لماذا تدلل التشريعات الغربية السفاحين؟!

نشر في 07-05-2012
آخر تحديث 07-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري يدهش المرء لتسامح التشريعات الجزائية الغربية مع الجناة والسفاحين على حساب الحق العام المجتمعي والحق الخاص لضحايا المجني عليهم، وصلت تلك التشريعات في التسامح مع الجناة الذين يرتكبون جرائم القتل عامدين وعن سبق وإصرار ومهما أزهقوا من أرواح بريئة، إلى حد إلغاء عقوبة الإعدام! ولا أدري أي عدالة أو منطق أو مبرر لهذا الإلغاء إلا تأثير الديانة المسيحية التي تقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر!

لا يقتصر هذا التساهل مع السفاحين على التشريعات فحسب، بل كذلك الإجراءات المتبعة في التحقيق والمحاكمة التي وصلت إلى حد تدليل الجاني، وهو الحاصل اليوم في محاكمة سفاح أوسلو! صحيح أن اعتبارات الشرعية الإجرائية أسمى من تحقيق الاتهام، وصحيح أيضاً أنه ينبغي حفظ كرامة المتهم وآدميته وإتاحة المحاكمة العادلة له، لكننا اليوم أمام إرهابي يفاخر علناً على مرأى ومسمع من العالم كله بأنه غير آسف على المجزرة التي قام بها، وأنه نادم لأنه لم يزهق أكثر من 77 روحاً بريئة! وهو سيكرر فعلته من جديد إذا أطلق سراحه، ومع ذلك تسعى النيابة العامة إلى تلمس مسوغات تخفف عقوبة السجن المقدرة بـ21 عاماً، عبر الاستعانة بأطباء نفسيين قدموا تقريراً بائساً يقولون فيه إن السفاح مصاب بفصام في الشخصية، فهو غير مسؤول عن قتل 77 بريئاً! تصوروا يقتل بدم بارد وعن سبق إصرار وترصد 77 نفساً ومع ذلك لا يعاقب إلا بـ21 عاماً في السجن!

والعجيب في هذه المحاكمة أن السفاح ومحاميه يرفضان تقرير الأطباء، ويؤكد السفاح سلامة عقله ونفسه، بل ويتهم الأطباء بالكذب، وأنهم اخترعوا أقوالاً ليصوروه كمختل عقلياً، ويرى في ذلك "إهانة" له ولمعتقداته، ويقدم مذكرة يفند فيها 200 كذبة في التقرير الطبي، مؤكداً مسؤوليته الكاملة ومعللاً بأنه دفاع عن النفس ضد الذين يريدون تحويل بلده إلى مجتمع تعددي يسمح بهجرة المسلمين إليه، يتحدى السفاح النيابة العامة بقوله: لو كنت جهادياً ملتحياً لما كنت خضعت لتقييم نفسي على الإطلاق، وهو يفضل أن يعاقب بالسجن على أن يودع بمستشفى الأمراض العقلية، كما يؤكد أنه يخوض حرباً بهدف حماية أوروبا من "الاجتياح المسلم"، وهو في سبيل ذلك ينتقم من حكومته التي تساهلت مع هجرة المسلمين!

ما قام به هذا السفاح من جرائم إرهابية والمباهاة بها وتبريرها عبر وسائل الإعلام هو ما يقوم به الإرهابيون عندنا، يفجرون أبرياء في محطة باص أو مطعم شعبي يغص بالكادحين، ويدّعون أن ذلك جهاد في سبيل الله وثأر لكرامة المسلمين وانتقام من أعداء الدين، لكن الفارق بيننا وبين الغربيين أننا لا ندلل الإرهابيين كما يفعل الغربيون مع السفاحين.

لقد اجتاحت أوروبا في العقد الأخير جرائم إرهابية وسقط أبرياء كثر وكانت أصابع الاتهام تتجه دائماً إلى المسلمين، لكن سفاح أوسلو كسر القاعدة هذه المرة، فهذا إرهابي أشقر الشعر أزرق العينين مسيحي متطرف عمره 33 عاماً لا يشكو ضائقة اقتصادية أو مظلمة سياسية أو إحباطاً نفسياً أو كبتاً جنسياً، وهو متعلم ويتعامل مع الشبكة العنكبوتية وينشر أفكاره بكل حرية، لكنه يعتنق فكراً نازياً شديد العداء للآخر، فلا يطيق أن يرى في بلده جنساً غير الجنس الأوروبي الأبيض، لا يطيق المهاجرين عامة والمسلمين خصوصاً، وهو في سبيل هذا المعتقد الظلامي قتل في 22 يوليو الماضي 8 أشخاص بقنبلة وسط أوسلو، ثم تنكر في زي الشرطة وأطلق النار على معسكر صيفي للشباب في جزيرة أوتويا فأودى بحياة 69 منهم، وقال إنه فعل فعلته انتقاماً من حكومته المؤيدة للهجرة!

