زمن القهر
أواخر صيف العام 1935، وقف شابان قرب رصيف ميناء حيفا، الأول شاب يرتدي ملابس بسيطة مثل العديد من القرويين العاملين في الميناء أو مصفاة البترول، حاسر الرأس، في حوالي العشرين من عمره، متوسط القامة قوي البنية، ما كان مظهره العام ليثير انتباه أحد. إلا أن من يمعن النظر فيه، يرى سمات التمرد والاعتداد بالنفس. والثاني رجل تجاوز الثلاثين، أطول قامة ويبدو من ملابسه أنه ميسور الحال. وقفا يراقبان سيلا من الوجوه الغريبة يتدفق نازلا من الباخرة الراسية يحيط بهم عن بعد عدد من الجنود البريطانيين. علق الأكبر سنًا دون أن يوجه حديثه إلى الشاب الواقف إلى جواره.«الدار دار أبونا وأجو الغُرب يطحّونا».
«أتمنى لو أن بيدي مدفعًا لأنسف هؤلاء جميعًا». قال الأصغر بلهجة كشفت أنه قروي رغم محاولته إخفاء ذلك، وهو يشير إلى جموع المهاجرين اليهود النازلين من السفينة.«هؤلاء لا أهمية لهم». قال الأول موجهًا حديثه إلى الشاب الواقف إلى جواره هذه المرة. «السفلة الحقيقيون هم هؤلاء»، وأومأ برأسه إلى الجنود البريطانيين.ثم التفت فجأة إلى الشاب قائلا:«أنت تعمل في الريفايناري (مصفاة البترول) أليس كذلك؟ رأيتك اليوم عندما تشاجرت مع مسؤول العمال اليهودي». وقبل أن يسمع ردّه عاجله بسؤال آخر، «ايش اسم الأخ؟» ثم أضاف معرّفا على نفسه، «محسوبك مصطفى».«أنا مسعود. أنا أعرفك فأنت موظف في إدارة الريفايناري».«من أي بلد، بلا زغره؟».«أنا من قضاء نابلس».لم يجد مسعود بأسا من تبادل حديث عابر مع هذا الشاب، فهو يعرفه من بعيد، بوصفه موظفًا في المصفاة وليس عاملا، وواحدًا من الشبان الوطنيين الناشطين ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومن المحرضين على التظاهرات والاحتجاجات، وقد اعتاد رؤيته في مكان عمله، كان محط احترام وتقدير الكثيرين، يكاد لا يتوقف عن توعية الزملاء في العمل بالخطر المقبل، والحديث عن تهريب اليهود للسلاح بتواطؤ مكشوف من الإنجليز لتحقيق وعد بلفور بإقامة الوطن القومي اليهودي. توقف الحديث عند هذا الحد واستدار الشاب الأصغر سنًا متوجهًا إلى مقهى ساحلي اعتاد الذهاب إليه بعد انتهاء عمله لتناول كوب من الشاي، والاستمتاع بهواء البحر العليل والموسيقى الرتيبة التي تعزفها الأمواج. في حين مضى الشاب الآخر مبتعدًا في طريق آخر.أحب مسعود ذلك المقهى رغم مضايقة بعض البحارة وصيادي الأسماك له. وقد اعتاد الجلوس منفردًا بعيدًا عنهم وتجاهل تعليقات مجموعة منهم تسخر منه بوصفه فلاحًا بسيطًا. وكانت تعليقاتهم تكثر وتزداد حدة عند تواجد عصبة كبيرة منهم، خمسة أو ستة أشخاص، أو جلوسه قريبًا منهم، وتقلّ أو تنعدم حين لا يكون هناك سوى اثنين. ولم تكن تنبيهات صاحب المقهى تفلح في إسكاتهم وتركه وشأنه، وينتهي الأمر في معظم الأحيان بجلوس مسعود بعيدًا أو خروج مثيري الشجار من المقهى.كان يومًا مثل باقي الأيام حين دخل مسعود المقهى ليجد ثلاثة ممن اعتادوا السخرية منه يجلسون مع وجهين جديدين إلى إحدى الطاولات يتحدثون ويقهقهون. ما أن ظهر عند المدخل حتى غمز أحدهم بعينه لواحد من الاثنين الجدد وقال مخاطبًا الآخرين بصوت تعمد أن يصل إلى الشاب:«انتبهوا يا شباب، الفلاح وصل».«لا حاجة لأن تنبهنا فقد شممنا راحة أغنام داخلة». قال أحد الرجلين بصوت مرتفع.«ألم يذوق البعض ويبتعدوا عن هذا المكان، لأنه ليس للفلاحين»، قال ثالث.