بياض الليل سواد النهار

نشر في 22-12-2012 | 00:01
آخر تحديث 22-12-2012 | 00:01
No Image Caption
لم يكن أحد ليتوقع قدومها، في ذلك اليوم الثلجي العاصف، فليس هناك عاقل يغامر بالسفر في هذا الجو القارس، لكنها كانت في البلدة التي بنيت كل منازلها من الجص والحجر، قبل الضحى بقليل.

حين أوقف الحوذي عربته قرب باب السوق القديم، تبين بنظرة واحدة ألقاها على الأزقة الخالية الحزينة، أن كل الدكاكين مغلقة، فاضطر حينها للتوجه إلى دار المختار. في الطريق إلى هناك، كان الثلج يضرب وجهه بضراوة، فأحكم لف عنقه والجزء الأسفل من وجهه بوشاحه الصوفي.

كان الماء متجمدًا في حوض البركة الدائرية التي تقع في وسط ساحة البلدة، ولم يرَ في الطريق إنسانًا، أو طيرًا يحلّق في هذه السماء المكفهرة. أبواب الجامع القديم كانت موصدة، ومياه السواقي أينما سار كانت عبارة عن جليد شفاف، وهكذا بدت مياه النهر حين مرت العربة قريبًا من الضفة.

ترجّل من مركبته وجاهد ليسير باستقامة والريح تطوح بجسده يمنة ويسرة، فسار لصق حائط الزقاق الذي يضمّ دار المختار في نهايته، وهو يشدّ معطفه السميك إلى جسده. طرق الباب لعدّة مرات، ومرّ بعض الوقت أحس به الحوذي طويلاً وهو قصير، ليفتح الباب أخيرًا ابن المختار الأوسط. تفاجأ الشاب برؤية الرجل الذي ينقل بعربته البريد والمسافرين وبعض البضائع، من مدينة الموصل إلى البلدة. أفسح الطريق للرجل ليدخل إلى داخل المنزل واقتاده إلى غرفة الجلوس.

كانت الغرفة دافئة وشبه مظلمة، فلم يتبين الحوذي وجه المختار، لكنه ألقى السلام وتلقى إجابة ودودة، ودعوة للجلوس والتماس الدفء. كان العرض مغريًا، فالجمر يتوهّج في منقلة برونزية ضخمة، وضعت في وسط الغرفة. جلس الرجل الذي كان يشعرأنه متجمّد، في طرف المجلس. والتفت إلى الجهة التي انبعث منها صوت المختار، وهو يشرح كيف أنه لا يستطيع أن يمكث طويلاً لأنه ينقل مسافرة في عربته المتوقفة في بداية الزقاق، وسأل المختار:

- أين يقع دار زبيدة خاتون؟

   - هل المسافرة التي خرجت في خضم عاصفة الثلج هذه، متوجهة إلى هناك؟

- نعم يا مختار

   - هل فهمت منها لماذا خاطرت بالخروج في مثل هكذا طقس؟

-  لم تخبرني شيئًا، تبدو مشوشة.

-  لا بد أنها إحدى قريبات زبيدة خاتون.

- لم تكن تردد غير جملة واحدة، كأنها لا تحفظ سواها: (يجب أن توصلني إلى منزل زبيدة خاتون، في بلدة آسكي موصل هذا اليوم).

- سأحضر معك، وأدلّك على الطريق، سألبس عباءتي بلحظة واحدة، اسبقني.

نهض المختار فورًا، من دون أن يتيح للحوذي أي فرصة للرفض، أو الاعتراض. تمتم الرجل وهو يشعر بالحرج: (لا تكلف نفسك عناء الخروج في هذا البرد يا مختار، دلني فقط على العنوان). شرح له المختار قبل أن يخرج من الغرفة، كيف أنه يجب أن يكون هناك ليقدم العزاء، وقال له حين لحق به إلى قرب باب الدار وقد ارتدى عباءة سميكة مبطّنة بفرو الحملان:

- دفنت زبيدة خاتون مساء الأمس، ولم يحضر دفنها أي شخص من عائلتها.

