وقائع المدينة الغريبة
ابتدأ كل شيء، بعد يومين فقط من حدوث الكارثة.كنت في المقهى، أعيد قراءة ما كُتب في الصحيفة المسائية، حول الانتحار الجماعي الذي ذهب ضحيّته اثنان وعشرون مواطنا.
وكان الصمت قد بدأ ينسحب تدريجيّا من الكراسي، وبما أنّ النوافذ العلويّة كانت مفتوحة، فقد كان في وسعه أن يتسلقها، وأن يمضي إلى حيث يمكن الإنصات إليه.باعة الفول والحِمّص والسّجائر، والبيض المسلوق واللوز المملّح... لم يجيئوا بعد، لذلك استغربت قدومه على غير عادته في ذلك الوقت. اتّجه مباشرة نحو أوّل طاولة شاغرة، سحب كرسيّا وألقى بثقله عليه.لم يحاول تفحّص وجوه الحرفاء القلائل عند دخوله، فلم ينتبه إلى وجودي بينهم. أشار إلى النّادل، طلب منه شايه المعتاد... ثم فتح حافظة أوراقه الجلديّة أخذ منها ورقة... وضعها أمامه، وبمجرّد أن أتمّ كتابة بضع كلمات طوى الورقة ووضعها في جيب سترته... شرع يأتي بحركات غريبة. فقد لاح لي أنّه يحاول تغيير موضع قدميه... لكن دون جدوى، كانت ركبتاه تنفرجان ثمّ يضمّهما بحركة مُتشنّجة. اثر ذلك حصل تطوّر مدهش لَفَتَ انتباه كلّ الحرفاء الّذين تفرّغوا منذ تلك الّلحظة إلى متابعة حركاته. وقد فهمت شخصيّا، أنه يريد رفع مؤخّرته من على الكرسي، دون أن يتمكّن من ذلك. نهضت، واتجهت نحوه، لأفهم حقيقة الأمر، ودون أن يمدّ يده ليصافحني صرخ في وجهي:- انظر، أنا لا أستطيع الوقوف!وبدا لي أنّه على وشك البكاء. أدخلت يديَّ تحت إبطيه وحاولت مساعدته... لم أتمكّن! اقترب النّادل الذي عاد بكأس الشاي ثمّ انضمّ إلينا أحد الجالسين حذوه، بينما ركن الآخرون إلى متابعة المشهد، واحتساء البيرة!كُنّا نعتقد في البدء، أنّه أصيب بشلل فجائي، أو بحالة خمول عضلي مؤقت. لكن، سرعان ما اتّضح، وأمام دهشة الجميع، أن مؤخرته قد التصقت تماما بالكرسي الذي استعصت علينا زحزحته، كما استحال علينا تحريك قدميه... وبما أن أرضية المقهى في ذلك الموضع لم تكن تحمل أي أثر لمادة لاصقة، فقد انتابتني موجة من الشك، وخمّنت أن في الأمر خدعة. لذلك دعوت بعض الأشخاص إلى إعادة المحاولة. وللحقيقة فإن الجهد الذي بذلناه، كان يكفي لرفع بغل حرون، لذلك طردت من خاطري الشك الذي بلبلني وقلت: إنّه عليّ الآن أن اقتنع، ولو لمرة واحدة في حياتي، أنّه ثمّة ظواهر خارقة، لا تحتمل التأويل أو التفسير.في الأثناء بدأت جموع كبيرة من الناس تتجمّع أمام المقهى، وجلب الخبر، بعض الصّحافيين والمخبرين، ممّا اضطرّ النادل إلى غلق الباب، بعد خصومات عديدة مع الفضوليين، الّذين اكتفوا في الأخير بمتابعة ما يجري، من خلف زجاج الواجهة الأمامية للمقهى.