تهذيب الأخلاق لمسكويه...ما يقوله أرسطو العرب في مجال الفلسفة
صدر أخيراً عن «منشورات الجمل» كتاب «تهذيب الأخلاق» لمسكويه، دراسة عماد الهلالي وتحقيقه. يؤكد الهلالي أهمية هذا الكتاب، الذي أفاد صاحبه من معلومات الفلاسفة الإغريق ودراساتهم في التربية والأخلاق إفادات عظيمة، واختار منها ما يلائم نفس المسلم، مازجاً ذلك بالتراث العربي الإسلامي، حيث أصبح مصدراً لا يستغنى عنه في الدراسات التربوية والأخلاقية.
قال بعض المؤرخين إن مسكويه حظي بلقب «المعلم الثالث» في تاريخ الفلسفة الإسلامية نظراً إلى اشتغاله بالأخلاق والحكمة العملية، وللسبب عينه لقب أيضاً بـ{أرسطو العرب»، ويعتبر كتابه «تهذيب الأخلاق» مصدراً رئيساً في الدراسات الأخلاقية والفلسفية.يعتبر عماد الهلالي أن دراسة الأعلام وتطورهم الفكري ومصادر ثقافتهم وإنتاجهم تمثل مبحثاً مهماً في الفكر الفلسفي – الأخلاقي، قديماً وحديثاً، كذلك تؤدي البيئة الاجتماعية والثقافية، خصوصاً الأسرة، دوراً كبيراً في تشكيل ذهنية الكاتب في وقت مبكر، ولها الأثر في تكوين اتجاهاته الثقافية والمعرفية عموماً.تحدث مسكويه عن الغرض من تأليف كتابه قائلاً: «غرضنا في هذا الكتاب أن تصدر الأفعال عنا كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي. والطريق في ذلك أن نعرف أولاً نفوسنا ما هي؟ ولأي شيء وجدت فينا؟ أعني كمالها وغايتها، وما ملكاتها. إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العليا.... ولما كانت لكل صناعة مبادئ عليها تبتني وبها تحصل، وكانت تلك المبادئ مأخوذة من صناعة أخرى، وليس في شيء من هذه الصناعات أن تبين مبادئ أنفسها، كان لنا عذر واضح في ذكر مبادئ هذه الصناعة، على طريق الإجمال والإشارة بالقول الوجيز وإن لم يكن مما قصدنا له».يضيف الهلالي أنه اختار أحد أعلام الحكمة والأخلاق في القرن الرابع الهجري، وهو أبو علي بن محمد بن يعقوب المشهور بـ{مسكويه»، وتحقيق كتابه «تهذيب الأخلاق» لما له من أهمية كبرى في الدراسات الأخلاقية قديماً وحديثاً.نقاط أساسيةحسب الهلالي، تتجلى أهمية الكتاب في الأسباب التالية:• يتعلق هذا الموضوع بأحد أعلام الفلسفة والأخلاق والنقد، وهب نفسه للعلم والمعرفة، وسخرها للدفاع عن الأخلاق الحسنة، وهو جدير بأن يدرس ويحلل، وتسلط عليه الأضواء لإبراز معالم شخصيته العلمية. • يمثل كتاب «تهذيب الأخلاق» قمة الإبداع الأخلاقي في أجواء الفكر العربي والإسلامي في ذلك العصر، وقد سجل فيه أدق النظريات الأخلاقية وأنبلها.• يعتبر هذا الكتاب مصدراً أساسياً لدراسة علم الأخلاق في القرن الرابع الهجري، والعصر البويهي، ذلك لأنه جاء من مشاهدة وعيان من مسكويه، أو عن نقل مباشر عن الرجال الذين عاشوا في تلك الحقبة.• يتعلق هذا التحقيق بإحياء التراث العربي، ومصدر من أدق المصادر في الدراسات الأخلاقية، ألا وهو تهذيب الأخلاق، لربط الحاضر بالماضي، ولإحياء جهود الذين خلفوا هذه الكنوز الثمينة، والمخطوطات القيمة، لينتفع بها الدارسون والباحثون، ومساهمة في نشر الثقافة الأخلاقية.