حين حل صباح اليوم التالي، كان الثلج قد توقف عن التساقط منذ ساعات. وكانت المتاجر قد فتحت أبوابها. شوهد بعض الأفراد وهم يتنقلون بين المنازل، أو يقصدون السوق القديم. وقبل أن ينتصف النهار كان النشاط على أوجه، لتعويض اليومين الأخيرين اللذين كانا بمثابة حبس إجباري، سببهُ الثلج. في القهوة خانة الوحيدة للبلدة الصغيرة، كان الحديث عن وفاة زبيدة خاتون، وقدوم قريبتها من مدينة بعيدة، الحدث الأساسي الذي طغى على بقية الأحاديث. كان أغلب الجالسين في القهوة خانة ينتظرون قدوم المختار، لأنه الشخص الوحيد الذي شاهد القريبة التي حضرت في اليوم السابق. لم يشعر الرواد بالسأم حين طال انتظارهم لحضور المختار، فمصطفى الحلاق زودهم ببعض المستجدات التي أثارت فضولهم وأنستهم كل شيء عن المرأة الغريبة، وعن وفاة قريبتها.

- يقال إن النهر سيبقى متجمدًا، أربعين يومًا، ورمضان صاحب الكلك، أكثر المتضررين، فهو هناك عند الضفة منذ الفجر، يحاول زحزحة الكلك، لكنه يأبى أن يتحرك ولو شبرًا واحدًا، فالثلج التصق به، كأنه وإياه قالب واحد. والرجل منكوب، فأخشاب المركب فسدت، وعمله توقف، على خلاف الصيادين، إذ ما زال بامكانهم إعطاء الأسماك هدنة، والتوجه إلى الجبال لاصطياد الطيور.

علق حسون صاحب المقهى، وهو يراقب الجمر في المنقلة:

- ستذوب مياه النهر المتجمدة خلال أيام، فلسنا على قمة جبل ليحتفظ الماء ببرودته، طوال هذه الفترة. كلها مسألة بضعة أيام تشرق فيها شمس قوية. لكن والحق يقال، لم أصدق في البداية أني أستطيع السير من الضفة إلى الضفة، حتى قمت بهذا، وأنا أضرب بعصا ضخمة على سطح الماء المتجمد، قبل أن أتورط بالسير فوقه.

الشيخ عثمان، مؤذن وإمام جامع آسكي موصل، كانت له رؤى مختلفة تمامًا، فقد كان يرى في هذا الجو الصعب ترجمة لغضب الله. وكان يعلن هذا الرأي بصراحة للجميع، فينذر تارة، وينصح بلطف أحيانًا أخرى. حوقل عثمان، وتنحنح لتنقية أوتار حنجرته قبل أن يقول:

- هذا عقاب من الله سبحانه وتعالى، الذنب تعاظم في هذا العام، ولم يعد أحد يقيم حدود الله، أو حتى يفكر بمساعدة الفقراء. كلٌّ يجري وكل همه الربح وتحصيله، ناسين طلب رضا رب السموات والأرض. قبل خمسة أعوام، أكل الجراد كل ما أنبتته الأرض. تلاها وبعد خمسة أخرى، نار من السماء أتت على الكثير من المحاصيل، وشهدنا جميعًا عام الغلاء الفاحش الذي مات فيه كثير من البؤساء. لا ندري بأي شيء سيعاقبنا الله مجددًا.

لم يستطع الشيخ عثمان الاسترسال بوصف أشكال العقاب الإلهية، فقد قاطعه سلطان أفندي:

- ربما يكون سبب عقاب الله صمتنا على الظلم وأهله. مثل الضرائب التي تقصم الظهر، والتفرقة والكيل بمكيالين! واسترقاق الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارًا! نحن الشياطين الخُرس.

لم يشأ الشيخ عثمان الدخول في نقاش مع الأفندي الشاب الذي ملأت رأسه الشعارات منذ سافر وتعلم، لأنه لمح المختار قادمًا من بعيد، فصمت وهز رأسه، كمن يوافق، بالرغم من أن عينيه عكستا امتعاضه من كل ما قاله سلطان أفندي.