لسنا بصدد محاكمة هذا السفاح ولا تحليل دوافعه، لكننا نعجب لهذا التدليل المفرط المحاط بهذا السفاح! المجرم يصرخ غاضباً: أنا مسؤول عن المجزرة وسلطات التحقيق مصممة على القول إنه غير مسؤول لأنه كان في وضع نفسي غير سوي، فهل رأيتم تدليلاً وتسامحاً وشفقة على الجاني مثل هذا التدليل؟!

السفاح ارتكب جرائمه قبل 9 أشهر، وتركوه كل هذه المدة الطويلة ليحاكموه اليوم، وكانت النيابة العامة خلالها تبحث عن مسوغ للتخفيف من العقوبة حتى إذا أعياهم ذلك، وكذب السفاح تقرير أطبائه فلم يجدوا بداً من بدء محاكمته، وحتى في هذه أيضاً دللوه، إذ سيتاح للسفاح 5 أيام ينشر فيها أفكاره عبر وسائل الإعلام، وهو أمر ما كان يحلم به، ستمتد المحاكمة 10 أسابيع وتصل تكاليف الاحتياطات الأمنية لتأمين المحاكمة إلى 3 ملايين يورو، وسيتاح لهذا المجرم الفرصة الكاملة وعلى الهواء مباشرة للهجوم على المسلمين واتهامهم بأعمال العنف والاغتصاب وتلويث الثقافة النرويجية واحتقارها، وأن كل هم المسلمين هو تكاثر النسل حتى يحتلوا أوروبا وينشروا فيها الأسلمة، هو يريد جنساً أوروبياً نقياً، ويخشى على العنصر الأوروبي من التلوث والانقراض على المدى الاستراتيجي، هذه الأطروحات التي تغذي مشاعر العداء والكراهية وتصب في مصلحة اليمين المتطرف الذي اكتسح الساحة الأوروبية ووصل إلى برلماناتها وحكوماتها.

والغريب أن هذا الإرهابي فاق في عمق كراهيته الإرهابيين عندنا، عندما صرح بأنه تدرب على نزع الشفقة من قلبه استعداداً لتنفيذ هجماته، لكن الأغرب أن القاضية أمرت بطرد شخص اختاره المجتمع المدني ضمن 5 أشخاص في هيئة النطق بالحكم، لأنه كتب في الإنترنت أن "عقوبة الإعدام هي الحل العادل في هذه القضية"، لقد أصبح الحديث عن عقوبة الإعدام من المحرمات هناك، علماً أن استطلاعاً جرى في النرويج عقب المذبحة أظهر أن 67 في المئة منهم يرون أن العقوبات مخففة جداً، وطالبوا بضرورة تغليظ عقوبة الجرائم في بلادهم، وفي الوقت الذي تتعاطف فيه التشريعات الغربية مع الجناة والسفاحين فإنها لا تظهر نفس التعاطف والاهتمام مع الضحايا! ترى ماذا عن أقرباء وذوي المجني عليهم، وماذا عن تعويضهم وحمايتهم وتأهيلهم نفسياً واجتماعياً وقد فقدوا أعزاء عليهم؟!

منذ سنوات عدة حضرت مؤتمراً عن "ضحايا الجريمة" بأكاديمية شرطة دبي، وكان اهتمام المؤتمر منصباً على هذا البعد المغيّب في التشريعات الجزائية وهو حقوق الضحية، وحرص القائد العام لشرطة دبي ضاحي خلفان في كلمته الافتتاحية على توضيح سر اهتمام الأكاديمية بضحايا الجريمة، مبيناً أن التشريعات إذ أحاطت الجاني "المتهم" بسياجٍ من الحقوق التي تضمن له محاكمة عادلة فإنها لم تعط للضحية (المجني عليه) عناية كافية، وأهاب القائد العام برجال الشرطة والأمن بضرورة تعاطفهم الإنساني مع المجني عليهم، وكان من ضمن المقترحات تضمين مقرر حقوق الإنسان موضوع ضحايا الجريمة، ويبقى أن نتساءل في النهاية: لماذا تدلل التشريعات الغربية الجناة والمجرمين بأكثر مما تتعاطف به مع الضحايا المجني عليهم؟!

* كاتب قطري

back to top