زهراء الأندلس تخطف ألباب الأوروبيين

نشر في 10-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 10-08-2012 | 00:01
الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (7)

الأمير الشاب يقضي على الحرب الأهلية ويعيد الأمن للأندلس

كان الأمير عبدالرحمن يعلم علم اليقين أن أكبر خطر يتهدد عرش قرطبة، يأتي من الجنوب من قبل ذلك الثائر العنيد ابن حفصون المتحصن بجبال ببشتر، وأن القضاء عليه سيعيد الكثير من هيبة الحكم الأموي الضائعة، لذلك بعد أن نجح قواده في استعادة عدد من المدن التابعة لابن حفصون، قرر الأمير عبدالرحمن الخروج بنفسه على رأس قواته في شعبان سنة 300هـ/مارس سنة 913م، أي بعد ولايته بأربعة أشهر، لمنازلة ابن حفصون.

واستطاع عبدالرحمن الثالث أن يجبر ابن حفصون على التراجع والانزواء في حصون ببشتر، بعد أن انتزع منه حصونه السبعين في ولايتي ريُّه وإلبيرة.

كانت إشبيلية –ثانية مدن الأندلس- معقل ثورة بني الحجاج الذين استقلوا بحكمها، وتحدوا سلطة قرطبة مرارا، لذلك رأى الأمير عبدالرحمن أن يقوم بعمل حاسم ضد هذه المدينة، فنجح في الاستيلاء عليها في جمادى الأولى سنة 301هـ/914م، ليقضي بذلك على ثورة المولدين في إشبيلية.

أراد الأمير الناصر بعد فتح إشبيلية، أن يثبت أقدامه في الأندلس أكثر، من خلال القيام بعمل حربي أكثر حسما ضد ابن حفصون في الجنوب، لذلك خرج على رأس قواته في عام 301هـ/914م والتقى بقوات ابن حفصون أمام حصن طرُّش وألحق به هزيمة ساحقة، أجبر بعدها ابن حفصون على الانسحاب من أرض المعركة بعد مقتل العديد من أنصاره، وقام الأمير

عبدالرحمن بعدد من الأعمال الحربية التي اجهضت قوة ابن حفصون، وأثبتت مدى مقدرة الحاكم الجديد وقوته.

وتابع الأمير إرسال الجيوش إلى المدن والحصون التابعة لابن حفصون، وأمام انتصارات قوات قرطبة لم يجد ابن حفصون مفرا من الدخول في طاعة عبدالرحمن، وهو ما رحب به الأخير، كون دخول أكبر ثائر على حكومة قرطبة في طاعتها يعني القضاء على أحد أركان الثورة في البلاد.

نهاية الثائر

وفي عام 306هـ/918م تُوفي عمر بن حفصون عن عمر ناهز الثانية والسبعين، فكانت وفاته نهاية تلك الثورة التي استمرت لأكثر من ثلاثين عاما ضد سيادة قرطبة، وهي ثورة امتزجت فيها عوامل كثيرة أكسبتها زخما، فمن ناحية كانت أكبر ثورات المولدين ضد ارستقراطية العرب في الأندلس، وكانت تعبيرا عن الرفض المسيحي للسيادة الإسلامية في بعض جوانبها، لذلك ما إن وصلت أنباء وفاة ابن حفصون إلى قرطبة حتى تنفس

عبدالرحمن الثالث الصعداء، وبدأ على الفور في العمل لتصفية بؤر الثورة المنتشرة في الأندلس، "فعد مهلكه فاتحة الإقبال، وطالعة السعد، واجتثاث الفتنة" على حد قول المؤرخ الرازي المعاصر لهذه الأحداث.

لكن وفاة ابن حفصون لم تكن تعني انتهاء القلاقل في منطقة جبال ببشتر، فقد تقاسم أبناؤه ممتلكاته، لذلك عمل عبدالرحمن الثالث على تتبع أبناء عمر بن حفصون واستنازلهم من حصونهم، فاستسلم له أولاد ابن حفصون، تباعا وكان آخرهم حفص بن عمر بن حفصون الذي استسلم في سنة 315 هـ/927م، وذهب إلى قرطبة حيث عفا عنه عبد الرحمن الثالث.

في العام التالي ذهب عبدالرحمن الثالث إلى حصون ببشتر، فعين عليها واليا من قبله، وأمر بإعادة فتح مساجدها، التي كان أغلقها ابن حفصون بعد دخوله في المسيحية، وهدم أسوارها وتحصيناتها حتى لا يتخذها أي ثائر مقرا حصينا له، وكان هذا إيذانا بانتهاء الثورة.

