وادي الـ«تشيليكون»... بوابة جديدة في أميركا اللاتينية

نشر في 03-11-2012
آخر تحديث 03-11-2012 | 00:01
No Image Caption
في تشيلي برنامج حكومي يهدف إلى اجتذاب المبادرين والشركاء للمشاريع الأولية بغية إقامة مشاريع تجارية بها، وهذا البرنامج يعود الفضل فيه إلى أفكار نيكولاس شيا، وهو رجل أعمال تشيلي خدم فترة قصيرة في مناصب حكومية في بلاده.
 إيكونوميست  بينما تغلق أميركا الأبواب في وجه الشركاء والمبادرين المهاجرين، ترحب تشيلي بهم الواحد تلو الآخر ممن وصلوا إلى خشبة المسرح وقدموا أفكارهم إلى الجمهور. كان هناك مؤسس شركة «كويلا دوت كوم» المصنعة للبرامج التي تساعد أصحاب الأملاك على تحقيق المزيد من الأرباح من عقاراتهم، وكان هناك أيضاً المؤسس المشارك لخدمة «شيف سيرفينغ» التي تقدم مساعدة إلكترونية عبر الإنترنت إلى الأشخاص الذين يبحثون عن طهاة كبار ومشرفي طهي لتشغيلهم، ومؤسس «كيدزوه» التي تطرح تطبيقات تمكن الشركات من إرسال مقاطع فيديو لتدريب العمال عبر هواتفهم الجوالة أو أقراص الحواسيب.

هذه الشركات وغيرها من النوع الحديث العهد ويحمل البعض منها أسماء غريبة مثل «تشو شو» و»والويشر» و»ايغوانابي» حظيت بتصفيق حاد من قبل الشركاء والمستثمرين ورجال المال وجمهور الممولين. ربما لو كان ذلك المشهد يتابعه مراسلكم الموجود في «وادي السيلكون» لكان ذلك يبدو مألوفاً جداً وطبيعيا، لكن الجديد في الأمر أن هذا المشهد حدث في تشيلي الدولة التي طالما اشتهرت بأنها بلد مناجم النحاس والنبيذ الرخيص وليس بلد الابتكار.

سعت دول عدة إلى إقامة نسختها الخاصة من «وادي السيلكون»، وقد فشلت كلها على وجه التقريب غير أن محاولة تشيلي مثيرة للاهتمام بسبب استخدامها لنقطة الضعف الأصلية في «وادي السيلكون»- نظام الهجرة الأميركي الفظيع... فبينما ترفض الدولة التي طالما كانت ملاذاً للمشاريع الحرة للمبادرين والمبتكرين والشركاء فإن تشيلي باتت ترحب بهم.

طرد البارعين

هناك برنامج تأسيس الشركات وإطلاقها الذي يطلق عليه «ستارت أب تشيلي»، وهو برنامج حكومي يهدف إلى اجتذاب المبادرين والشركاء للمشاريع الأولية بغية إقامة مشاريع تجارية في تشيلي، وهذا البرنامج يعود الفضل فيه إلى أفكار نيكولاس شيا، وهو رجل أعمال تشيلي خدم لفترة قصيرة في مناصب حكومية في بلاده. ويقوم البرنامج باختيار شركات صغيرة واعدة ويقدم إلى مؤسسيها ما يعادل 40 ألف دولار مع تأشيرة لمدة سنة للقدوم للعمل في تشيلي. ومنذ سنة 2010 عندما بدأ البرنامج المذكور شاركت فيه حوالي 500 شركة و900 مبادر ومستثمر أولي من مجموع 37 دولة، وقد تضمن هذا البرنامج تقديم أموال إلى التشيليين أيضاً.

ويقول شيا إنه استلهم فكرته من تجربته في الولايات المتحدة، حيث درس في جامعة ستانفورد، وهي منبع الأعمال الحديثة العهد في مجال التقنية العالية. ويضيف قائلاً «رأيت نوعية بارعة من الناس يطردون من الولايات المتحدة لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على تأشيرة للبقاء هناك وطرأت لي الفكرة: لمَ لا أقوم بإحضار بعضهم إلى تشيلي؟».

ومثل العديد من الدول الأخرى بما في ذلك البرازيل والمكسيك تريد تشيلي تأكيد نفسها مقصداً للمشروعات في أميركا اللاتينية، وقد أطلقت مجموعة من البرامج التي تمولها الحكومة من أجل دعم الشركات المحلية حديثة العهد كما قامت بتسهيل عمليات إنشاء شركات جديدة بسرعة في تشيلي. ومن خلال برنامج «ستارت أب تشيلي» تمكنت من جلب المبادرين والمبتكرين والشركاء الأجانب كي يساهموا في إلهام نظرائهم المحليين.

