تقرير اقتصادي: "الإيداعات"... فتشوا عن ثغرات النظام المالي والمصرفي
الإيداعات المليونية ما كانت لتتم لولا وجود ثغرات في النظام المالي والمصرفي، مكنت مجموعة من السياسيين من تجاوز القانون، وإيداع مبالغ مجهولة المصدر، أدت إلى تضخم حساباتهم البنكية بشكل غير منطقي.
يجب تجريم تلقي السياسيين والشخصيات العامة الأموال أو الهدايا أو العطايا لأن الفعل قانوناً مدان سياسياً لا قضائياً ثمة قصور في الرقابة على وحدات في النظام المالي مثل شركات الاستثمار والصيرفة
بعد أن اتجهت قضية الإيداعات المليونية إلى لجان التحقيق البرلمانية فإننا نكون أمام فرصة تاريخية، ليس فقط لمحاسبة المتورطين في هذه الإيداعات فقط، بل لوضع أسس جديدة في سد النواقص التشريعية والفنية الخاصة، لمنع تكرار هذه النوعية من الإيداعات مرة أخرى.ولأن قضية مثل الإيداعات المليونية قد هزت أركان الحكومة السابقة، ولعبت دورا في تغيير وجه البرلمان والحكومة، على حد سواء، فإن للقضية أبعادا سياسية مهمة لا يمكن إغفالها، لكن هناك في المقابل ثغرات فنية لا يمكن أيضا تجاوزها، كي يكون التقرير النهائي للجنة محكما ومنطلقا لمعالجة النظام المصرفي من أي شبهات مستقبلية.ثغرات عديدةالإيداعات المليونية ما كانت لتتم لولا وجود ثغرات واضحة وأخرى مستترة في النظام المالي والمصرفي، مكنت مجموعة من السياسيين من تجاوز القانون وإيداع مبالغ مجهولة المصدر أدت إلى تضخم حساباتهم البنكية بشكل غير منطقي، ومنها على سبيل المثال ضعف الدور الرقابي الذي كان يجب أن تمارسه وحدة التحريات (أو الاستخبارات) المالية التابعة لمحافظ البنك المركزي، وتشابك دورها مع دور البنك المركزي رغم كونها تتمتع بجانب من الاستقلالية عن أعمال البنك، لكنها في المقابل غالباً ما تصطدم باختصاصات أقسام أخرى في "المركزي" كقسم الرقابة الميدانية.فضلا عن أن موظفي الوحدة، حسب تقرير صندوق النقد، غير متفرغين لها، ولا تتمتع الوحدة بميزانية مستقلة، بل لم تصدر منذ تأسيسها أي إحصائية أو تقرير سنوي حول أدائها، إضافة إلى عدم تقييمها لمعرفة كفاءة نظام عملها المشكوك في مطابقته للمعايير الدولية.حق الإبلاغبل إن القانون رقم 35 لعام 2002، الخاص بعمليات غسل الأموال، حصر حق إبلاغ النيابة العامة عن الحسابات المشبوهة في البنوك والمؤسسات المالية، وهنا إضعاف لدور وحدة التحريات المالية، فهي تملك حق الكشف عن الحسابات، إلا أن الإحالة إلى النيابة تستلزم أن يصدر البلاغ من البنك أو الشركة، ما يعد إضعافا لدور هذه الوحدة التي تمتلك حق الرقابة، دون حق تقديم بلاغ إلى النيابة.كذلك, تشير مصادر مصرفية إلى أن "المركزي" لم يمارس دوره في الرقابة على المؤسسات المشمولة برقابته من بنوك وشركات استثمارية وصيرفة رغم وجود آلية الإبلاغ عن الحسابات المشبوهة، ما جعل التحويل من المؤسسة المالية إلى النيابة عن الحسابات المشبوهة يخضع لتقييم إداري من المؤسسة المالية، وليس بناء على قاعدة تفصيلية من البيانات والتعميمات الصادرة عن البنك المركزي، وبالتالي كان من المحتمل أن يُطمَس موضوع الإيداعات المليونية لولا مبادرة بنك الكويت الوطني بإحالة عدد من الحسابات إلى النيابة العامة. سياسية وفنيةقضية الإيداعات المليونية فيها العديد من التفاصيل الفنية التي لا يمكن تجاوزها في أي نقاش حول هذه القضية، وصحيح أن لجنة التحقيق أمام استحقاقات سياسية في توجيه الاتهام إلى مَن تعتقد أنهم متورطون في الإيداعات، وإلا فإن هناك ايضا استحقاقات فنية، لبيان الثغرات المالية والمصرفية التي سمحت بانسياب أموال مشبوهة رغم القوانين التي تحظر هذا النوع من الايداعات.