انتهاء الحرب الأهلية

انشغال عبدالرحمن الناصر بتصفية ثورة ابن حفصون في الجنوب لم يجعله يغفل عن تتبع بقية الثوار، فأرسل قواته للقضاء على ثورة المولدين بطليطلة، التي تمثل قلب إسبانيا كلها، بموقعها الاستراتيجي في قلب البلاد، بينما خرج هو نفسه على رأس قواته متوجها غربا صوب مدينة بطليوس التي أعلن فيها بنو مروان الجليقي ثورتهم على الأمويين واستقلالهم بحكمها، والتي سقطت في يديه سنة 318هـ/930م، وطهر بذلك عبدالرحمن الثالث غرب البلاد من الثورة وأعاد إليها شيئا من الاستقرار.

بذلك لم يتبق للثوار ملجأ إلا الشرق في حصون تدمر وبلنسية وسرقسطة (الثغر الأعلى) التي سقطت تباعا في يدي الناصر، وكان سقوط مدينة شنت برية، ومن بعدها مدينة شاطبة في عام 317هـ، إيذانا بانتهاء تلك العاصفة من عدم الاستقرار التي ضربت الأندلس أكثر من نصف قرن أهلكت عشرات الآلاف من الجنود، واستنفدت قوة الإمارة الأموية في محاولاتها المستمرة لإعادة النظام والاستقرار.

ما إن كاد عبدالرحمن الناصر يستقر في قرطبة بعد انتهاء الحرب الأهلية، حتى بدأ يضع سياسة لمواجهة الأخطار الخارجية المحدقة بالأندلس، ففي الشمال استغلت مملكتا ليون ونافار الإسبانيتان الحرب الأهلية بين المسلمين لزيادة رقعة أملاكهما جنوبا، كذلك بدأت التغيرات والأحداث السياسية المتسارعة في إفريقية والمغرب تطل برأسها في الأندلس، وكان وصول الفاطميين الشيعة إلى سدة الحكم في إفريقية منذ سنة 297هـ/909م، انقلابا في الأوضاع السياسية في المغرب الإسلامي، فالقوة الجديدة أعلنت نفسها خلافة مستقلة تناطح الخلافة العباسية على سيادة العالم الإسلامي، وطمح خلفاء الفاطميين في حكم المغرب الإسلامي كله من برقة شرقا حتى الأندلس غربا، فبثوا دعاتهم في بلاد الأندلس بعد أن سيطروا على بلاد المغرب كلها، وبدا تقدم الفاطميين القادم من الجنوب مع تقدم الإسبان القادم من الشمال خطرا يهدد مُلك بني أمية، وكان على عبدالرحمن الثالث أن يثبت مرة أخرى كفاءته السياسية والحربية.

هزيمة الخندق

لم تدم فترة السلام مع إمارات النصرانية طويلا، وتبنى ملك ليون الجديد رذمير الثاني سياسة عدائية ضد المسلمين وبدأ في مهاجمة أراضي الأندلس، واستولى على حصن مجريط (مدريد فيما بعد) وهدد طليطلة، في وقت كان عبد الرحمن الناصر أنهى الحرب الأهلية وقمع الثوار، وأحكم سيطرته على بقاع الأندلس المختلفة، لذلك رأى أن يخرج على رأس جيوشه لقمع تحركات ملك ليون.

لكن عبدالرحمن الناصر ألقى بقيادة الجيش لـ"نجدة الصقلبي"، وهو ما أثار غضب القادة العرب، لذلك عندما التقت قوات المسلمين بقوات إمارات الإسبان بقيادة رذمير الثاني، عند أسوار مدينة شنت منكش سنة 327هـ/939م، تقاعس القادة العرب عن القتال، فتعرضت قوات عبدالرحمن الناصر لهزيمة ساحقة، وسقط المئات أثناء تراجع الجيش في خندق المدينة، لذلك عرفت تلك الوقعة بمعركة الخندق، واضطر الناصر إلى الانسحاب في قلة من جنده إلى قرطبة.

كان وقع الهزيمة شديدا على عبدالرحمن الناصر وقرر عدم الخروج على رأس جيشه مرة ثانية، وعمد إلى إعادة بناء جيشه من جديد وتنظيمه، وعمد إلى الخونة من المنسحبين فأمر بقتلهم وصلبهم على أسوار قرطبة.

