المسلمون يطرقون أبواب باريس

نشر في 06-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 06-08-2012 | 00:01
الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (3)

عمر بن عبدالعزيز يفكر في إجلاء المسلمين عن الأندلس

ثبت المسلمون أقدامهم سريعاً في بلاد الأندلس بعد انتهاء سنوات الفتح الأولى، بعد أن قضى أول ولاة الأندلس عبدالعزيز بن موسى بن نصير أعوام ولايته في تحصين الثغور وقمع أهل العصيان وافتتاح عدة مدن، وعمل على صهر العرب في المجتمع الجديد من خلال تشجيعه زواج العرب بالإسبان، ضارباً بنفسه المثل عندما تزوج من الأميرة إيجلونا بنت لذريق ملك القوط، وبعد أن استقرت الأوضاع لعبدالعزيز عمل على وضع مشروع أبيه موسى بن نصير بفتح أوروبا في اتجاه القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية موضع التنفيذ.

مشروع فتح القسطنطينية لم يكن بغرض نصرة الدولة الأموية بقدر ما كان لتحقيق أمجاد شخصية، بعد أن بدأت فكرة الانفصال بالأندلس وتكوين مملكة عربية إسلامية مستقلة تختمر في ذهن عبدالعزيز بن موسى، خصوصا أن زوجته القوطية اشتاقت من جديد لمظاهر الملكية التي نشأت فيها، فأوحت لزوجها بتبني مظاهر الملك والأبهة، وبدأ في العمل على اتخاذ خطوات جادة لإعلان دولته، فوثب عليه جماعة من الجند على رأسهم مساعده الأول حبيب بن أبي عبدة الفهري، وقتلوه أثناء صلاته بأحد مساجد إشبيلية، وذلك في رجب سنة 97هـ/يناير 716م، وبعثوا برأسه إلى دمشق.

اتفق زعماء العرب في إشبيلية على تولية أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، الذي ظل والياً لمدة أربعة أشهر لم يفعل فيها شيئاً إلا أنه نقل عاصمة البلاد من إشبيلية إلى قرطبة، لأن أعداداً كبيرة من العرب سكنت حولها فأراد أن يستقوي بهم، إلا أنه أخطأ الاختيار، لأن المدينة التي كانت تتوسط البلاد وتسيطر على الطرق الرئيسية في إسبانيا لم تكن قرطبة بل طليطلة.

لم يمر اختيار أهل الأندلس لوالي عليهم من بينهم مرور الكرام، فقد رفض ذلك حاكم إفريقيا والمغرب يزيد بن أبي مسلم، باعتبارها سابقة تدعم نزعة الاستقلال، فقرر تعيين الحُر بن عبدالرحمن الثقفي والياً على الأندلس من قبله، فقد كانت الأندلس حتى ذلك الحين تابعة إدارياً لولاية إفريقيا والمغرب، لذلك أسرع الحر الثقفي في دخول الأندلس في ذي الحجة سنة 97هـ/717م، بصحبة جماعة كبيرة من وجوه العرب في إفريقيا.

فتح سبتمانيا

عزم الحُر على وضع مشروع فتح بلاد الفرنجة موضع التنفيذ، لذلك أنفق الأشهر الأولى من ولايته في قمع الفتن والمنازعات التي كانت قائمة بين العرب والبربر، وإصلاح الجيش وترتيب فرقه، ولما بدا له أن الأمور استقرت، وأن الجبهة الداخلية تماسكت، أعطى أوامره للجيش بالتحرك صوب إقليم "سبتمانيا"، المعروف حاليا بالريفييرا الفرنسي، وهو إقليم كان تابعاً لمملكة القوط، لذلك رأى الحر أن فتح هذا الإقليم ضروري للقضاء على بقايا القوط.

عبر الحر بجيش المسلمين جبال البرتات مخترقا ولاية سبتمانيا عام 99هـ/718م، وفتح مدنها تباعاً معيداً السيادة الإسلامية على هذا الإقليم، وتوقف بزحفه عند ضفاف نهر الجارون، فقد أجبر على أن يعود أدراجه، بعد أن علم أن قبائل "البشكنس" الشرسة نظمت صفوفها وأعلنت العصيان في منطقة "نافار"، فاضطر الحر الثقفي إلى العودة وقمع محاولات التمرد والثورة على الحكم الإسلامي، وإخضاع العرب والبربر، إلا أنه لم يهنأ كثيراً، فبين قلاقل وفتن جاء أمر الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز بعزله في منتصف سنة 100هـ.