«أنت، هناك، هذا الكلام كله لك». تدخّل رابع موجهًا حديثه إلى مسعود مباشرة بينما الآخرون يتضاحكون.«هل تتحدث معي؟» سأل مسعود بتحدّ ظاهر.«طبعا أتحدث معك، وهل هناك فلاح منتن غيرك في هذا المكان؟» ردّ الرجل متضاحكًا.«ما رأيك أن نذهب خارجًا لنتفاهم لأني أشم رائحة سمك منتن». قال مسعود وهو يغمز بعينيه مشيرًا إلى الخارج. هبّ الصياد واقفًا مندفعًا صوب مسعود يريد ضربه، لكن الأخير عاجله بنطحة من رأسه جعلته يفقد توازنه متراجعًا إلى الخلف والدم يتدفق من أنفه. هجم الآخرون على مسعود الذي راح يضرب بيديه ورجليه ورأسه كل من يقترب منه. حين تكاثروا عليه، أفلت من وسطهم وسحب من جيبه «موس كبّاس»، فتحه وراح يهاجمهم الخمسة متوعدًا بشقّ بطن كل من يمسك به منهم. التفوا حوله أمسك أحدهم بيده محاولا تخليص الموس منه. لم يستطع لكنه تمكن من طي الموس على يده فجرحها وبدأ الدم ينزف منها. لم يتوقف مسعود عن الضرب بيديه ورجليه ورأسه، رغم الجرح. ثم عاد وفتح الموس بأسنانه وهمّ بالانقضاض مجددًا عليهم. لكن حال بينه وبينهم عدد من المتواجدين في المقهى الذين أمسكوا طرفي الشجار، وراح بعضهم يوبخ البحارة والصيادين الذين استقووا على شاب واجههم منفردًا، وتمكنوا في النهاية من فضّه.غسل مسعود وجهه، وأعطاه صاحب المقهى خرقة وبعض البن لوقف نزف الدم وتضميد الجرح مؤقتًا، وطلب ممن تشاجروا معه مغادرة المقهى. تنبه مسعود إلى أن الشخص الذي بدأ يضمد له جرحه لم يكن سوى مصطفى. استغرب وجوده في مثل هذا المكان. حين هدأ، اقترح عليه مصطفى أن يأتي معه للجلوس في أحد المقاهي داخل المدينة. تمنّع قليلا متعلّلا بأنه يودّ البقاء بعض الوقت هنا لأنه يحبّ البحر ودعا مصطفى إلى البقاء معه لاحتساء الشاي. فأقنعه مصطفى بلطف بالذهاب معه، قائلا بنبرة فيها الكثير من الثقة:«دعك من هذا المقهى الآن، المكان الذي سآخذك إليه معظم رواده من الشباب أمثالنا».لم يفهم مسعود ما الذي قصده رفيقه بكلمة «أمثالنا»، مع أن الكلمة أعجبته وراقه أن يساوي مصطفى نفسه به، فلم يرَ بأسا في أن يجرّب أماكن جديدة، خاصة وأنه غريب عن المنطقة، ولا يعرف أحدًا سوى اثنين من أبناء قريته يقيم معهم في غرفة مشتركة في حي الحليصة وبعض أبناء القرى المجاورة الذين يعمل معهم في المصفاة.لم يكن المكان مقهى حقيقيًا، بل مجرد مطعم صغير وسط حي وادي النسناس الشعبي، يقع في زاوية بعيدة عن الأنظار، به ثلاث طاولات قديمة، صُفّت حولها كراسٍ مقاعدها من القش، وبضع كراسٍ مع طاولتين صغيرتين في الخارج. دلف مسعود من الباب أولا، صمت الجالسون قرب الباب وتعلقت عيونهم بالداخل الجديد، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى أحاديثهم عندما رأوا مصطفى يدخل خلفه مباشرة.حيا مصطفى عددًا من الحاضرين، وسلم باليد على البعض الآخر، قبل أن يجلس إلى طاولة صغيرة في إحدى الزوايا نهض عنها شابان في حركة لم تخفَ على مسعود، كان واضحًا أن الهدف منها إخلاء هذا المكان لهما. استرعت الحركة انتباهه، لكنه لم يعرها كثير اهتمام. طلب مصطفى كوبين من الشاي بعد أن جلس قبالة رفيقه، وحياه مرحبًا به مرة أخرى، قبل أن يقول:« شوف يا أخ مسعود، سأحكي معك بصراحة. أنا سبق وأن رأيتك يوم تشاجرت مع مسؤول العمال اليهودي شلومو. وعرفت أنك لست من النوع الذي تكسر لقمة العيش رقبته. كان في وسع شلومو أن يطردك من العمل لكنك لم تكترث ورددت له الصاع صاعين. وهذا ما أعجبني فيك.