رغم الهزيمة استطاع عبدالرحمن الناصر أن يعيد تنظيم قواته من جديد، وأن يتعافى سريعا، وعمل على تحصين حدود الأندلس الشمالية، وعين غالب الناصري واليا على الثغر الأوسط، وجعل مقر حكمه مدينة سالم، الذي تولى مهمة مواجهة جيوش الإمارات الإسبانية وأثبت مهارة كبيرة في قتالهم.

وتوالت الهجمات الأندلسية التي تعرف بالصوائف، أي التي تتم خلال شهور الصيف، حتى أدرك معها رذمير الثاني عبث المقاومة وأن القدر عندما تبسم في وجهه مرة فإنه عاد لعبوسه أبدا، لذلك طلب بعقد معاهدة مع عبدالرحمن الناصر، واعترفت به جميع ممالك الإسبان سيدا أعلى لجميع بلاد الأندلس والإسبان جاعلا من قرطبة سيدة البلاد المطلقة.

خليفة ضد خليفة

في الوقت الذي كان عبدالرحمن الناصر يواجه ممالك الإسبان في الشمال، كان عليه أن يراقب الخطر المقبل من بلاد المغرب، المتمثل في قيام خلافة الفاطميين الإسماعيلية في إفريقية، وسيطرتهم سريعا على بلاد المغرب من برقة إلى طنجة، في وقت نشرت الدولة الفاطمية دعاتهم في أنحاء العالم الإسلامي بما فيها الأندلس، لنشر مذهبهم الإسماعيلي، ولم يخف الفاطميون يوما طموحهم وهو إزاحة الأنظمة المختلفة في العالم الإسلامي، وعلى رأسها الخلافة العباسية في بغداد وإمارة بني أمية في قرطبة.

هنا بدأت أجراس الخطر تدق في قرطبة، فوضع الناصر استراتيجية جديدة لسياسة قرطبة فقضى على عزلتها الاختيارية وبعدها عن الانغماس في سياسة الشمال الإفريقي، وقرر العمل على وضع العراقيل أمام التقدم الفاطمي بإثارة القبائل البربرية في المغرب الأقصى وحشدها ضد الفاطميين كحاجز أمام تقدم الفاطميين صوب الأندلس.

رأى عبد الرحمن الناصر أن يؤمن بلاد الأندلس أولا لذلك أرسل أساطيله في عام 319هـ/931م، لاحتلال ثغري طنجة وسبتة (أقصى شمال بلاد المغرب) لأنه رأى فيهما سيطرة على مفاتيح بلاد المغرب الأقصى المواجهة للأندلس، ومن خلال المدينتين يستطيع توقع أي هجوم محتمل على الأندلس والعمل على صده، وهي استراتيجية ناجعة سيتبناها كل من سيأتي بعد عبدالرحمن الناصر في حكم هذه البلاد.

كذلك عمل الناصر على الاستعانة بقبائل زناتة القوية لمواجهة الفاطميين الذين تحالفوا مع قبائل كتامة وصنهاجة، إلا أن كلاً من الفاطميين والأمويين فشل في فرض سيادة حقيقة على بلاد المغرب الأقصى، لكن عبدالرحمن الناصر نجح في إجبار الفاطميين على صرف نظرهم عن مشروع فتح الأندلس لصالحهم، وغيروا وجهتهم السياسية صوب الشرق لفتح مصر، وأرسى الناصر بذلك سياسة تجاه بلاد المغرب سيمضي على أثرها خلفاؤه من بعده.

لم ينس عبد الرحمن الناصر الأندلس في ظل صراعاته مع الإسبان أو الفاطميين، وبدأ في وضع معالم ثورة إنشائية في مختلف أنحاء البلاد، ساعده في ذلك حالة الرخاء واليسر التي صاحبت الشطر الأخير من حكمه، بعد أن أخضع معارضيه وأحكم قبضته على البلاد فقاد ثورة حضارية لإعادة تنشيط التجارة والزراعة والصناعة، حتى توطدت دعائم حكومة قرطبة وامتلأت خزائنها بالأموال الوفيرة، في وقت لم تشتط الدولة في جمع الضرائب من الرعية.