أثار دخول المختار حماسة ثلة من رجال آسكي موصل التي تكاد تشبه مدينة صغيرة، أو قرية نمت أكثر مما ينبغي. تمتزج عيوبها بمحاسنها ويتداخل أحدها مع الآخر إلى درجة يكون معها من الصعب جدًا التفريق بينهما. الجميع يعرف بعضهم البعض، وتربطهم علاقات جيرة قوية، عدا الأعداء منهم. لكن هذه الحسنة التي طالما مكنتهم من التآزر، تكاد تكون أهم أسباب الضجر الذي ينتاب الجميع لرتابة الحياة، وإيقاعها المملّ الذي لا يتغير، فيجدّون في البحث عن أي خبر جديد، مرتجل أو مشتقّ من حدث بسيط، أو أي مصدر للإثارة يبعد التثاؤب ويجعل العينين لامعتين من جديد، والمخ مشغولاً بالبحث والاستنتاج.

حين دخل المختار أفسح حسون له مكانًا قريبًا من المنقلة، فالرجل بالتأكيد كان يشعر بالبرد. صرخ بصبي المقهى بأن يصبّ له القهوة. وهذه المرة لم تطل مراسيم إلقاء التحيات والسؤال عن الصحة والأحوال، كثيرًا. اختصر الجميع في كلماتهم، وبدت الجمل القصيرة المتواترة، هزيلة بمعنى الكلمة. الجميع يبحثون الآن عن هنيهة من الصمت ليتسنى لهم بعدها توجيه الأسئلة والاستفسارات إلى المختار. ولا مانع لديهم بإخضاع الرجل لتحقيق دقيق، ما دام سيمكنهم من نيل مرادهم، وهو إلقاء بعض الضوء على الحدث الاستثنائي الذي حصل بعيدًا عن رقابتهم في اليوم الفائت، بسبب الطقس اللعين. حتى سلطان أفندي وهو عادة لا يهتم بالأحداث التي تثير أقصى درجات الحماسة والفضول لدى الجميع، كان متحفزًا هذه المرة، وله في ذلك أسباب مختلفة عن أسباب بقية رجال البلدة.

لم يكد المختار يلتقط أنفاسه حتى بدأ بالكلام عما حصل يوم أمس، ولم يتح الوقت للبقية ليهجموا عليه باستفساراتهم، لكن هذا بالطبع سيحصل بعد أن ينتهي الرجل من الكلام، الذي استهله بقوله:

- استغربت صباح الأمس حين دخل الحوذي إلى منزلي والثلج يغطي كل ملابسه. قلت لنفسي: (ما الذي جرى ليخاطر هذا الرجل بالسفر بمثل هكذا أجواء مميتة، ويتحمّل عناء القدوم إلى داري؟ هل مات عمّي القاضي وأوصى وهو على فراش الموت بأن لا يدفن حتى أحضر دفنه؟). وجلست بتلك اللحظات القصار التي سبقت كلمات الحوذي، وأنا أضرب أخماسًا بأسداس، حتى ذكرالحوذي أسباب قدومه، وتحدث عن المسافرة التي تنتظر بالعربة، حينها أصريت على الذهاب معه إلى هناك. لم أجلس داخل العربة من باب التأدب في البداية، بل جثمت هناك بقرب الحوذي الذي كان يجد صعوبة كبيرة بالسيطرة على حصانه، ولم أتمكن من رؤيتها، لغاية وصولنا لمزرعة المرحومة.

احتسى المختار قهوته الساخنة، قبل أن يكمل:

- بالرغم من أني لم أعاصر زبيدة خاتون أيام شبابها، لكني متأكد أن هذه المرأة قريبتها، لأنها تشبهها كل الشبه. لكن والحق يقال إنها تبدو مسكينة منكسرة ضائعة. لا تملك جبروت قريبتها الراحلة، ولا التسلّط الذي كان ينطلق من عيني المرحومة. فهمت منها أنها ابنة أخيها، وأن اسمها سارة... سارة خاتون.

back to top