وقد ظللت أحاول أثناء ذلك إقناع صالح بأن المسألة ستجد طريقها إلى الحل، وأنّه لا داعي للخوف، ووعود أخرى لم أكن شخصيا مقتنعا بها. وقد كثرت الاقتراحات والحلول، وقام بعض الأشخاص بمباغتته، بأن رشّوا على وجهه ماء باردا مما دفعه إلى إرسال سيل من الشتائم، متهما إياهم بالسخرية منه. فأقسموا بأغلظ الأيمان، أن قصدهم شريف، لكنهم أرادوا إطفاء نار الخوف بالماء. وفي خضمّ تلك الجلبة تقدّم أحدهم باقتراح باغت الجميع، إذ بدا لنا أن الوضع ليس له حل مطلقا. قال:لقد وجدت الحل، سيمضي أحدنا ويأتي بمنشار لقطع الحديد، أو فلنستدع حدّادًا ليقوم بقطع قوائم الكرسي وتفكيكه.وافقنا طبعاً، وركضت إلى الشارع. ومن حسن الحظ، أنني عثرت بسرعة على دكان لإصلاح الآلات الكهربائية، ولست أدري لِمَ اجتاحتني رغبة جامحة في الضحك، وأنا بصدد تفسير الموقف للعامل بالمحل؟ ولكنّه، وبعكس ما توقعت، فقد تقبّل الأمر بحياد غريب! ولم أسمع صوته، سوى عندما سألني:ومن سيدفع معلوم الخِدمة؟تعهدت بدفع أجرته، واضطررت إلى الصمت طوال الطريق كاتما غضبي، فقد كان يمشي خلفي ببطء قاتل، وكأنه اعتاد على مثل هذه الحالات.وجدنا المدينة كلها، أمام المقهى، وخطر لي ونحن نخترق الحشود، أننا سنجد في آخر الممر مهرّجا بصدد القيام بدور ما، وقد حصل لي هذا الانطباع، من خلال ملامح وتعاليق الجموع المتدافعة وإجاباتها عن أسئلة الوافدين الجدد.بعد مشاق كبيرة، استطعنا الدخول. فوجدنا صاحب المقهى دحدوح الذي جاء أثناء غيابي، يعطي الأوامر، والتدقيق مع الحرفاء قبل دفع ما عليهم، ثمّ إيصالهم إلى الباب، مردّدا أنه لا يريد أحدا في محله، وأنه سيقوم بما يتطلبه الوضع. وحين لفت أحد النّدلة انتباهه إلى وصولنا تقدّم نحونا، فصافح العامل الذي جاء معي، واتجها سويا نحو صالح، دون أن يعير اهتماما لوجودي. وكان صالح واجما، وكأنه يتوقع شيئا أسوأ... بينما انبرى دحدوح يوضّح للكهربائي كيفية قطع قوائم الكرسي الحديدي، مبينا له، أن القطع يجب أن يتمّ من أقرب موضع من الأرض! وكان واضحا أنه يريد الإبقاء على الكرسي في حالة قابلة للاستعمال. أردت الاحتجاج، غير أن صالح تكفّل بالأمر، ملاحظا بقسوة:مِن الأفضل أن يكون الكرسي دون قوائم. وقد قدّرت أن الوضع سيكون بذلك أقلّ مدعاة للسخرية لدى ذهابه إلى بيته.وأخيرا، رضخ دحدوح، وقام الكهربائي بقطع القوائم من منبتها. وحين تمّ ذلك، حاول صالح النهوض ففوجئنا بوضع غريب، لا يمكن حياله، الامتناع عن الضحك! إذ تعذّر عليه الوقوف بشكل معتدل، حيث أن ظهر الكرسي كان يمنعه من الانتصاب بشكل مستقيم، فبدا في وضع المقبل على الركوع... أو على شيء آخر! لذلك عاد إلى وضعه الأول بعد أن أسندناه، وقد اقتنع الجميع أنّه لا مناص من نزع ظهر الكرسي. وتشنّج الموقف بشكل لا يطاق، وقد انتابنا صمت فجائعي، واتجهت كل الأنظار صوب دحدوح، الذي تردد قليلا، ثم ضرب كفا بكف مديرا لنا ظهره، ومتّجها نحو إحدى الطاولات قائلا بيأس: افعلوا ما يحلو لكم، ولكن اتركوني وشأني …فهجمنا على ظهر الكرسيّ، والكهربائي يحاول دفعنا، حتى لا نفسد عليه رزقه، فتركنا له الأمر. وسرعان ما استوى صالح واقفا، إذ انفصل تماما عن قاعدة الكرسي، وكأنّ لوحه كان مشدودا بأيد خَفيّة!.