رأي: في أعماق أزمة الدين الأوروبية

نشر في 03-07-2012 | 00:01
آخر تحديث 03-07-2012 | 00:01
No Image Caption
يرى البعض أن السبب الحقيقي للأزمات الحالية في الاتحاد الأوروبي يعود إلى أن فكرة الاتحاد كانت أصلاً فكرة ذات عيوب. ففي حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حلم قادة أوروبا بتشكيل تحالف يمنح قارتهم قوة اقتصادية تضاهي قوة أميركا، وقام واضعو معاهدة ماستريخت عام 1992 بطرح فكرة إقامة اتحاد سياسي ومالي، لكن كان من الصعب جداً تطبيق تلك الفكرة في حينها. وانطلاقاً من إدراك حقيقة أن تثبيت سعر الصرف بين دول تتمتع بمستويات مختلفة من القوة الاقتصادية قد يسبب مشكلات في المستقبل، قال نقاد من أمثال ميلتون فريدمان ومارتن فلدشتاين إنهم يعتقدون أن المشروع كان محكوماً عليه بالفشل منذ بدايته، لكن الاتحاد الأوروبي مضى قدماً إلى أن وقع فريسة للأزمة المالية عام 2008، والتي أبرزت نقاط الضعف فيه. ويتمثل التحدي الأبرز حالياً في كون البنوك في الدول الأوروبية الأضعف تواجه سحباً سريعاً للودائع، فالمخاوف حيال انقسام الاتحاد الأوروبي وتوقف استخدام عملة اليورو يعني أن البرتغال وإيطاليا وايرلندا واليونان وإسبانيا قد تنخفض القدرة الشرائية الحالية فيها إلى النصف إن تحولت إلى العملة المحلية. وقد خسرت البنوك اليونانية 17 في المئة من الودائع على مدى العام الماضي ولا تزال تشهد المزيد من السحوبات، فالودائع تنتقل إلى ألمانيا التي تعتبر ملاذا آمناً لها. كما أصبح الكثيرون يحولون اليورو إلى دولارات، ما يفسر القوة التي شهدها الدولار الأميركي مؤخراً، حيث تم تحويل ما يزيد على 600 مليار يورو منذ عام 2007 حتى الآن من كل من البرتغال وإيطاليا وايرلندا واليونان وإسبانيا إلى ألمانيا. ومن الإجراءات التي قد يتعين على البنك المركزي الأوروبي أو أي مؤسسة أخرى اتخاذها تقديم ضمان على كافة الودائع في منطقة اليورو، وهو ما اقترحه مونتي وسيكون فعالاً فقط في حال طمأنة المودعين ببقاء اليورو. وفي حال تعثرت اليونان الآن، فإن تكلفة ذلك تقدر بما يتراوح بين مئات مليارات اليورو إلى ما يزيد على تريليون يورو، بسبب العدوى التي ستفوق أزمة إفلاس شركة ليمان عام 2008 بكثير. فالسيولة التي يتطلبها كسب المزيد من الوقت لمعالجة المشاكل التي سببتها اليونان، تعني أن الاتحاد والقارة والعالم بأكمله سيكون أفضل حالاً دون محاولة حلها. ومنذ عام 2010 كنت أعتقد أنه لن يُدخر أي جهد في سبيل حماية الاتحاد الأوروبي واليورو، لكن المشاكل الحالية ربما تكون شديدة التعقيد والعواقب، بحيث تصبح العضوية طويلة الأمد في الاتحاد محل شكوك. ففي حال تعثر اليونان ستعاني البنوك في أنحاء القارة، رغم أن شطب الكثير من الديون السيادية البرتغالية أدى إلى تخفيف حدة الأزمة، لكن تبقى المخاوف قائمة من انتشارها إلى الدول الضعيفة الأخرى لتعود بشكل أقوى وأكثر شراسة. كما أن الاقتصاد