اختار أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز، السمح بن مالك الخولاني لولاية الأندلس بعد أن قرر أن تكون ولاية مستقلة عن ولاية إفريقيا، تتبع الإدارة المركزية في دمشق مباشرة.

لم يرسل عمر بن عبدالعزيز، السمح بن مالك الخولاني إلى الأندلس إلا بعد أن زوده بعدة نصائح، منها أن يتبع الرفق والعدل، وأن يقيم كلمة الحق والدين، وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ما كان فتح عنوة ويأخذ منه الخمس ويكتب إليه بصفة الأندلس، وكان رأيه إخراج المسلمين من الأندلس وإجلاءهم عنها وعودتهم إلى المغرب، لانقطاعهم بها، وعزلتهم في ما وراء البحر عن أقطار الخلافة، ولم يثنه عن عزمه إلا أن قيل له إن المسلمين تكاثروا بها واستقروا.

وصل السمح الخولاني الأندلس في رمضان سنة 100هـ/أبريل 719م، وشمر عن ذراع الجد وبدأ في تنظيم ولاية الأندلس، فأصلح خراجها وأعاد توزيع الأراضي الزراعية على العرب والبربر، وبادر بقمع الفتن والمنازعات، وإصلاح الجيش والإدارة. وأنشأ "السمح" قنطرة قرطبة الشهيرة على نهر الوادي الكبير، وأبدى في جميع أعماله حزما ورفقا وعدلا، فالتف الزعماء حوله، وخبت نيران الفتنة وهدأت خواطر العرب والبربر، واستقر النظام والأمن.

استشهاد قائد

وما إن استقرت الأوضاع في الأندلس تأهب السمح الخولاني لمواصلة الغزو، وتوطيد سلطان الخلافة الإسلامية في الولايات الجبلية والقواعد الشمالية في إقليم سبتمانيا، فاخترقت جيوش السمح جبال البرتات من الشرق، في عام 101 هـ/719م، واستولى على مدن إقليم "سبتمانيا" في جنوبي فرنسا من جديد، وشتت كل قوة تصدت لمقاومته، ثم زحف نحو الغرب ليغزو إقليم "أكوتين" وعاصمته تولوز (تولوشة عند العرب).

وجاءت الأخبار بأن الدوق "أدو" أمير أكوتين جمع جيشا كبيرا لرد المسلمين، وإخراجهم من فرنسا، والتقى الفريقان بالقرب من تولوز، ونشبت بينهما معركة هائلة في 9 من ذي الحجة 102هـ/ 9 من يونيو 721م، كثر فيها القتل بين الفريقين، حتى سقط "السمح" من على جواده شهيداً، فاختلت صفوف المسلمين، ووقع الاضطراب في الجيش كله.

على اثر مقتل السمح اختار الجيش أحد زعمائه، هو عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي للقيادة العامة وتأمين انسحاب الجيش الإسلامي من فرنسا، نظم عبدالرحمن الغافقي الجيش بسرعة وارتد إلى الجنوب صوب الأندلس، واستطاع الغافقي أن يؤمن خطوط انسحاب المسلمين، فنجا الجيش الأندلسي بفضل مهارته من كارثة محققة.

بالقرب من باريس

دخل الوالي الجديد عنبسة بن سحيم الكلبي قرطبة في صفر سنة 103هـ/721م، وكان في ذهنه هدف واحد هو مسح الذكرى السيئة للهزيمة التي لحقت بالمسلمين بالقرب من مدينة تولوز، لذلك خرج على رأس قوات الجيش الإسلامي صوب سبتمانيا، بعد أن افتتح مدينة قرقشونة صلحا بعد أن حاصرها مدة، وتابع زحفه شمالا في وادي نهر الرون ونفذ إلى مدينة صانص، وأصبح على بعد 30 كيلومتراً من مدينة باريس، معلناً بذلك خضوع أغلبية الأراضي الفرنسية لحكم دولة الإسلام.

وبعد أن حقق عنبسة تلك الانتصارات الضخمة وأثناء عودته داهمته جموع كبيرة من الفرنجة قبل أن يجتمع إليه قوات جيشه، فنشبت معركة غير متكافئة أصيب خلالها القائد عنبسة بجراح مميتة تُوفي على اثرها، وذلك في شعبان سنة 107هـ/ ديسمبر 725م، ليرتد الجيش الإسلامي صوب الأندلس من جديد.

