صقر قريش.. يحلق في الأندلس

نشر في 07-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 07-08-2012 | 00:01
الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (4)

كان العالم الإسلامي في سنوات حكم الخليفة الأموي مروان بن محمد (127-132هـ/744-750م) يموج بالاضطرابات والتفكك رغم جهود الخليفة المحنك، فقد أضعف بنيان الدولة الأموية التمييز الطبقي ومعاملة غير العرب كرعايا من الدرجة الثانية، وهو ما يتعارض مع صريح القرآن الذي ساوى بين الناس في وقت احتكرت فيه الأسر العربية مصادر الثروة وحققت رخاء اقتصادياً على حساب بقية شعوب الإمبراطورية الأموية، كل هذا خلق حالة من الحقد الطبقي كان العامل الأساسي في تقويض دعائم الخلافة الأموية في النهاية من خلال الاستجابة للدعوة السرية التي بدأت تنتشر في الأقاليم الشرقية لدولة الإسلام ذات الأغلبية الفارسية تحت شعار «الرضا من آل البيت» الذي أخفى تطلعات بني العباس الهاشميين في الوصول إلى عرش الخلافة الإسلامية، مما ولد مجموعة من الاضطرابات أنهت دولة الأمويين من الوجود.

لم تكن الأندلس بعيدة عما يجري في مشرق العالم الإسلامي رغم بعدها المكاني، فالفوضى التي انتشرت في كل مكان عمت حتى طغت فلم تنج منها الأندلس أو غيرها من الأقاليم الإسلامية، فمنذ أن ثار الجند على والي الأندلس عقبة بن الحجاج وقتلوه والبلاد في حالة من الفوضى السياسية، وامتدت الفتنة بين البربر والعرب في بلاد المغرب بأمراضها إلى بلاد الأندلس، لتشعل نيران الثورة البربرية في الأقاليم الشمالية من بلاد الأندلس خصوصا جليقية وماردة، رافعة راية العصيان وواضعة صوب عينيها قرطبة للقضاء على الوالي رمز السيادة العربية على الأندلس.

وانتهت الأزمة التي استمرت سبع سنوات بأن اتفق زعماء القبائل على تولية يوسف بن عبدالرحمن الفهري -أحد زعماء المضرية- إمارة الأندلس في ربيع الثاني سنة 129هـ/يناير 747م، من دون مصادقة أو مراجعة دمشق أو إفريقية، فقد انشغلت دمشق بالخطر القادم من الشرق المتمثل في ثورة العباسيين.

ولم تكن سنوات حكم يوسف بن عبدالرحمن الفهري (129-138هـ) إلا استمرارا لروح الحرب الأهلية رغم محاولته قمع الفتنة، فقد أثبتت سنوات الحرب تلك أنه لا بقاء للمسلمين في الأندلس مادامت الإمارة تتأرجح بين القبائل المضرية واليمنية وأنه لابد من شخصية من خارج الأندلس تحظى بتأييد الجميع وتكون فوق النزاع القبلي، فالأوضاع المتفاقمة دفعت البلاد إلى شفا الانهيار، وكان القدر رحيما بالمسلمين في الأندلس وأرسل بشخصية فذة رمتها تصاريف الأقدار من المشرق الإسلامي إلى مغربه، فكان انهيار الخلافة الأموية في المشرق فأل حسن على الأندلس.

سقوط الخلافة الأموية

أعلنت الثورة العباسية في إقليم خراسان عام 129هـ، بقيادة أبي مسلم الخراساني الذي حقق انتصارات ساحقة على ولاة الأمويين في خراسان وزحف غربا حتى انتصرت قواته على جيش الأمويين الرئيسي في معركة الزاب الكبير سنة 132هـ/750م، بعدها فر الخليفة مروان بن محمد من مقر الخلافة في دمشق صوب فلسطين ومنها إلى مصر وتتبعه القوات العباسية بقيادة صالح بن علي العباسي، ليلقى مروان مصرعه في قرية أبو صير المصرية لتنتهي بذلك خلافة بني أمية ولتعلن على جثتها خلافة بني العباس التي ستتخذ من بغداد بعد سنوات قليلة مقرا لحكمها.