اليوناني يمثل حوالي 2 في المئة فقط من منطقة اليورو، وذلك لا يؤهلها لتكون شريكاً تجارياً مهماً. وحتى في حال مغادرة اليونان للاتحاد الأوروبي وتخفيض عملتها، فإن اقتصادها قد لا يتحسن، فليست لدى البلاد قاعدة صناعية واسعة، لكنها تمتلك قطاعاً سياحياً واعداً، وتنتج زيت الزيتون الذي يعتبر من بين أفضل الأنواع في العالم. يفوق عجز الميزان التجاري في اليونان نسبة 10 في المئة من إجمالي ناتج الدخل القومي كما أن اقتصادها يشهد تقلصاً بأكثر من 10 في المئة فيما تفوق نسبة البطالة 20 في المئة - ولن يساهم انخفاض قيمة العملة في تحسين ذلك الوضع. قد ينجذب السياح إلى البلاد بفعل انخفاض الأسعار، لكن الاضطرابات الاجتماعية، في المقابل، قد تدفعهم للابتعاد عنها. أما الدول التي يعتبر إنقاذها أساسياً لبقاء الاتحاد الأوروبي فهي إيطاليا وإسبانيا. وقد قدم مونتي إصلاحات في إيطاليا ساهمت في تخفيض الإنفاق الحكومي ورفع كفاءة الأعمال. تعاني إيطاليا ارتفاع نسبة الديون مقابل إجمالي الدخل القومي، لكن عجز الموازنة أقل حدة، وهو ما نشهده أيضاً في إسبانيا التي تعاني عجزا صغيرا في الموازنة، لكن البنوك فيها تعاني الكثير من الديون المتعثرة بسبب الطفرة العقارية التي شهدها العقد المنصرم، إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب. توجد في كلا البلدين قاعدة صناعية جيدة ومنتجات تلاقي طلباً عالمياً واسعاً. كما يمكن السيطرة على عجز الحسابات الحالية في كلا البلدين. أما الجانب المشجع في الوضع الأوروبي فهو أن قادة كبار الدول يسعون جادين إلى إيجاد حلول للمشاكل الحالية، مدركين أن هناك الكثير مما قد يخسرونه في حال تفكك الاتحاد الأوروبي والعودة إلى العملات المحلية، مقابل أي مكاسب ثانوية قد تنتج عن ذلك. حلم أوروبا الموحدة ربما يكون مثالياً ويحتاج إلى الكثير من الجهود لتحقيقه. لقد قام البنك المركزي الأوروبي بواجبه على أكمل وجه حتى الآن، لكن جهوده ليست سوى حلول مؤقتة تساعد النظام المالي، فليس بوسعه تطبيق الإصلاحات الهيكلية اللازمة. يمكن للمؤسسات المالية الأخرى تقديم المساعدة في المرحلة الانتقالية إلا أن تحقيق التغيرات البنّاءة أمر منوط بالدول ذاتها، وبشكل يتيح لها التقدم والنمو. المخاطرة الماثلة هنا هي الاضطراب الشعبي الذي قد يجعل من تطبيق الإصلاحات أمراً غير ممكن، وقد رأينا إشارات على ذلك في اليونان، ونأمل بألا تعوق الاضطرابات الشعبية عملية إجراء التغييرات اللازمة والمنطقية في بلدان أخرى. قد نضطر إلى الدخول في مرحلة جديدة من الانخفاض، لكنني أعتقد بأن الوضع في المستقبل سيكون أفضل، فثلاثة أرباع إجمالي الدخل القومي في العالم يشهد نموا حالياً، كما أن التضخم منخفض، وأسعار النفط تهبط، وأوروبا تبحث جاهدة عن حلول لمشاكلها. ورغم شعوري بالقلق فإنني متفائل حيال ما تبقى من هذا العام.

*نائب رئيس مجلس الإدارة، مجموعة بلاك ستون للاستشارات

back to top