تجميل الصورة

وقد حقق البرنامج نجاحاً كبيراً في أوساط الأجانب، وهو وضع لم يكن مفاجئاً: إنهم يقيمون أعمالهم التجارية عبر نقود محلية ومن دون التنازل عن أي حصة، ويشيد العديد منهم بالأوقات الممتعة التي يتمتعون بها في البلاد، حيث يستطيعون كتابة البرامج أثناء تناولهم للمشروبات المحلية إضافة إلى تبادل المعلومات مع نظرائهم. ويقول جون نجوكو، وهو مواطن أميركي ومؤسس شركة «كويليا»: «الوضع يشبه تماماً الحال في كاليفورنيا».

استخدمت الشركات أموالها وسيولتها النقدية لتحقيق كل ما ترغب فيه من أغراض وأهداف. وتقول شركة «توهل» الحديثة العهد، المتخصصة في تصنيع الأنابيب المرنة التي يمكن استخدامها وإنزالها عن طريق المروحيات لإيصال الماء إلى المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها أو إلى مواقع الكوارث، إنها أنفقت أموالها واستثماراتها على أشياء مثل اختبار نظامها الجديد بالتعاون مع شركة تعدين تشيلية، وقد حصلت على براءة اختراع.

ويستهدف برنامج «ستارت أب تشيلي» أن تعمل تحت عباءته حوالي 1000 من الشركات الوليدة بحلول نهاية السنة المقبلة وبتكلفة تصل إلى 40 مليون دولار. وقد حققت هذه العملية قدراً من النجاح كما تبين في شركة «كروز وايز»، المتخصصة في تقديم خدمات حجز الرحلات البحرية والسفن عبر شبكة الإنترنت، حيث أعلنت أنها بصدد زيادة رأسمالها من مصادر خارجية. على أي حال يتعين الحكم على هذه الخطوة من خلال المعيارين اللذين وضعتهما الحكومة التشيلية وهما: هل حسنت صورة تشيلي في الخارج كوجهة للمشاريع؟ وهل ألهمت المواطن التشيلي للشروع في أعماله التجارية الخاصة؟

التقاط المواهب

من خلال المعيار الأول حقق البرنامج من دون شك نجاحاً، ويقوم مدير البرنامج التنفيذي هوراشيو ميلو وفريقه بزيارات منتظمة إلى شتى دول العالم لعقد اجتماعات من أجل تشجيع الشركاء والمبادرين والمبتكرين على القدوم إلى «وادي التشيليكون»، كما يطلق على البرنامج المشار إليه. وقد تقدمت شركات حديثة العهد من حوالي 60 دولة بطلبات من أجل الحصول على آخر جولة من المنح، كما أن تجربة تشيلي أثارت الاهتمام في أماكن أخرى: وتخطط البرازيل لإطلاق برنامج مماثل يستهدف جذب المواهب الأجنبية إلى شواطئها في وقت لاحق من هذه السنة. ويقول جوان أندريس فونتين وزير الاقتصاد السابق الذي أعطى الضوء الأخضر لفكرة شيا «كان قسم العلاقات العامة في البرنامج أكثر نجاحاً مما كنا نتوقع ونحلم به».

ولاشك أن رصد تأثير البرنامج في النظام البيئي في البلاد والمشروعات المرتبطة به يعد أمراً أكثر صعوبة، لكن يبدو أنه أفضى إلى تأثيرات إيجابية. وفي مقابل الأموال التي يحصل عليها الأجانب يتعين عليهم المساهمة في مشاركة نظرائهم المحليين في المعرفة التقنية عبر برامج التدريب وورش العمل المشتركة... وعلى مدار الفترة بين 2010 وسبتمبر 2012 عقد المشاركون في البرنامج حوالي 380 اجتماعاً وشاركوا في أكثر من 1000 ورشة عمل ومؤتمر.

ويقول وزير الاقتصاد الحالي في تشيلي، بابلو لونغويرا، إن البرنامج ساعد على إحداث وتحقيق تغيرات أوسع، مثل الزيادة الكبيرة التي تحققت في العامين الماضيين في عدد الشركات التشيلية التي تقدمت بطلبات للحصول على رسملة من الحكومة إضافة إلى الزيادة في عدد الجامعات التي تقوم بتدريس المشاريع. (وعلى سبيل المثال تخطط الجامعة الكاثوليكية في تشيلي لافتتاح مركز للابتكار من أجل تمكين الأكاديميين والمبادرين والمبتكرين من العمل جنباً إلى جنب). ولفت الوزير أيضاً إلى أن البرنامج أتاح الكثير من الموضوعات الصحافية للصحف التشيلية التي أصبحت تكرس مساحات نشر أكبر من السابق لتغطية أنشطة المبادرين والشركاء التجاريين.

