فاتح ومدينة : الرسول وفتح مكة
تحرك الجيش الإسلامي من المدينة في العام الثامن من الهجرة النبوية صوب مكة المكرمة، لهدم عبادة الأصنام وتدمير الأوثان وتنقية حرم الله من أن يشرك في عبادته أحد في بيته الحرام، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد وضع خطة محكمة تعتمد على المفاجأة، فالتزم السرية في تجهيز الجيش الذي بلغ قوامه عشرة آلاف جندي على رأسهم خيرة صحابة رسول الله، سبعمئة من المهاجرين وأربعة آلاف من الأنصار.وكان سبب عزم الرسول (صلى الله عليه وسلم) على فتح مكة إخلال كفار قريش ببنود صلح الحديبية بعد أن نصروا حلفاءهم من بني كنانة ضد حلفاء النبي من بني خزاعة، ولما علم الرسول بذلك قال: "لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب".
وكانت سياسة السرية التي اتبعها الرسول سبباً في أن جهلت قريش تحركات المسلمين، حتى اقترب الجيش الإسلامي من مكة، ووقع زعيم قريش أبو سفيان في يد النبي أثناء محاولته التجسس على المسلمين، إلا أن النبي عفا عنه بعد أن أسلم وأعطاه ما يفتخر به عندما قال صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن".دخل الرسول بيت الله الحرام والمهاجرون والأنصار بين يديه وحوله وخلفه، في يوم 20 من رمضان لسنة 8 هـ، 1 يناير 630م، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت الحرام ثلاثمئة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، وهو يردد قول المولى عز وجل: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً" [الإسراء:81]. وأمر بفتح باب الكعبة، فدخل الرسول وصلى فيها ركعتين شكرا لله وحمدا له على منته بفتح مكة. وعندما خرج الرسول من الكعبة وجد رجال قريش كلهم قد اجتمعوا ينتظرون ماذا يصنع بهم ابن عمهم؟ هل ينتقم منهم لما سبق من أذاهم له وإجبارهم له على ترك أحب بلدان الدنيا إلى قلبه؟ قال لهم رسول الله مخاطبهم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد -السوط والعصا- ففيه الدية مغلظة، مئة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها.يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير".ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ "قالوا بين خوف ورجاء: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: "لا تثريب عليكم"، اذهبوا فأنتم الطلقاء".كان فتح مكة درساً بالغ القيمة والتأثير ضربه النبي لجميع الفاتحين والقادة المسلمين من بعده، فقد عفا وهو المنتصر عمن ظلمه وسبقت إساءتهم له من قبل، وكان بإمكانه أن يضرم النار ويهدم البيوتات ويجعل مكة خرابا لكنه تواضع لله وعفا عن مقدرة وقوة، وأعطى المثل والنموذج للقائد المسلم عند محاربته العدو فمن حمل السلاح حاربناه ومن ألقاه واستسلم أمناه، لا تخريب ولا نهب ولا سلب إلا ساعة القتال، أما إذا استسلم العدو وألقى رايته فلا مجال للقتال أو التهجم عليه بسفك الدم، قاعدة استنها نبي المرحمة لأمته، فكان فتح مكة الفتح الأعظم والدرس الأبقى.كان للرسول حجة وألف حجة للثأر وقتل أهل مكة، فما لاقاه منهم على مدار 13 عاما كان كثيرا، وعندما أخرجوه من مكة لم يتركوه وشأنه بل ظلوا على عدائهم له ينتظرون به العثرات للانقضاض عليه وقتل وتشريد صحابته، لكن الرسول الكريم ترفع عن كل هذا وأثبت أن الرحمة مقدمة على القصاص أحيانا، وضرب مثلا رائعا في العفو عند المقدرة، ظل حيا على مدار الأجيال.