«هذا شلومو كلب يستقوي على الضعيف، والذي في رقبته كوم لحم عليه أن يطعمها». ردّ مسعود مؤيدًا كلامه.«وكان من حسن حظي أن مررت اليوم صدفة قرب ذلك المقهى لأرى كيف تصديت لهؤلاء الصيادين والبحارة ولم تتراجع رغم تكاثرهم عليك وكنت كفوًا لهم». صمت مصطفى قليلا ثم واصل حديثه: «هذان الموقفان بيّنا لي أنك بالفعل قبضاي، وأن معدنك صلب».«والله يا أخ مصطفى، أنا لا أحبّ المشاكل لكن هؤلاء اعتادوا الاستهزاء بي، جاء الفلاح، راح الفلاح، وكلام من هذا النوع. أنا واحد كافي خيري شرّي، قليلا ما اختلط بالآخرين. وجه لحالي، كما يقال. وكان يجب أن أوقفهم عند حدهم». قال مسعود شارحًا موقفه. «معك حق أخ مسعود، أنا لا ألومك، بالعكس، أنا أحيي فيك روح التصدي لمن يحاولون الإساءة إليك».أعجب مسعود بتفسير مصطفى لموقفه، وأعجبته أكثر عبارة روح التصدي التي وصفه بها، فاعتدل في جلسته، وارتاح لما سمعه من إطراء محدثه، وبدا أكثر استعدادًا للتواصل معه.«تعرف يا أخ مسعود»، قال مصطفى مغيرًا مسار الحديث، «أنا من إحدى قرى الساحل، وكان من سوء حظ بلدتنا أنها قريبة من إحدى الكبانيات (المستعمرات) اليهودية، أو بالأحرى، محاطة بثلاث كبانيات. وكأن مضايقات المستعمرين اليهود واعتداءاتهم ورصاصهم لا تكفينا، فقد تسلط علينا الإنجليز أيضًا. لا يمرّ أسبوع من دون تفتيش واستفزازات. أنت تعرف استفزازات الإنجليز ونكايات اليهود، وكيف يضايقوننا لحملنا على التخلي عن أرضنا وبيعها لليهود. وقد رأيت باخرة المهاجرين الجدد في الميناء».قاطعه مسعود قائلا:«نعم أعرف هذا كله، رأيت الكثير من هذه المضايقات في قريتنا وسمعت عن أشياء مماثلة في القرى المجاورة».«صحيح، عندكم استفزازات ومضايقات، لكن هناك شيء لم تعانوا منه بعد»، توقف مفكرًا قبل أن يواصل: «وهو أنهم لا يطمعون الآن بسلب أراضيكم». ثم أردف: «هل ترى الشباب الجالسين هناك؟ معظمهم فلاحين وكل واحد منهم أصابته لدغة من الإنجليز واليهود».جال مسعود ببصره في الحضور، وفهم الآن ما قصده صاحبه بكلمة أمثالنا. وأدرك أنه في أحد المقاهي التي يتجمع فيها الشبان الوطنيون، معظمهم من القرويين، لمتابعة آخر ما وصلت إليه أخبار القضية. شرد بفكره قليلا قبل أن ينتبه إلى صوت مصطفى وهو يقول ويومي برأسه إلى شاب يجلس على طاولة مجاورة: «أترى الشاب الجالس وظهره إلى الحائط؟ هذا صديقنا ضاحي من عرب وادي الحوارث. هل تعرف قصة وادي الحوارث؟»هزّ مسعود رأسه بالإيجاب: «سمعت عنها، لكنني لا أعرف التفاصيل».«هذه يا سيدي أرض يقال إن مساحتها أكثر من 30 ألف دونم، من أفضل أراضي فلسطين، كان يمتلكها شخص اسمه أنطون التيّان مقيم في الخارج ويقال إنه رهنها لحساب شخص فرنسي مقابل دين مقداره 42 ألف جينيه. لما توفي صاحب الأرض طالب الفرنسي الورثة بسداد الدين، لكن لم يكن معهم ما يكفي للسداد فعرضت في المزاد، وطبعًا، عندما تعرض في المزاد فسوف ترسو على اليهود لأنهم أقوى ماديًا. حتى «شركة إنقاذ الأراضي» الفلسطينية لم تكن تملك مبلغًا يوازي المبلغ المطلوب للسداد. الخلاصة، رست على الصندوق القومي اليهودي، وفي اليوم التالي جاءت شاحنات معبأة بالجنود الإنجليز وطردت الفلاحين العرب العاملين فيها، وشردت الفلاحين الذين أقاموا وعملوا فيها منذ مئات السنين».