تحديات قاسية

منذ بدأ البرنامج في عرض خدماته على الأوساط المحلية ساهم ذلك كمصدر إلهام للعديد من الشركاء المحليين للسعي نحو التحول إلى الأعمال التجارية، وجاءت نسبة 40 في المئة من الطلبات الأخيرة من شركات محلية، ويقول التشيليون الذين حصلوا على دعم من البرنامج إنهم استفادوا من العمل جنباً إلى جنب مع نظرائهم الأجانب. ويقول نيكولاس مارتلانز رئيس شركة «موشن ديسبلايز» التشيلية الحديثة العهد، التي تقدم برمجيات تعمل على مساعدة تجار التجزئة لتحسين دخلهم عبر توفير مزيد من المعلومات في أيدي رجال البيع: «لقد قامت شركة برازيلية من المشاركين في البرنامج بكل مهام التطوير للبرمجيات المذكورة»، ويثني عدد من التشيليين الآخرين الذين شاركوا في البرنامج على الخبرات والاتصالات التي حققوها خلاله.

لكن ليست الأمور كلها في تشيلي تسير بصورة جيدة، إذ يواجه المبادرون والمشاركون المحليون والأجانب الذين يفكرون في البقاء في البلاد بعد انتهاء فترتهم في مشروع «ستارت أب تشيلي» تحديات قاسية. ولا يوجد العدد الكافي من ممولي المشاريع الخاصة لدعم الشركات الصغيرة بالمال والنصيحة. كما أن الجامعات التشيلية لا تنشر دراسات وتقارير تتعلق بالشركات الوليدة بالسرعة التي تحدث في الولايات المتحدة، ويأمل الكثير من الشركات الوليدة الطموحة في «وادي التشيليكون» بلوغ مدى «وادي السليكون» ذات يوم.

سنغافورة لاتينية

وتبرز عقبات أخرى أمام ترسيخ ثقافة نشطة لفكرة الشركات الوليدة في النظم الراعية لإفلاس الشركات في تشيلي التي تجعل من الصعب بالنسبة إلى الشركات والشركاء المفلسين القيام بمحاولة جديدة. كما أن الاقتصاد يخضع لسيطرة قلة من الامبراطوريات التجارية وبيروقراطية محافظة للغاية. ومن المفارقة أن ذلك يهدد بتعطيل إدارة الأعمال على أساس من الندية والتنافسية التي وصفها أخيراً عراب البرنامج نيكولاس شيا.

ثمة مؤشرات على أن الأمور قد تسير نحو التحسن، وعلى سبيل المثال، تم طرح مشروع قانون يستهدف إجراء إصلاحات جوهرية في نظام إفلاس الشركات والأفراد في تشيلي، ويخضع في الوقت الراهن للمرحلة التشريعية، ويأمل وزير الاقتصاد التشيلي لونغويرا أن يتم إقراره بحلول نهاية هذه السنة. غير أن تشيلي لا تزال تواجه صعوبة في مضاهاة البرازيل التي تتمتع بأسواق محلية ضخمة وصناعة مشروعات رأسمالية مشتركة أكثر تطوراً. وقد تكون بيروقراطية البرازيل أكثر سوءاً من تشيلي، غير أن اقتصادها أكبر بعشر مرات.

ويجادل هرنان شيري رئيس هيئة كورفو الحكومية التي تشرف على برنامج «ستارت أب تشيلي» وغيره من المبادرات الرامية الى دعم المبادرين والشركاء التجاريين في أن البرازيل ستعتبر حتماً مثل صين أميركا اللاتينية نظراً لحجمها، وأن تشيلي قد تعتبر مثل سنغافورة في المنطقة التي ازدهرت نتيجة الترحيب بالمواهب الأجنبية وتوفير قاعدة مستقرة حسنة التنظيم للشركات وعملياتها في شتى أنحاء آسيا.

وعلى أي حال فإن سنغافورة تحفل بسجل عريض بينما لا يتجاوز عمر برنامج تشيلي السنتين، وهي مرتبطة بشكل وثيق بحكومة يمين الوسط الحالية التي قد تخرج من الحكم في انتخابات السنة المقبلة.

وأياً كان الحزب الفائز، يقول جوزيه ميغيل مسالم رئيس شركة «أوروس»، برأسمال مشترك، إنه يأمل أن يتمكن برنامج «ستارت أب تشيلي» من البقاء والاستمرار، مضيفاً أنه حقق فائدة ضخمة «فالتشيليون رأوا ما حققه خريجو جامعة ستانفورد المهرة وغيرها من الجامعات الرائدة وقالوا لأنفسهم: نحن نستطيع القيام بذلك أيضاً»... فإذا ساهم هذا البرنامج في تشجيع الشركاء والمبادرين المحليين ودفعهم إلى التفكير التطلع إلى آفاق ونطاقات أوسع، فإن ذلك إنجاز لا يستهان به.

back to top