ولم تستقر الخلافة الجديدة إلا بعد تدبير مذابح للأسرة الحاكمة السابقة. فعندما دخل صالح بن علي العباسي دمشق سفك دماء الأسرة الأموية وأطلق جنده يقتلون كل من يجدونه من بني أمية، حتى انهم نبشوا قبور الأمويين، ووجدوا معظم جثثهم قد تحللت إلا جثة هشام بن عبدالملك، فقد وجدت سليمة، فأمر عبدالله بن علي بصلب الجثة وضربها بالسياط ثم حرقها وذر رمادها في الريح، انتقاما من هشام لضربه محمد بن علي العباس سبعمئة سوط بعد أن اتهمه بقتل ولد له صغير.

كان من بين من رأى الاختفاء والهرب من هذا المصير المفزع أحد أحفاد هشام بن عبدالملك الذي مثّلوا بجثته، وهو عبدالرحمن بن معاوية بن هشام، وكان مع أسرته في مدينة قنسرين بسورية، ففر بأهله واختفى في بعض قرى الفرات، انتظارا لانتهاء تلك المحنة التي حلت بالأسرة وضيعت ما لها من مجد وجاه، إلا أن عيون بني العباس كانت بالمرصاد فعرفت مكان اختبائه وأرسلت على الفور قوات مطاردة لإلقاء القبض عليه، وكادت قوات العباسيين تلقي القبض على عبدالرحمن الداخل إلا أنه هرب في آخر لحظة عابرا نهر الفرات سباحة.

ويروي عبدالرحمن نفسه تفاصيل هذه اللحظات الفاصلة في حياته قائلا: "إني لجالس يوما في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمدٍ كان بي، وابني سليمان يلعب قدّامي، وهو يومئذٍ ابن أربع سنينٍ أو نحوها، إذ دخل الصبي من باب البيت فازعاً باكياً فأهوى إلى حجري، فجعلت أدفعه إلى ما كان بي ويأبى إلا التعلق، وهو دهشٌ يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع، فخرجت لأنظر، فإذا بالروع قد نزل بالقرية، ونظرت فإذا بالرايات السود عليها منحطة، وأخٍ لي حديث السن كان معي يشتد هارباً، ويقول لي: النجاء يا أخي، فهذه رايات المسودة، (اي بني العباس) فضربت بيدي على دنانير تناولتها، ونجوت بنفسي والصبي أخي معي، وأعلمت أخواتي بمتوجهي ومكان مقصدي، وأمرتهن أن يلحقنني ومولاي بدر معهن، وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية، فما كان إلا ساعةً حتى أقبلت الخيل فأحاطت بالدار، فلم تجد أثراً ومضيت ولحقني بدر، فأتيت رجلاً من معارفي بشط الفرات، فأمرته أن يبتاع لي دواباً وما يصلح لسفري، فدلّ علي عبد سوء له، فما راعنا إلا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا في الهرب، فسبقناها إلى الفرات، فرمينا فيه بأنفسنا، والخيل تنادينا من الشط: ارجعا لا بأس عليكما، فسبحت حاثاً لنفسي وكنت أحسن السبح، وسبح الغلام أخي، فلما قطعنا نصف الفرات قصر أخي ودهش، فالتفت إليه لأقوي من قلبه، وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه، فناديته: تقتل يا أخي، إليّ إليّ، فلم يسمعني، وإذا هو قد اغتر بأمانهم، وخشي الغرق، فاستعجل الانقلاب نحوهم، وقطعت أنا الفرات، وبعضهم قد هم بالتجرد للسباحة في أثري، فاستكفه أصحابه عن ذلك، فتركوني، ثم قدموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه، ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلاً ملأني مخافة، ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساعٍ على قدمي، فلجأت إلى غيضة أشبة، فتواريت فيها حتى انقطع الطلب، ثم خرجت أؤم المغرب حتى وصلت إلى إفريقية".