وبدلا من تنفيذ خطة عمل عاجلة تستفيد من انتصارات عنبسة بن سحيم الكلبي وفتوحاته، تخبطت بلاد الأندلس في خمس سنوات من الفوضى وعدم الاستقرار، فقد كانت سياسة الولاية والعزل المستمرة لولاة الأندلس سبباً في أن عمت الفوضى البلاد، ولم ينقذها إلا تعيين الأمير عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي، والياً على البلاد، وكان من أنجب قادة الجيوش الإسلامية.

وما إن تولى الغافقي مهام ولايته في صفر سنة 11هـ/أبريل سنة 731م، حتى بدأ في زيارة أقاليم الأندلس المختلفة يستمع لمشاكل أهلها ويعمل على حلها، وفرض نظاما ضرائبيا موحدا راعى فيه الفقراء والمساكين، وقضى أيام ولايته الأولى في إصلاح إدارة البلاد، واهتم بإصلاح الجيش وتنظيمه اهتماما خاصا، فقد أدرك أن الجيش القوي المنظم هو عماد بقاء الإسلام في هذا القطر النائي عن بقية العالم الإسلامي، وأن تحصين الثغور وتقوية القلاع، والتأهب لإخماد أي نزعة للثورة ضمان بقاء دولة الإسلام قوية، وما إن استقرت الأمور لعبدالرحمن الغافقي حتى بدأ استعداداته لعمل حاسم في بلاد الفرنجة.

في قلب فرنسا

في تلك الأثناء، واصل الغافقي التقدم شمالا، يفتح المدن الفرنسية لا توقفه أسوار ليون وببزانصون، مواصلا الزحف حتى وصل إلى مدينة سانس، التي لا تبعد عن عاصمة الفرنجة "باريس" إلا نحو 25 كيلومتراً، وهنا ارتكب عبدالرحمن الغافقي خطأ استراتيجيا من الدرجة الأولى، فقد فضل عدم التقدم صوب العاصمة باريس والتوجه غربا إلى ضفاف نهر اللوار ليتم فتح المدن المطلة عليه ثم يقصد باريس بعد ذلك، وهو خطأ كلف المسلمين الكثير، فباريس كانت بلا حاميات قوية ترد الغزاة عنها وكان أهلها في انتظار تقدم شارل مارتل من شرق بلاد الغال لصد الهجوم الإسلامي الوشيك، الذي لو تم لتغير مجرى التاريخ ولسقطت باريس بلاشك في قبضة الجيش الإسلامي، وتبعه انهيار في جيش شارل مارتل، نتيجة سقوط العاصمة، لكن تمهل الجيش الإسلامي أعطى الفرصة كاملة للأمة الفرنجية لتحشد كل قواها في معركة فاصلة لوقف الزحف الإسلامي.

وصل الجيش الإسلامي إلى مروج نهر اللوار الجنوبية، وعسكر في السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور، اللتين سقطتا في أيدي الفاتحين الأندلسيين، في وقت تقدم الجيش الفرنجي بقيادة شارل مارتل حتى وصل إلى ضفة نهر اللوار اليسرى، عندها حاول الغافقي عبور النهر لمهاجمة عدوه قبل أن يستقر معسكره.

في السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور، تحدد مكان المعركة الفاصلة، بالقرب من الطريق الروماني القديم المعروف بالبلاط، ومن هنا اكتسبت المعركة اسمها الشهير عند المؤرخين العرب "بلاط الشهداء، وفي أواخر شعبان سنة 114هـ/أكتوبر 732م، تحدد زمان الموقعة الهائلة، التي استمرت مدة تسعة أيام حتى دخل شهر رمضان، ولم يكتب النصر لأي من الفريقين رغم الزيادة العديدة الواضحة لجيش الفرنجة.

وفي اليوم العاشر من القتال نشبت كبرى معارك تلك الحرب الدائرة، وأخرج فرسان العرب والجنود الفرنجة كل ما عندهم من فنون القتال، حتى بلغ الإعياء والتعب بالرجال مبلغه، وبدا أن بشائر النصر قد هبت على جيش المسلمين ونسر الموت حلق فوق رؤوس الفرنجة، وبدأت فرق الجيش الفرنجي تتفكك، إلا أن شارل مارتل نفذ خدعة ماكرة كان لها أثر في قلب سير المعركة.

