«عبقرية عمر» لعباس العقاد... رجل العدل

نشر في 26-10-2012 | 00:01
آخر تحديث 26-10-2012 | 00:01
No Image Caption
صدر حديثاً كتاب «عبقرية عمر» لعباس محمود العقاد ضمن سلسلة كتاب الدوحة الصادر مع مجلة الدوحة. تعد العبقريات أشهر ما كتبه العقاد، ففي هذه العبقريات كتب عبقريات محددة: عبقرية أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعلي بن أبي طالب.
كتب العبقريات للعقاد في مجملها عن الحكم، والإدارة السياسية والمدنية لشؤون المجتمع العربي الإسلامي، وعلاقات هذا المجتمع بالمجتمعات المحيطة به في الشام ومصر ودول الشمال الإفريقي، والعراق العربي.

تتألق العبقريات بين أعمال العقاد الفكرية والأدبية كجوهرة متلألئة متألقة، فقد كتبها كجزء من مشروع فكري إسلامي، تعددت محاوره وقضاياه بين اختيار شخصيات بعينها ارتبطت ببناء الدولة، فمفهوم الدولة هنا يقترب من مفهوم الدولة العصرية، وارتبطت أيضاً بمفاهيم اجتماعية حديثة، مثل: محاسبة الحاكم والديمقراطية وغيرها من مفاهيم لا يزال الجدال يدور حولها. والسبب الآخر لكتاباته هذه العبقريات، أنها اختيارات ترتبط به شخصياً وفي رؤيته لدور المثقف الذي يجب أن يحارب التضليل الفكري، ويخرج على كل ما هو تقليدي وثابت، ويطرح الأسئلة المختلفة لبناء العقل الحديث، وهو ما نجده لدى العقاد في الشعر وفي معاركه الأدبية والفكرية كافة.

منهج

كتب العقاد عبقرياته في ضوء رؤية ومنهج نقديين يقيّم بهما شخصياته العبقرية في كتب العبقريات العقائدية، يقول في مقدمته لكتابه: «وكتابي هذا ليس بسيرة لعمر، ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، لكنه وصف لها. ودراسة للأطوار، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص بعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة. فلا قيمة للحدث التاريخي جلّ أو دقّ إلا من حيث أفاد في هذه الدراسة. ولا يمنعني صغر الحدث أن أقدمه بالاهتمام نفسه والتنويه على أضخم الحوادث إن كان أوفى تعريفاً بعمر، وأصدق دلالة عليه».

وفي رأي العقاد فإن عمر رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه، لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية، وزعم الهاتفون بدين هذه القوة، أن البأس والحق نقيضان. فإذا فهمنا واحداً كعمر بن الخطاب، فقد هدمنا دين الطاغية من أساسه، لأننا سنفهم رجلاً كان غاية في البأس، وغاية في العدل، وغاية في الرحمة. وفي هذا الفهم ترياق من داء العصر، يشفى له من ليسوا يميلون إلى الشفاء. وإنه لجهاد جديد لعمر بن الخطاب طاب للعقاد أن يوجزه لنا في هذا الكتاب.

تلي المقدمة فصول حرة عدة: عبقري، رجل ممتاز، صفاته، مفتاح شخصيته، إسلامه، عمر والدولة الإسلامية، عمر والحكومة العصرية، عمر والنبي، عمر والصحابة، ثقافة عمر، عمر في بيته، ثم صورة مجملة. ويرى العقاد أن مفتاح شخصية عمر هو، في هذا الإيمان الضابط الذي يسيطر على أخلاقه، كما يسيطر على دوافعه وسوراته (غضبه)، وذلك الضابط هو إيمانه بالعدل والمساواة والشعور بالمسؤولية.

