيام متتالية، بوادي لكة بالقرب من مدينة شذرونة، كان الوطيس فيها قد حمى وارتفع غبار المعركة حتى كاد المقاتل لا يعرف صديقه من عدوه، لكن الجيش القوطي رغم ضخامته وعامل الأرض الذي يضاعف من حظوظه، إلا أنه كان مختل النظام منحل الأوصال، وعندما اشتد القتال هرب معظم مقاتليه من ساحة المعركة.

وتمكن الجيش الإسلامي بجلده وثباته ووحدة كلمته، على الرغم من قلة عدد جنده، من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوط في اليوم السابع للقتال وتشتت الجيش القوطي إلى الأبد فقد أخذ كل فرد في العمل على نجاته.

أما الملك لذريق نفسه، فقد اختفى ولم يعثر له على أثر، والغالب وفقا للروايات التاريخية أن لذريق قد ركب جواده وفر من ساحة المعركة بعد أن أيقن بالهزيمة، وأنه قد غرق في مياه النهر فلم يعثر له على جثة تدفن أو أثر يدل عليه إلا فرسه المكلل بالذهب.

هكذا كانت موقعة وادي لكة فاصلة في تاريخ غرب أوروبا، فقد زالت فيها دولة القوط من على صفحة التاريخ، بعد أن لبثت زهاء ثلاثمائة عام منذ قيامها، وغنم العرب في تلك الحرب القصيرة ملك إسبانيا، ففتحت هذه المعركة أبواب المدن الإسبانية أمام التقدم الإسلامي تباعا.

عاصمة القوط

زحف طارق بجيشه شمالا صوب طليطلة، وهزم فلول القوط أمامه وفتح عددا من مدن الأندلس المهمة كقرطبة وتدمير ومرسية، وصل بجيش الفتح أمام أسوار طليطلة حاضرة القوط ومقر عرش ملكهم، وكان القوط قد فروا منها، فدخلها دون مقاومة تذكر، ولم يجد بها إلا عددا قليلا من اليهود والنصارى، فأبقى عليهم وترك لهم دور عبادتهم يمارسون طقوسهم وشعائرهم بكل حرية.

وتحصل للمسلمين من الغنائم والتحف والمجوهرات ما لم يسمع بمثله في فتح من الفتوح، إلا أن أشهر تلك القطع الفنية تلك المائدة القوطية الثمينة الذائعة الصيت التي عدت من تحف القرون الوسطى، ونسبت صناعتها لجمالها وروعتها إلى الجن المسخر للنبي سليمان- عليه السلام- وعرفت لذلك بمائدة سليمان.

لم يهدأ طارق بما حققه من غنائم ومكاسب بعد فتح طليطلة وإسقاط مملكة القوط، فقد أبى إلا أن يتتبع فلول القوط الذين تحصنوا بجبال جليقية الشامخة في أقصى بلاد الإسبان، ووصل طارق إلى حدود خليج بسكونية، فكان خاتمة زحفه ونهاية فتوحاته، ورده عباب المحيط عن التقدم، كما رد عقبة بن نافع في المغرب من قبل، فعاد إلى طليطلة.

موسى في الأندلس

إلا إن والي إفريقية والمغرب موسى بن نصير لم يعجبه إفراط طارق في التقدم في بلاد الإسبان وأصدر أوامره لطارق بالتوقف عن الفتح وأن ينتظر مجيئه إلى إسبانيا، وهو أمر علله بعض المؤرخين بأن موسى خشى أن ينسب هذا الفتح العظيم بما دره من غنائم هائلة لطارق دونه، فيعلو شأنه في بلاط الخلافة الأموية بدمشق على حسابه، فكتب إلى طارق يأمره بألا يتقدم حتى يلحق به، متذرعا بأنه خالف أوامره بتوخي الحذر والأخذ بالحيطة وأسبابها بعدم التقدم أبعد من قرطبة حتى تأتيه الإمدادات لكي لا يتوغل في بلاد لا يعرفها قد تؤدي إلى هلاكه وهلاك الجند معه، وأن يعمل على بناء قواعد إسلامية في الجنوب يواصل من خلالها المسلمون التقدم شمالا على أسس متينة، لا يخشى منها على الجيش الإسلامي من انتفاضة الأطراف.

لذلك عبر موسى إلى إسبانيا، بعد أن استخلف ابنه عبدالله على ولاية إفريقية، في عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر في سفن صنعها خصيصا لهذا الغرض ونزل بها في رمضان سنة 93هـ/يونيو سنة 712م.