غدت قرطبة في عصر الناصر أكبر عواصم أوروبا على الإطلاق، وأخذت بجلالها وروعتها ألباب الأمم الأوروبية التي رأوا فيها جنة الله في الأرض وسط الشقاء والبؤس اللذين عاشوا فيهما في مدنهم التي لم تتجاوز، طوال العصور الوسطى، كونها نموذجاً للقرية الكبيرة، وغدت قرطبة من كبرى حواضر العالم الإسلامي ولا تقارن إلا ببغداد إن لم تفقها عظمة وبهاء.

ونمت قرطبة حتى غدا عدد سكانها –وفقا لتقدير المستشرق دوزي- 500 ألف، وبلغ عدد مساجدها ثلاثة آلاف، ومنازلها أكثر من مئة ألف، وحماماتها العامة ثلاثمئة.

وكان في القلب من برنامج الناصر للنهوض بقرطبة العناية بالمسجد الجامع في قرطبة، الذي قام بعملية تجديد شاملة شملت تجديد واجهات المسجد وزاد في مساحته حتى عد أحد أكبر جوامع العالم الإسلامي في وقته، ويعد المحراب الذي أقامه آية من آيات الجمال، بالإضافة لإنشائه مئذنة ضخمة، بلغ ارتفاعها 80 مترا، حلت محل المئذنة القديمة وعدت من عجائب العصر بارتفاعها الشاهق ورشاقتها المعمارية، إلا أن الإسبان أزالوا هذه المئذنة في ما بعد وأقاموا محلها برج الأجراس الحالي.

الزهراء

أما درة أعمال عبدالرحمن الإنشائية فكانت بلاشك المدينة الملكية الزهراء، التي بناها الناصر شمال غربي قرطبة بسفح جبل العروس، وعن سبب بناء هذه المدينة الملوكية يروي لنا المقري في كتابه "نفح الطيب" ان إحدى جواري الناصر ماتت عن ثروة ضخمة أوصت بأن توقف كلها على فك أسرى المسلمين، وعندما لم يجد الناصر مسلمين في الأسر أوحت إليه محظيته "الزهراء" ببناء مدينة ملكية تخلد اسمها، وهي قصة جميلة لكنها لاتكفي لتحريك همة ملك بعظمة عبد الرحمن الناصر، لكن السبب الحقيقي الذي دفع به لبناء مدينة الزهراء كان رغبته في مدينة ملكية تتناسب مع عظمة الأندلس في عصره تعكس قوة الخلافة الأموية وتبعث ببهائها في نفوس زائريها رهبة وخشوعا لسطوة سيدها عبد الرحمن الناصر.

بدأ العمل في بناء تلك المدينة الخيالية في سنة 325هـ/936م، وأوكل الناصر مهمة الإشراف على بناء المدينة لولي عهده الأمير الحكم، وظل العمل فيها متواصلا حتى وفاة عبد الرحمن الناصر(في سنة 350 هـ) واستمر العمل فيها حتى قرب نهاية سنة 365هـ، أي أن عملية البناء في مدينة الزهراء استغرق أربعين عاما، كان يعمل خلالها من العمال والمهندسين 10 آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخمسمئة، وينفق على البناء سنويا ما يقدر بـ300 ألف دينار.

ولم يدخر الناصر في تنميق مدينته وسعا فجلب الرخام الذي زين به منشآت المدينة من إفريقية، وأهدى إليه ملك الروم مئة عمود رخامي، وجلب أفخم المواد الخام من أقطار العالم الإسلامي وأقاليم أوروبا المختلفة، وبنيت المدينة على درجات، بكل درجة قسم من أقسامها، وبأعلى الدرجات كان قصر الخلافة، الذي زينت قاعته الرئيسية بالرخام المزود بالذهب، وفي وسطه كان حوض ضخم قد ملئ بالزئبق، بينما زخرفت الجدران العاج والأبنوس المرصع بنفيس الجوهر، فكان للشمس إشراق على هذا المجلس يجعله يتلألأ في سماء الأندلس ويأخذ بنظر من خارج الزهراء، وكانت المدينة بأضوائها الساحرة أكبر إعلان عن مدى عظمة الحضارة الإسلامية وبلوغها الذروة وسيادتها على أمم أوروبا المتخلفة حينذاك.

واستقبل عبدالرحمن الناصر في "الزهراء" سفراء أوروبا سواء كانوا سفراء الباباوية الكاثوليكية أو الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة (الجرمان) أو غيرهم من أمراء الإسبان، وكانت هذه السفرات تتناول توثيق علاقات ملوك أوروبا بأعظم حكام العصر عبدالرحمن الناصر.