ففي أثناء هجوم المسلمين على جنوب فرنسا تجمعت من فتوحاتهم غنائم هائلة، قرر الأمير عبدالرحمن الغافقي أن يتركها في أحد الحصون ويعين عليها حراساً، إلا أن الجنود رفضوا ذلك وفضلوا أن يصطحبوها معهم أثناء تحركاتهم في أرض العدو، وأثناء المعركة تركت الغنائم في مؤخرة الجيش، وهي فرصة وجدها شارل سانحة لتشتيت أذهان الجنود المسلمين عن القتال، فأرسل فرقة من الفرسان هاجمت معسكر الغنائم، وهنا انتشر الخبر سريعاً بين صفوف فرسان المسلمين الذين تركوا الصفوف الأمامية وقرروا حماية الغنائم، ما أدى إلى خلل في صفوف الجيش وانحلال نظامه وانتشار الفوضى بين الجيش، ما أعطى الفرصة كاملة لقوات الفرنجة بأن تعيد تنظيم صفوفها وتعاود الكرة على جيش المسلمين وتمزقه كل ممزق.

حاول عبدالرحمن الغافقي رد الجنود إلى الصفوف الأمامية من جديد لمواصلة القتال وصد الهجوم الفرنجي، لكن عبثا حاول، فقد أعمت الغنائم بصائر الرجال، وشاءت الأقدار أن يصيبه سهم أرداه شهيداً، وفقد المسلمون كل أمل في النصر، وأصبح هم قادته الانسحاب بالجيش دون خسائر كارثية، فلما جن الليل، تسلل الجيش وانسحب من أرض المعركة إلى إقليم سبتمانيا ومنها إلى القواعد الأندلسية.

في الصباح نظم شارل قواته لمواصلة القتال، إلا أنه دهش عندما وجد معسكر المسلمين ينعى الوحدة، في البداية خشى شارل وجنوده أن يكون في الأمر خدعة، وأن يكون هناك كمين إسلامي يستعد للهجوم، لكن مع مرور الوقت تأكد خلو المعسكر من الجنود، فأمر بالتقدم في حذر حتى دخلوا معسكر الجيش الإسلامي فلم يجدوا فيه إلا الجرحى العاجزين عن الحركة فأمر بقتلهم، ووضع يده على معسكر الغنائم، ولم يجرؤ على مطاردة الجيش الإسلامي مكتفياً بزوال الخطر عن فرنسا.

كان لمعركة بلاط الشهداء أو تور- بواتييه، نتائج فاقت أهميتها العسكرية، فالجيش الإسلامي لم يدمر بأكمله بل عاد في معظمه سالماً إلى أرض الأندلس، كما أن جيش الفرنجة تعرض لخسائر فادحة أجبرته على التوقف عن مطاردة الجيش الإسلامي، ورغم ذلك كانت نتائج المعركة حاسمة على مجرى التاريخ العالمي، فمن ناحية حق لشارل الذي لقب منذ هذه اللحظة بلقبه المميز "مارتل" أي المطرقة، أن يدعي سيادته على جميع ملوك الفرنجة ويضع أسس المملكة الكارولونجية التي ستخرج من عباءتها دول فرنسا وألمانيا في ما بعد، كما حق له أن يدعي حماية حمى الكاثوليكية في غرب أوروبا، ما سيؤدي إلى ترسيخ هذا المذهب في الغرب الأوروبي.

كذلك أوقفت هذه المعركة الطموح العربي الإسلامي في مواصلة الفتوحات الإسلامية في أوروبا إلى الأبد، فمعنى انتصار المسلمين كان يعني دخول فرنسا كلها في مملكة الإسلام وتغيير وجه التاريخ الذي نعرفه للأبد.

ولا ريب أن العنصر الأساسي في النكسة التي أصابت المسلمين، هو اتساع خطوط الإمدادات بين الجيش الإسلامي المتوغل في فرنسا وقواعده في الأندلس، والتي بلغت 1200 كيلومتر، في وقت كان شارل مارتل يحارب وسط بلاده وجنوده، وهو أمر جعل عملية الإمدادات الأندلسية لذلك الجيش مستحيلة، إذا علمنا أن رسالة الاستغاثة ستصل إلى قرطبة بعد شهرين.