وما إن وصل موسى إلى مدينة الجزيرة الخضراء حتى اتخذها مقرا لعملياته الحربية المستقبلية، فعقد مجلساً للتشاور في خطة الفتح، ليقرر بعدها استكمال فتح مدن إسبانيا التي تركها طارق بن زياد خلفه في توغله صوب الشمال، فسار إلى مدينة شذونة ففتحها، فكانت أول فتوحه في الأندلس، ثم سار إلى مدينة قرمونة، وقصد بعد ذلك جارتها مدينة إشبيلية "أعظم قواعد الأندلس شأنا، وأتقنها بنيانا وأكثرها آثارا"، كما أنها العاصمة القديمة زمن الحكم الروماني قبل طليطلة.

بين موسى وطارق

بعد أن أتم موسى تأمين جنوب إسبانيا وغربها للمسلمين وقضى على مقاومة فلول القوط، قصد طليطلة، وكتب إلى طارق بالتوجه إليه في كوكبة من جيشه، وعسكر موسى في مكان بالقرب من مدينة طلبيرة غرب طليطلة، ليستعرض جيشه فعرف بوادي المعرض، ولحق به طارق عندها.

التقى طارق بن زياد بقائده الأعلى موسى بن نصير، وهو لقاء لم يكن وديا في مجمله، فقد أنب موسى طارقا على إسرافه في الفتح وخروجه على الأوامر وبالغ في إهانته، وزجه مصفدا إلى ظلمات السجن بتهمة عصيان الأوامر، لكنه ما لبث أن عفا عنه وأعاده إلى سابق عهده، بعد أن اعتذر طارق عن سوء الفهم الذي حدث بينهما، معترفا بفضل مولاه موسى عليه قائلا: "إنما أنا مولاك ومن قبلك وهذا الفتح لك وبسببك"، وقدم إليه كل غنائم فتح طليطلة من أموال وذهب ونفائس.

وتجمعت بقايا الجيش القوطي في "سلمنقة" وقادها أحد أقرباء لذريق من أبناء الأسر الملكية، فأسرع موسى بصحبة طارق صوب قوات القوط وعلى نهير صغير حمل اسمه – فيما بعد- هو نهر موسى، التقى المسلمون بالبقية الباقية من جيش لذريق، وتمكنوا من تحقيق الانتصار النهائي عليه، ولم تعد القوات القوطية تشكل خطرا ذا بال على الجيش الإسلامي، وأمر موسى بالإسراع صوب طليطلة.

بعد أن اجتمعت الجيوش الإسلامية تحت قيادة موسى بن نصير في طليطلة، وضعت الخطة النهائية لاستكمال الفتح الإسلامي للأندلس بتصفية مراكز المقاومة القوطية والحصون والقلاع التي لم تفتح بعد، وأعطى موسى إعلانا صريحا ببداية الحكم الإسلامي للأندلس عندما بدأ عمله كأول والٍ على الأندلس الإسلامية، بصك عملة ذهبية عليها شهادة أن لا إله إلا الله كتبت بالعربية واللاتينية، كما قام موسى بإعداد تقرير واف عن فتوح الأندلس وأرسله مع مغيث الرومي إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك لينبئه بأخبار الفتح.

بعد فتح موسى مدن شرق الأندلس، شرع في الاقتراب من جبال البرتات، يحركه الشوق إلى الحلم القديم بالتوجه صوب روما وأن يخترق أوروبا غازيا، وأن يفتتح بلادها ويقهر أممها الواحدة تلو الأخرى وصولا إلى القسطنطينية ومنها إلى الشام، وهو مشروع لو نفذ لتغير مجرى التاريخ إلى الأبد ولتغيرت ديانة ولغة أوروبا.

لكن على أي حال قدر لهذا المشروع ألا يتم بعد أن وصل رسول الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حاملا أوامر جديدة كانت مفاجأة بالنسبة إلى قادة الفتح الإسلامي في الأندلس، فقد صدرت الأوامر لموسى وطارق بإيقاف الفتوح، والعودة سريعا إلى دمشق ليقدما بنفسيهما بيانا عن فتوح الأندلس إلى الخليفة، ويبدو أن الغنائم المهولة التي تجمعت بين يدي موسى قد أثارت مخاوف بلاط الخلافة من أن يسعى هذا الوالي الطموح إلى الانفصال بهذا القطر الإسلامي الجديد، وقد توفرت بين يديه أموال وفيرة.