والآن، كيف سيمشي؟لست أدري من نطق بهذه الكلمات، ولكن ما أتذكّره، هو أننا انتبهنا إلى ذلك، وكأننا تناسينا، أو كنّا ننتظر حدوث معجزة ما. وإذا بـصالح يثني ركبتيه ويقوم بفكّ عقدة خيط حذاء الرجل اليمنى، ثمّ اليسرى و... كيف أصوّر المشهد؟ أخرج قدميه من فردتي الحذاء، والحقيقة، أنني لم ألاحظ أي اختلاف بينهما، وبين أقدام سائر البشر. ثمّ وضعهما ببطء على الأرضية الإسمنتية، هكذا، بكل بساطة، حتى لكأنّ الأمر كان مهيّأ سلفا في ذهنه! ولقد شعرت شخصيا، بالتفاهة والغباء، ولاحظت ذلك على وجوه من تبقىّ بالمقهى، إذ لم يخطر على بالنا هذا الحل البديهي والواقعي في الآن نفسه.وبينما كنا في شرودنا، إذ صرخ صالح صرخة رهيبة...لقد التصقتا مرة أخرى!في تلك اللحظة نفد صبري، فوضعت يديّ على كتفيه ودفعته بقوة صائحا:هذا غير ممكن، ارفع رجلك، تقدّم تقدّم.كنت كمن يحاول حثّ شجرة على السير!تراجعنا كلنا إلى الخلف نهض دحدوح وانظمّ إلينا ونظر الكهربائي إلى ساعته متأففا، بينما انخرط صالح في بكاء فاجع… ولست أعلم كيف تذكّرت في تلك اللحظات الرّهيبة، كيفية دخوله ظهيرة ذلك اليوم إلى المقهى الحانة، ثم كيف سحب ورقة وقلما، وكتب بضع كلمات، ثم طوى الورقة ووضعها في جيبه…، فهل هناك علاقة بين تلك الأحداث العادية والبسيطة، وما حصل فيما بعد من تطورات؟ وهممت أن أسأله عمّا كتب في الورقة إذ لا بدّ أنّ ثمّة سرّاً ما، ولكن ما السرّ؟! وهل يمكن أن أصدّق، أنّ حدثاً عجائبياً كهذا، يمكن أن يقع، والإنسان يكاد يستوطن المريخ؟!وعاد الصمت ليجثم بكَلكلِه على المكان، وأحسست بانهيار تام فتهالكت على أقرب كرسي، أنتظر المجهول.وبينما كنت في ذهولي إذ بالكهربائي يتقدم نحوي متسائلا، إن كنت لا أزال في حاجة إليه؟ ولكي أشعِره بالوضع، أومأتُ بعينيّ باتجاه صالح فأجابني متباهماً بأن وقت إغلاق الدكان قد حان.فقلت له، بهدوء لم أدر كيف اعتراني:لن تضع مليما واحدا في جيبك قبل أن نجد حلاّ...فإذا به، وقد أحسّ بالخطر، يقترح عليّ أن نحفر حول ِرجليْ صالح وهكذا يمكنه الانتقال إلى بيته، ولن يحمل معه سوى طبقة رقيقة من أرضية المقهى.انتفضت من مكاني كالملدوغ، وركضت نحو الجماعة المتحلّقة حول صاحبنا معلنا عن الحل.ومن هول المفاجأة، صرخ دحدوح:- يا إلاهي، إنّهم يريدون خراب بيتي!لم أعر اهتماماً لصراخه، ورجوت عامل الورشة أن يسرع فوراً ليتدبّر أمره، ويحضر أدوات الحفر وقد وعدته بمكافأة ستسعده. فقدح الشرر تحت قدميه، وانطلق خارج المقهى الذي صار محاصراً من كل الجهات.