كما تتحمل الخلافة الأموية في عهد الخليفة هشام بن عبدالملك (حكم: 105-125هـ/724-743م) جزءاً كبيراً من توقف الفتوح في بلاد الفرنجة، فالخلافة لم تسع إلى المشاركة بفاعلية في فتح فرنسا، فلم نسمع عن أوامر من دمشق بتحريك الأسطول الأموي من قواعده العديدة في البحر المتوسط لمد يد العون إلى جيش

عبدالرحمن الغافقي، كما أن الخلافة لم تهتم بإصدار أوامر لوالي إفريقيا، بمد يد العون إلى الجيش الأندلسي.

حداد

وفي الأندلس بدا وقع مقتل الوالي الحازم عبدالرحمن الغافقي شديداً على أهالي الأندلس ربما فاق حزنهم على استشهاد ذويهم، وارتدت مدن الأندلس ثوب الحداد حزناً على رحيل هذا القائد الشجاع، ودخلت البلاد موجة من الفوضى، وزاد الطين بله أن ثورة البربر الكبرى اندلعت في بلاد المغرب من طنجة إلى طرابلس في سنوات 122-125هـ/740-743م، نتيجة ظلم بعض الولاة العرب وتميزهم لسادة القبائل العربية على حساب البربر، وهي الثورة التي قادها سقاء يدعى ميسرة المذغري المعروف بميسرة الفقير، وبميسرة الحقير كما دعاه أعداؤه، وهي الفتنة التي امتدت شراراتها إلى الأندلس لتشتعل نيران الحرب الأهلية التي استمرت سبع سنوات (132-130هـ) لتوقف عملية الفتوح في بلاد الفرنجة إلى الأبد وأجبرت الأندلسيين على الاهتمام بشؤونهم الداخلية، في وقت أعاد فلول القوط في شمال البلاد تجميع قواهم وبدأت معالم دولتهم الظهور تتحين الفرصة للانقضاض على المسلمين.

بلاط الشهداء

بدا في أفق العصور الوسطى أن موقعة فاصلة كموقعة نهر وادي لكة التي حسم فيها المسلمون مصير إسبانيا لصالحهم، على وشك أن تبدأ في فرنسا، فالقوات الإسلامية التي فتحت العديد من المدن الفرنسية كانت في شوق إلى انتصار حاسم يقضي على مقاومة الشعب الفرنجي، ويفتح الأراضي الفرنجية أمام سيل المهاجمين المسلمين، على الطرف الآخر كان للفرنجة مخاوفهم من تنامي المد الإسلامي في فرنسا، ورأوا أن تصفية الممتلكات الإسلامية في إقليم سبتمانيا ورد المسلمين خلف جبال البرتات ضرورة لوقف هذا الزحف.

وبدأت طبول الحرب تدق بقوة، عندما عبر عبدالرحمن الغافقي جبال البرتات صوب قلب فرنسا في أوائل سنة 114هـ/732م، مصطحبا جيشاً هو الأضخم في تاريخ فتوحات بلاد الفرنجة قدر بسبعين ألف مقاتل، مخترقاً ولاية أرجون، لكن عندما دخل

عبدالرحمن الغافقي فرنسا كانت الأمة الفرنجية عبرت لحظة من لحظاتها الفارقة الأولية في تاريخ تكوين الأمة الفرنسية الحديثة، ولم تعد تلك الأمة المفككة التي واجهها أبطال فتوح فرنسا الأوائل، بعد أن جمع رئيس البلاط كارل مارتل السلطة في قبضته ووحد بلاد الفرنجة تحت زعامته، وأصبح الملك غير المتوج للبلاد، أراد أن يثبت جدارته في وقت كانت جيوش الإسلام تدك مدن جنوب فرنسا، بمواجهة خطر دولة الإسلام المتصاعد.

في ذلك الوقت ضرب والي الأندلس القوي عبدالرحمن الغافقي ضربة البداية عندما فتح مدينة "آرل" الواقعة على نهر الرون، وانتصر على الحاميات الفرنجية التابعة لدوق "أدو" حاكم أكوتين (أقطونيا)، ولم يجد الدوق "أدو" مفراً من النزول على رأس قواته إلى ساحة المعركة.

وعلى ضفاف نهر الجارون، دارت معركة شرسة انتهت بهزيمة ساحقة لقوات دوق "أدو" ودمر جيشه عن بكرة أبيه، ولم يتمالك "أدو" أمام هذه الصدمة إلا أن يفر من ميدان القتال، صوب حاكم الفرنجة شارل طالباً نجدته معلناً خضوعه له، بينما دخل الغافقي مدينة "بوردو" عاصمة إقليم أكوتين ومقر حكم الدوق بعد حصار قصير.

back to top