الحكومة العصرية

وفي فصل «عمر والحكومة العصرية» وهو الفصل الذي يعكس بصورة واضحة رؤية العقاد لعمر بن الخطاب، باعتباره رجل دولة، تقترب من مفهومنا للدولة العصرية، كذلك هو الفصل الذي يتضح فيه السبب المباشر في اعتبار العقاد عبقرياً يجب الوقوف عنده، وفهم شخصيته في ضوء العصر الذي يعيش فيه. يرى العقاد أن الأبطال في أي عصر يقاسون بمقياس عصرهم، وليس بمقياس عصرنا، وأن الرجل الذي يصطنع فيه هو، القدوة التي يقتدي بها أبناء جيله، ولا حاجة له أن يقتدي بنا. ولا أن يشق حجاب الغيب لينظر إلينا، ويعمل بعملنا وبموافقتنا، وبما يرضينا.

وعن شخصية عمر، يذكر العقاد أنه كان متعففاً في معيشته مثل صاحبيه رسول الله وأبي بكر. على حين أنه كان يغدق العطاء على الأقاليم والمسؤولين عن الخراج ليجنبهم الغش في مال الأمة، ويشبعهم ليعفّوا. وكان يقول: «المروءة مروءتان: ظاهرة وباطنة، المروءة الظاهرة هي الغنى، والمروءة الباطنة هي العفاف».

ويذكر العقاد، أن عمر كان يعاقب على مخالفة العرف، لأنه لم تكن قد تكونت بعد في المجتمع معاقبة لمخالفي العرف، بالعرف. وفي عصرنا: نقسم النواهي والأوامر إلى قسمين: قسم يحاسب عليه القضاء بالقانون، وقسم يحاسب عليه العرف المأثور، وعقاب العرف حق الأمة وليس بحق الحكومة والقضاء. وقد غضب عمر على الحطيئة الشاعر لهجائه الناس، ومنعه أن يهجو أحداً، فتضرع إليه الرجل وقال: إذن أموت أنا وعيالي من الجوع، فأنذره عمر ليقطعن لسانه، ثم عطف عليه وساومه على ترك الهجاء بثلاثة آلاف درهم، فسلم الناس من لسان الحطيئة.

ولم يعتمد قيام الدولة الإسلامية في عهد عمر على اتساع رقعة ممتلكاتها، بل اعتمد على سياسة إدارية حازمة كانت عنصراً جديداً بالنسبة إلى المجتمع العربي في عصر عمر. وهو انقلاب في سياسة الحكم يعد من المنجزات العامة التي نسبت لعمر. وقد تمثلت هذه السياسة في تقسيم السلطات في حكم الأقاليم المفتوحة، وقد كان الوضع في عهد الرسول وأبي بكر إسناد هذه السلطات كافة إلى وال واحد، في الإقليم الواحد كله، وله بالطبع خصوم وأقارب. أما في عهد عمر فقد صار للإقليم وال، ووال للجند ووال للخراج وقاض للقضاة، وهكذا فتسلسل هرم الإدارة في عهده، وهو ما لم يحدث من قبل، وقد قسم كل إقليم من الأقاليم المفتوحة إلى إقليمين في الشام والعراق ومصر، ففي العراق مثلاً صار هناك وال لإقليم البصرة وآخر لإقليم الكوفة، وقائد في كل منهما للجيش.

وكان عمر إذا استعمل عاملاً على إقليم، كتب له عهداً واشترط عليه العدل والمساواة بين الناس، وعدم التعالي على الرعية. وكان يبعث الثقات من الصحابة لاستطلاع أحوال الولاة في معاملة الرعية وسير عمالها فيها. وهو ما يقابل في زماننا لجان تقصي الحقائق. وكان ينتهز مواسم الحج حتى يجمع بين عماله والشاكين منهم من أهل الأمصار، وكان بطبيعته يعطي لكل ذي حق حقه، دون اعتبار لمنزلته الاجتماعية، حتى إنه ضرب أحد الصحابة بسوطه، لأنه تعدى حدود المساواة بين الناس وأراد أن يقدم نفسه على غيره.

وفي عهد عمر، قُسمت الأقاليم إلى ولايات ليتيسر حكمها والإشراف عليها. وفي عهده تأسست مدن جديدة لتكون قاعدة للجند. ومع اتساعها صارت قاعدة للولاية والحياة العامة، وجرى تخطيط هذه المدن ليكون المسجد مركزها، ومعه دار الولاية، ودار القضاء والفتوى وسواها من الدور العامة في الولاية.

back to top