لم يرفض موسى الاستجابة لأوامر الخليفة، إلا أنه تمهل حتى يفتح بقية المدن الإسبانية في الشمال، لكنه لم يتتبع الشراذم القوطية التي تحصنت بجبال جليقية، وهي التي ما لبثت أن نمت وقويت، وتوسعت ونشأت منها الممالك الإسبانية التي ستقود حرب الاسترداد التي ستتوج بطرد الإسلام من الأندلس.

القائدان في دمشق

اجتمع موسى بطارق بالقرب من مدينة ليون، وسارا معا إلى طليطلة، ثم قرطبة وإشبيلية، وقبل أن يغادر موسى الأندلس عمل على تنظيم الإدارة بها فجعل حاضرتها إشبيلية لاتصالها بالبحر وكونها العاصمة الرومانية القديمة لإسبانيا، واختار لولايتها ولده عبد العزيز. وترك موسى وطارق الأندلس في ذي الحجة من سنة 95هـ/ سبتمبر سنة 714م، ولم يدر بخلدهما أن هذه هي المرة الأخيرة التي سترى فيها عيونهما الأندلس، فما لقياه من معاملة في حاضرة الخلافة لم يكن في الحسبان.

وصل موسى وطارق إلى دمشق في بداية العام التالي، وكان الوليد مريضا مرض الموت، فأسرع موسى إلى طبرية لتقديم الهدايا والغنائم والتحف التي طار بذكرها الركبان إليه شخصيا، لكن أخا الخليفة وولي عهده سليمان بن عبد الملك حاول الضغط على موسى من أجل أن يبطئ في عودته، حتى لا يصل إلى دمشق، إلا وقد صار هو خليفة للمسلمين، فيتصرف في الغنائم كما يشاء، لكن موسى أبى وسلم الغنائم والأخماس إلى الخليفة الوليد.

ولم يمض أربعون يوما حتى تٌوفي الوليد، مستخلفا أخاه سليمان، الذي لم ينس لموسى عدم امتثاله لأوامره، فأمر بعزل موسى واتهمه وبنيه باختلاس أموال وتحف قدرت بمليون دينار وقضى عليه بردها، وبالغ في إهانته وتعذيبه، وقيل إنه قد أمر موسى بأن يظل واقفا في حرِ الشمس المتوهجة، وكان قد بلغ الثمانين من عمره، فلما أصابه حر الشمس وأتعبه الوقوف سقط مغشيا عليه، وبعدها اندفع موسى يقول في شجاعة مخلوطة بالأسى للخليفة سليمان بن عبد الملك: "أما والله يا أمير المؤمنين ما هذا بلائي ولا قدر جزائي".

فأمر الخليفة سليمان بالعفو عن موسى بن نصير وندم عما فعله به فكان يقول: ما ندمت على شيء ندمي على ما فعلته بموسى، وأراد سليمان أن يكفر عن ذنبه، فاصطحب موسى بن نصير معه إلى الحج في سنة 99هـ، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة في أثناء الرحلة.

أما مصير طارق بن زياد فقد كان التاريخ شحيحا علينا بمعلومات حول نهاية حياة طارق فقد دخل في علم المجهول كأنه لم يكن يوما فاتحا عظيما يشار إليه بالبنان، فلا نعرف أين ومتى تٌوفي طارق، ليبقى منه اسمه الذي صار مخلدا على مضيق جبل طارق، وفعله في فتح بلاد الأندلس.

هكذا انتهت قصة حياة الفاتحين العظيمين موسى وطارق، بعد أن قاما بما يعد معجزة حربية بجميع المقاييس فخلال ثلاث سنوات استطاعا فتح بلد أوروبي واسع يعتبر أصعب الأقطار الأوروبية من الناحية الجغرافية الطبيعية، بمعاونة جيش لم يزد في أكثر التقديرات تفاؤلا على 30 ألف مقاتل في مجابهة جيوش لا تقل عن 150 ألف مقاتل، وإليهما يعود الفضل الأول في عبور الإسلام إلى أوروبا من الغرب وقيام دولته فيها، بعد أن أخفقت محاولات الخلافة الأموية في العبور إلى أوروبا من ناحية الشرق عبر القسطنطينية، وأسسا بذلك دولة للإسلام قدر لها أن تحيا ثمانية قرون كانت فيها الأندلس نبراسا حضاريا للعالم الأوروبي كله.

back to top