فجر يوم جديد: زيارة في المنام!

نشر في 26-03-2012
آخر تحديث 26-03-2012 | 00:01
No Image Caption
 مجدي الطيب رأيت في ما يرى النائم أحمد زكي وهو يُقبل عليّ بشوشاً مرحباً، وبادلته الإحساس نفسه، وفوجئت به يواصل هوايته في إفراغ كل ما في جعبته من عشق متفان للتمثيل، وكأنه لم يفارقنا لحظة، ووسط استمتاعي وانبهاري بدأ يلملم نفسه، وأقبل عليَّ يودعني، وإذا بالمخرج الكبير محمد خان يدخل «الكادر»، وعانق «زكي» وقبله من وجنتيه، وهو ما فعله «النمر الأسود» معي قبل أن يرحل!

استيقظت وشعور بالقلق يعتريني، وإحساس بالخوف يتملكني، فهي المرة الأولى التي يزورني فيها أحمد زكي منذ رحيله عن دنيانا في ربيع 2005، لكن سرعان ما استفقت لنفسي، وأدركت حقيقة مهمة كانت غائبة عني، فالفنان (18 نوفمبر 1949 - 27 مارس 2005) الذي يُعد في نظر النقاد والباحثين والمهتمين «أيقونة التمثيل» في العالم العربي بأسره، وليس في مصر فحسب، بدا وكأنه يُذكرني بمرور 12 عاماً على رحيله في هذه الأيام، وآليت على نفسي أن أعمل بوصيته من دون إبطاء.

فالطفل الذي ولد في «كفر النحال» بمدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية، وعاش اليتم بعد وفاة والده، وزواج أمه، لم تكن عبقريته في موهبته فقط، وإنما في إنسانيته المفرطة، فمن «الشراقوة» المعروفين بالكرم تعلم ألا يعيش لنفسه، وحتى عندما حباه الله القدرة على أن يبتاع شقة فاخرة في أرقى شوارع المهندسين في العاصمة المصرية، تركها واختار الإقامة في أحد الفنادق السياحية المطلة على نيل القاهرة، ولم يبخل على نفسه وعلى أصدقائه المقربين. لكنه أثار بسلوكه هذا حيرة وغيرة «الغرماء النرجسيين» فأطلقوا عليه «الاتهامات الصفراء»، واتهموه بالجنون كي لا يعترفوا بعبقريته، التي لم يعرفوها. غير أن أحداً ممن اقترب من زكي لم يصدقهم، وظل في نظر الجميع «البريء» الذي لم تلوثه «العاصمة»، و{العاشق» الذي فشل في تقمص دور «الزوج» لأنه أخلص لـ «الممثل» في داخله.

في أثناء تصوير فيلم «كابوريا» أصابته تقلصات معوية عنيفة حار الأطباء في تفسيرها، لكن طبيباً شخصها بأنها ليست عضوية، بل نفسانية، ناتجة من توحده مع الشخصية الدرامية. لم يختلف الأمر كثيراً في تجاربه، أو بالأحرى مغامراته السينمائية التالية، فما عليك كمتابع سوى أن ترصد حركة يديه وأصابعه وهو يتقمص الشخصية، لتـدرك أن الحـديث عنده ليس مجرد كلمات يرددها أمام الكاميرا، وإنما شحنة مشاعر متناقضة تدفعك إلى الإعجاب بتوهجه، والانبهار بقدرته على تجاوز همومـه في غمرة انشغاله ببلوغ طموحاته، فهو ينفي نفسـه ويحتشد للشخصية بكل ما لديه من مشاعر، وكل ما أوتي من إخلاص وتفان ينسى معهما الدنيا من حوله، فأحمد زكي الوحيد تقريباً الذي لا يدخل التجربة بمجموعـة مـن التعبيـرات و{الكليشيهات» الجـاهزة. بالتالي، لا يمكنك أبداً أن تضبطه متلبساً بإظهار انفعالات ثابتة أو ردود فعل جامدة، ولا شيء بالتالي، يحد «شطحاته» أو يسجن إبداعاته، وظل قادراً على أن يفاجئنا دائما بمـا كل هو جديد ومثير.

وإذا كانت النصيحة التـي توجـه إلى الممثلـين بأن يجسدوا الشخصية وهم يفكرون، وألا يغرقوا في عواطفهم، فإن أحمد زكي اسـتوعب النصـيحة، وأضاف إليها اقتناعه الشديد بأن «التوحد» مع الشخصية قبل الشروع في تجسيدها يضـمن لـه الصـدق الدرامي، ثـم التجـاوب الجماهيري.

هو أيضاً الذي برهن للجمهور، قبل النقاد، أن الممثل الجيد ليس «الوسيم» أو «المصقول» الذي يجسـد النموذج المثالي للجمـال فـي صـورته السـطحية والساذجة. كسر القاعدة القديمة، وقدم الدليل على أن المظهر لم يعد السبيل الوحيد إلى تقـديم الموهبـة، بل براعة الأداء ومهارة الكشـف عـن مكنونـات الشخصـية، وتناقضاتها إذا لزم الأمر، وجر المشاهد للتعـايش معهـا والغـوص فـي صراعاتها، وهو ما فعله زكي مدعوماً بـروح قلقـة لا تعرف الاستسلام، ومشاعر فياضة لا تعرف الاسـتقرار، وعطاء متجدد لا يعرف النضوب.

البشرة السمراء والشعر المجعد والعينان المُجهدتان لم تكن وحدها الأسلحة التي دخل بها زكي معركة البحث عن إبداع جديد ومتجدد، بدليل تخليـه عنها فور أن استمرأ «التجريب» في مجال تقديم «سير الزعماء»، التي بدأها بـ «ناصر 56» ثم «أيام السادات»، وهي التجربة التي نظر إليهـا الـبعض بوصفها مغامرة مجنونة لا تقل جنوناً عن شخصـية أحمـد زكي المشدودة على أوتار من الضعف والقـوة، والاسـتكانة، والشراسة، والكمون، والتربص، والتحفـز والتـوهج، والقادرة على تجسيد الشخصية الواقعية بإدراك كامل لطبيعتها، ومعرفة واسعة بلغتها وثقافتها ووعيها وسماتها، فهو الذي يقنعك في أدوار «المجند الجاهل» و{البيه البواب» و{سائق البيجـو» و{الكوافير» و{الدجال» بنفس درجة إجادته ارتداء مسوح الرؤساء. كان يملك مع روحه القلقة رغبة محمومة في تحدي المستحيل، وقدرة منقطعـة النظيـر على التقاط لحظة الإلهام التي يمس فيها ذروة الشخصـية، وفي هذه النقطة يمكننا وضع أيدينا على سر عبقرية أحمد زكي.

back to top