ولا يمكن الحديث عن النواقص الفنية دون التطرق الى النواقص التشريعية المهمة في القانون الكويتي، مثل قانون كشف الذمة المالية وإنشاء هيئة فنية متخصصة في مكافحة الفساد وقانون الضرائب، فضلاً عن قانون "من أين لك هذا؟"، لأن هذه القوانين من شأنها أن تدعم القانون الحالي رقم 35 لسنة 2002 الخاص بمكافحة غسل الأموال، كما أن هناك قوانين أخرى نحتاجها لنحكم السيطرة على أي تعاملات غير طبيعية للسياسيين أو ذوي المناصب العليا، إلا أن الملاحظة المهمة في هذا الإطار أن البنك المركزي نفسه لم يطالب بها، رغم أهميتها، لاستكمال البناء التشريعي لمكافحة أي عمليات مشبوهة.التوسع في الرقابةثمة نقطة أخرى تطرق إليها تقرير صندوق النقد، واعتبرها من النواقص في الجهاز المالي للدولة، وهي أن تركيز شبهات عمليات غسل الأموال منصبّ بدرجة كبيرة على البنوك وتعاملاتها، مع قصور كبير في الرقابة على بقية وحدات النظام المالي مثل شركات الاستثمار، بما تمثله من محافظ وصناديق وأموال عملاء وشركات الصيرفة، وبالتالي فإن اقتصار الكشف على البنوك وحدها، لا يلبي المطلوب في الكشف عن الأموال المشبوهة في الكويت.يجب ان نعترف بأن تسلم نائب او سياسي مبالغ مالية من مسؤول في الكويت، او حتى من دولة أخرى، أمر شنيع وغير اخلاقي، إلا أنه في المقابل غير مجرَّم قانونا، وبالتالي من الممكن، مادام لا يوجد نص مباشر وواضح يجرم السياسيين والشخصيات العامة على تلقي الأموال أو الهدايا أو العطايا، أن يحصل أي سياسي "قبيض" على البراءة، لأن الفعل هنا مدان سياسيا لا قضائيا، وهو الأمر الذي يجب أن تسعى الأغلبية البرلمانية إلى تجريمه كما في أي دولة محترمة.لجنة الميمونيلو عادت بنا الذاكرة الى لجنة التحقيق البرلمانية في "قضية الميموني" لوجدنا أن التقرير النهائي للجنة لم يكتف بالتحقيق في سير الجريمة، بل توسع في التحقيقات ليصل إلى مواطن الخلل في وزارة الداخلية أمنيا وإداريا، التي سمحت بوقوع مثل هذه الجريمة, وهو تقرير يمكن أن يشكل مدخلا لإصلاح "الداخلية" إذا أراد النواب فعلا إصلاحها.إن الحديث عن المعالجة السياسية للإيداعات المليونية مهم جداً، لكن الأهم هو المعالجة الفنية والاقتصادية للثغرات الإجرائية والقانونية، إذ لابد من تطوير عمل وحدة التحريات المالية الكويتية، لتكون أكثر استقلالية عن عمل بنك الكويت المركزي، لتقوم بواجبها بشكل طبيعي وقادر على إحالة البلاغات المشبوهة إلى النيابة العامة، حتى إن لم تحل البنوك الحسابات من تلقاء نفسها.بيئة سيئةختاماً، يجب تأكيد أن وجود بيئة لغسل الأموال في الكويت يعني مجموعة من النقاط السلبية، كخفض التصنيف الائتماني السيادي للدولة، وأي تهديد لهذا التصنيف سينعكس سلباً على الاقتصاد الكويتي وتنافسيته، إضافة إلى زعزعة ثقة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، كما أن وجود عمليات غسل أموال في الكويت يوجه ضربة قاصمة إلى خطط الدولة المعلنة بتحويل الكويت إلى مركز تجاري ومالي، لأن المراكز المالية المحترمة يجب أن تحظى أولاً ببيئة خالية من الشبهات المالية والمصرفية والفساد، أو مواجهتها بالآليات القانونية الخاصة بمكافحة غسل الأموال.