على كل حال، وصلت الأندلس إلى ذروة مجدها على يد الناصر عبدالرحمن، فعندما تُوفي في 2 رمضان سنة 350هـ/ 15 أكتوبر 961م، لم تكن البلاد كما تولى أمورها منذ 50 سنة، فأين تلك البلاد المقسمة بين ثوار هنا وهناك يتهددها خطر الفناء في كل لحظة ويحلق في سمائها طائر الموت ينقض على مدنها تباعا، من تلك الدولة المتحدة الأركان عظيمة الصيت التي تركها خلفه عبدالرحمن الناصر.

إحياء الخلافة الأموية

أمام هذه الأخطار المحدقة، رأى الأمير عبدالرحمن الثالث، أنه في حاجة إلى دعم معنوي يزيد من قدر حكومة قرطبة في عيون معاصريها من الأعداء المتربصين، لذلك قرر أن يستعيد تراث أسلافه في المشرق، ويعلن إحياء الخلافة الأموية من جديد في قرطبة، فقد كان التقليد منذ أيام عبدالرحمن الداخل ألا يتسمى هو وولده بألقاب الخلفاء، ورغم أن الأمويين لم يعترفوا يوما بسلطة العباسيين، فإنهم لم يدعو الخلافة لأنفسهم، واكتفوا بالتلقب بـ"أولاد الخلائف"، رغبة في عدم إشعال نزاع سياسي مع العباسيين في المشرق.

لكن الوضع اختلف مع ولاية عبدالرحمن الثالث، فقد أصاب الضعف الخلافة العباسية وأصبح الخليفة صورة لا يملك ولا يحكم، وألعوبة في يد قادة الجيش من الأتراك، كما ظهرت الخلافة الفاطمية الفتية في إفريقية وهي خلافة شيعية، ومعروف العداء التاريخي بين العلويين والأمويين منذ بداية الإسلام، كل هذا جعل الأمير عبدالرحمن الثالث يفكر جديا في إعادة إحياء الخلافة الأموية، لكنه لم يسع إلى إعلان نفسه خليفة بمجرد توليه الحكم، بل تمهل في هذه الخطوة وفي عام 316هـ/928م، وهو نفس العام الذي تم إخماد أغلب الثورات، أعلن صاحب الصلاة القاضي أحمد بن أحمد بن بقي في صلاة الجمعة من على منبر الجامع الكبير بقرطبة الدعاء لخليفة المسلمين الجديد الناصر لدين الله أمير المؤمنين عبدالرحمن بن محمد، وكان اختيار عبدالرحمن الثالث للقب الناصر لدين الله، رسالة بأنه نصب نفسه مدافعا عن الإسلام السني في مواجهة مسيحيي إسبانيا والشيعة الفاطميين.

بدأ عبدالرحمن الناصر مواجهته لأطماع نصارى الشمال بأن أرسل قائد جيشه أحمد بن محمد بن أبي عبده لصد هجوم ملك ليون أردُن الثاني، إلا أن ابن أبي عبده هزم ولقي مصرعه قرب بلدة غُرماج في ربيع الأول 305هـ/ ديسمبر 917م، واستغل ملك ليون انتصاره فاستولى على مدينة "طلبيرة" غرب "طليطلة" مهددا بذلك قلب بلاد الأندلس.

إلا أن الخليفة الناصر، انتقم لمقتل قائد جيشه في سنة 308هـ/920م عندما قاد حملة ضخمة ضد مملكتي ليون ونبرة، واستطاع أن يهزم جيوش المملكتين وأن يجبر مليكها على الهرب.

وواصل هجماته ضد ممالك الإسبان فهاجم مملكة نبرة التي اقتحم عاصمتها "بنبلونة" في عام 312هـ/924م، وهو ما أجبر ملك نبرة سانشو غرسيه على طلب الصلح معلنا تابعيته لعبد الرحمن الثالث.

رغم انتصارات عبد الرحمن الثالث في الشمال فإنه لم يكن يستطيع أن يقوم بأكثر من ذلك خلال هذه الفترة، فلم تكن المناطق الثائرة في بلاد الأندلس أخمدت بعد، لذلك عندما جنحت تلك الممالك للسلم، لم يرفض عبدالرحمن الصلح خصوصا أن ملوك الإمارات الإسبانية أعلنوا دخولهم في طاعته، وهو ما سمح له بتركيز جهوده كلها في قمع الثورات هنا وهناك.

back to top