يوجز عماد الهلالي أهم معالم المنهج الأخلاقي عند مسكويه بنقاط أساسية عدة. أولها، أن الفلسفة الأخلاقية عند مسكويه قائمة على أساس الاجتماع البشري، لذلك تبنى الأخلاق عنده على الاجتماع والتعاون والتعامل والسياسة، وهذا ما يفسر النقد العنيف واللاذع الذي مارسه مسكويه ضد الاتجاهات الانعزالية في الأخلاق، وهي اتجاهات لطالما دعت إلى الزهد السلبي، وإلى العزل والتوحد والرهبانية. ثانياً، بناء الأخلاق عند مسكويه على أساس الاجتماع يفرض تلقائياً وعي قوانين الاجتماع البشري، كي يتم بناء النظام الأخلاقي طبقاً لها، لهذا نجد مسكويه في «تهذيب الأخلاق» يغوص على الدوام في تحليل الاجتماع البشري قبل أن يطرح نظريته الأخلاقية، وبهذا تم التواشج بين الأخلاق والاجتماع على الصعيدين الوجودي والمعرفي.ثالثاً، تؤدي طبيعة تكوين النظرية الأخلاقية عند مسكويه في بعدها المعرفي الذي يربط الأخلاق بالاجتماع، وفي بعدها المعرفي، إلى قيام الأخلاق على وعي عقلي وليس على نصوص نقلية فحسب، لهذا وجدنا أنه لم يبنِ أخلاقياته على نصوص وآثار وأحاديث كما فعل الغزالي في «إحياء علوم الدين» حين خصص لكل بحث ما يمكن أن يدرج تحته من نصوص الكتاب والسنة والأثر مما ينقل عن الصحابة والتابعين، بل ومما ينقل عن الصالحين والأولياء من منامات ورؤى وقصص. فهذه الظاهرة لم تعرفها تجربة مسكويه أبداً، وإنما عودنا على تحليل الاجتماع تحليلاً عقلياً، ثم تكوين النظرية الأخلاقية في ضوء ذلك تكويناً تلقائياً يسعى إلى الاستجابة للواقع المدروس سلفاً. هكذا، نرى أن مسكويه في نصائحه الأخلاقية ومباحثه التربوية والنفسية متأثر إلى حد بعيد جداً بالتراث اليوناني، أما الآثار الشرقية من عربية وإسلامية وغيرها فقليلة.رابعاً، تفصل تجربة مسكويه الأخلاقية بين الأخلاق والعرفان، لذلك تميل دائماً إلى الأخلاق الاجتماعية، بدلاً من الأخلاق الباطنية، وعلى رغم أن الغزالي أكد مراراً في كتابه إحياء علوم الدين على تجنب الخوض في ما أسماه «علم المكاشفة» ليحصر بحثه في «علم المعاملة» فيفصل بذلك بين الأخلاق والعرفان، إلا أن حركة «الإحياء» عند الغزالي واتجاهه كانا لتكريس مفاهيم المكاشفة، وجعل كتابه «الإحياء» بمثابة خطوة تتجه نحو علم المكاشفة، لكن هذا الأمر لم نجده عند مسكويه، بل نلاحظ أنه يوغل في تحديد دائرة الأخلاق بما يجعلها تخدم الاجتماع البشري.يتابع هلالي بأن تجربة مسكويه عموماً في الأخلاق وغيرها انفتحت على النتاج البشري انفتاحاً مذهلاً، وهذا الانفتاح على تجارب الأمم وحكمها الأخلاقية والاجتماعية يمثل خطوة متقدمة سرعان ما حدثت منها تجارب الأخلاقيين اللاحقين.في خاتمة كتابه، ومن خلال ترجمته لمسكويه، وإلقاء الضوء على عصره، وتأثره به وأثره في معاصريه، وتحقيق كتاب «تهذيب الأخلاق»، ينتهي عماد الهلالي إلى النتائج الآتية:• عاش مسكويه في زمن ازدهرت فيه العلوم، والفنون والآداب، ودراسة كتب الحكماء الإغريق، فكانت تعقد مجالس لدراسة كتب أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة الإغريق واليونان.• أهملت كتب التراجم الترجمة الوافية لمسكويه، فهي مبتورة ومكررة، فلم تتحدث عن حياته الشخصية حديثاً وافياً، ولم تشر إلى زوجته وولده، ولعله انقطع للعلم فلم يتزوج، ولم ينجب أطفالاً، لكنه أنجب فكراً وأدباً وأخلاقاً، وأجيالاً يغترفون من أدبه ومعينه الذي لا ينضب، وسيبقى خالداً في أذهان الأجيال يذكرونه بالفضل وغزارة العلم.• مسكويه أصيل في نظريته الأخلاقية، التي استسقى جذورها من أرسطو، والحكماء القدماء.• عاصر مسكويه كثيراً من الحكماء، والأدباء، والملوك، والوزراء، والأطباء والمهندسين والرياضيين، وعلى رأسهم ابن العميد، العالم المتبحر في علوم عصره.