
من البدهي أن انتصار الثورة السورية سيقلب المعادلات كلها في المنطقة الممتدة من تركيا إلى العراق والخليج وانتهاء بإيران، فهل ستتمكن إيران من قلب المعادلة الجديدة لمصلحتها؟ الثورة السورية وإن كانت لم تصل إلى أهدافها حتى الآن إلا أن النصر فيها بات أمرا محسوما بكل المقاييس السياسية والعسكرية، ويجب أن ينحصر الحديث الآن على سورية ما بعد الثورة. فسورية ما بعد بشار الأسد لا تقل خطورة عن سورية قبله لأن الباب فيها سيكون مفتوحا على كل الاحتمالات، ليس بسبب من سيتصدر المشهد السياسي هناك، فالشعب السوري أحرص منا على مصير ومستقبل بلده ومن يقوده، ولكن ما نخشاه هو القوى المتربصة بها من الخارج. فبزوال بشار تفقد إيران حليفا مهما، إذ كانت سورية تمثل الحلقة التي تصل إيران بالجانب الآخر من بلاد الشام والمتمثل بلبنان وحزب الله على وجه الخصوص. المواقف السياسية في إيران تؤخذ من منطلقين مركبين هما المنطلق الطائفي الشيعي ممزوجا بالمنطلق القومي الفارسي وأحلام الإمبراطورية الفارسية القديمة التي لا تغيب عن الذاكرة الفارسية وتعمل جاهدة على إرجاعها، وكانت إقامة الحكم الشيعي في العراق ووجود بشار في سورية وحزب الله في لبنان ومحاولات إيران ضم حركة حماس تحت جناحها في وقت من الأوقات رجوعا نسبيا لذكريات الإمبراطورية الفارسية القديمة اليها. لذلك فإن زوال النظام السوري يمثل تراجعا حقيقيا لهذه الأحلام التي لن تتخلى عنها إيران بسهولة، وستظل متشبثة بها بشتى الوسائل، وما التصريحات الإيرانية الحالية التي تحاول فيها التقليل من أهمية بقاء بشار الأسد في السلطة إلا دليل على أن إيران تخطط ومنذ الآن لمرحلة ما بعد الأسد بعد أن تيقنت أنه زائل لا محالة. ولكي تبقي إيران نفوذا لها في سورية فإن عليها أن تتحرك باتجاه المجموعة الأقرب إليها مذهبياً وهي الطائفة العلوية، باعتبار أن إيران لن تستطيع اتخاذ مكون سوري آخر حليفاً استراتيجيا لها عداها، وما سيسهل هذه المهمة عليها هو استعداد أبناء هذه الطائفة من الناحية العسكرية للقيام بمهام مشابهة لما وكل به حزب الله في جنوب لبنان بسبب أن أكثرية التشكيلات العسكرية المهمة في سورية الأسد كانت تتكون من أبناء هذه الطائفة، وأنهم الأقرب مذهبيا إلى المذهب السائد في إيران مما يساعد في ترشيح الطائفة العلوية لتكون حليفة الجمهورية الإيرانية مستقبلا. ورب قائل يقول إن العلويين لن يورطوا أنفسهم في هكذا دور، ولكن باستحضار التجربة العراقية إلى الأذهان بعد 2003 ودراسة الدور الإيراني في إثارة النعرات الطائفية والقومية بين أبناء العراق سنعرف أن دفع العلويين بهذا الاتجاه لن يكون أمرا صعبا على إيران، فقد كانت سورية في بداية الاحتلال الأميركي للعراق (وبتنسيق مع إيران) ترسل أفواجا من الإرهابيين إلى المناطق السنية والشيعية في العراق بحجة قتال الأميركيين وتسببت في إحداث خلخلة أمنية فيه، وإثارة النعرات الطائفية بين أبناء الشعب العراقي، وقد كان لهم ذلك، فقد عاش العراق سنين عديدة يعاني القتل الطائفي بدون أن يكون الفاعل مشخصا، وكانت أغلب التفجيرات تستهدف المناطق السنية لإبقائها غير مستقرة أمنيا وسياسيا وإداريا إلى أن سيطرت الأحزاب الشيعية على الوضع السياسي في العراق بشكل كامل، خصوصا بعد الانسحاب الأميركي. والآن وبعد زوال بشار الأسد يمكن خلق موجة معاكسة من الإرهاب للداخل السوري لاستهداف المناطق العلوية واتهام السنة في سورية بها، ودفع العلويين للارتماء بشكل كامل في الحضن الإيراني لحمايتهم، وبذلك يسقط العلويون في الشرك الإيراني ليكونوا موطئ قدم لها داخل الدولة السورية كما هي حال حزب الله في لبنان. السيناريو الثاني لإيران والذي من الممكن أن تلجا إليه (في حالة مشروطة) هو التحالف مع حزب العمال الكردستاني في سورية، وعلى الرغم من أن التطورات الأخيرة على الساحة الكردية السورية تشير إلى أن الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني قد دخل في تحالف مع القوى الكردية الأخرى في سورية إلا أنه تحالف سيكون مرهونا بالخطوات التركية حيال هذا الحزب والوضع الكردي، وكذلك التوجهات التركية حيال إفرازات الثورة السورية بشكل عام. فحزب العمال الكردستاني يتقن تماما استغلال التناقضات في المنطقة وسوف يتخذ من الموقف الإيراني الجديد إزاء سورية ورقة ضغط على تركيا لتسيير دفة التطورات بالشكل المناسب لها، ومن هذا المنطلق فإن إيران سوف ترحب بأي تقارب مع هذا الحزب مستقبلا والابتعاد عن المحور التركي للوقوف في الجانب المضاد للثورة السورية بما يتلاءم وتوجهات الطرفين. إذا فشلت إيران في استمالة الطرفين السالفي الذكر وفي حالة تأكدها بأن مصالحها قد أصبحت مهددة فلن يبقى أمامها إلا تهديد الوضع السوري بواسطة المالكي وبعض الأحزاب الشيعية الأخرى المتعاطفة معها في العراق، وهذا التهديد قد يكون بتعكير الوضع الأمني في داخل سورية كما قلنا سابقا أو الدخول في مناوشات عسكرية على نطاق ضيق مع القوى الجديدة في سورية (حسب مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع) وبذلك ستقلل من خطر نتائج الثورة السورية على نفسها وخلط الأوراق فيها وفي نفس الوقت سوف ينوب عنها العراق في التصادم مع الحكومة الجديدة في سورية من دون أن تتدخل هي بنفسها في معمعة المشاكل هذه. وكما هو متوقع من الساسة العراقيين في المنطقة الخضراء فإنهم لن يرفضوا القيام بهذا الدور نيابة عن الجارة (الشقيقة) إيران، وموقف حكومة المالكي المسبق من الثورة السورية ووقوفه مع بشار الأسد إلى هذه اللحظة يشير إلى نوعية علاقة الجوار المتشنجة التي يخطط لها العراق مع سورية مستقبلا. * كردستان العراق – دهوك