طريد

على كل حال، وضع عبدالرحمن المغرب هدفا له، حيث قبيلة نفزة أخواله، فقد كانت أمه منهم، لعله يجد في حماهم أماناً افتقده في الشام، لذلك تنقل عبدالرحمن بين مدن الشام متخفيا مرورا بفلسطين ومنها إلى مصر، التي انتظر فيها قليلا ريثما يلحق به خادماه بدر وسالم، اللذان زودتهما أخته أم الأصبغ ببعض الأموال والجواهر. بعد أن تكون رأس مال لعبدالرحمن قرر الخروج من مصر صوب بلاد المغرب في زي التجار حتى لا يثير الشكوك في رحلته، في وقت كانت أوصافه قد وزعت على مختلف الأقاليم الإسلامية للقبض عليه، هكذا ظل عبدالرحمن الأموي طريدا يتقي الناس يخافهم حتى وصل إلى مدينة طرابلس الغرب فعرف بعض الأمان عند أخواله من بني نفزة.

واصل عبدالرحمن رحلة هروبه متخذا من الخفاء ستارا، فخرج من بجاية ونزل عند قوم من زناتة على شاطئ البحر، وبدأ يتجول في مدن المغرب يدرس أحوال القبائل ويتسمع الأخبار الآتية من الأندلس، فقد كان يرواده حلم أن يكون هو المقصود بتلك النبوءة القديمة التي سمعها في صغره بأن هناك أموياً سيدخل الأندلس ويحكمها.

مع توالي الأخبار بضعف الأندلس وانقسام أهلها بين مضرية ويمنية ودخول البلاد في آتون الحرب الأهلية، بدأت فكرة العبور إلى الأندلس تختمر في ذهن عبدالرحمن، يراوده الأمل ويدفعه الطموح، عله يجد في هذا القطر النائي سلوى عن بعد الأهل والدار، لذلك بدأ في أواخر عام 136هـ/753م، بإرسال خادمه بدر إلى الأندلس كداعية له يبحث عن أنصار بني أمية القدامى. فتوجه بدر صوب ولاية إلبيرة التي كانت من معاقل الجند الشامي، وتقابل بدر مع زعيم موالي بني أمية أبو عثمان عبيدالله بن عثمان،

وأبلغه رغبة عبدالرحمن الأموي في دخول الأندلس، وهل سيكونون في صفه إذا دخل الأندلس أم لا، وأعلن ابن عثمان رغبته الأكيد في مناصرة عبدالرحمن، وبدأ بالفعل في نشر دعوة الأموي بين أنصاره وأشياعه، وبدأت القبائل اليمنية التي كانت تعاني قهر حاكم الأندلس يوسف بن عبدالرحمن الفهري لها، في الاحتشاد للمطالبة بالثأر عن طريق الانتصار بعبدالرحمن الداخل. وكان بدر يسأل رؤساء القبائل قائلا: "لو وجدتم رجلا من بيت الخلافة أكنتم تبايعونه؟! قالوا: وكيف لنا بذلك؟! فيقول: هذا عبدالرحمن بن معاوية فأتوه".

عاد بدر إلى سيده عبدالرحمن حاملا بشرى نجاحه وتأييد عدد كبير من الأندلسيين لقضيته، فاستبشر خيرا، ووثق بتحقيق الظفر، وبدأ يعد العدة لدخول الأندلس، وبالفعل عبر البحر ودخل الأندلس في ربيع الآخر سنة 138هـ/سبتمبر 755م، وهو يبلغ من العمر25 عاما، ليعرف منذ ذلك الحين فصاعدا بـ"عبدالرحمن الداخل" ويبدأ في حفر اسمه في كتاب التاريخ بحروف من ذهب.

استقر عبدالرحمن الداخل في مدينة طرش بالقرب من البحر المتوسط في إقليم إلبيرة، وعمل في سرعة لضمان ولاء القبائل العربية قبل أن تصل الأخبار الى حاكم الأندلس المطلق يوسف بن عبدالرحمن الفهري، الذي كان ولا شك يدرك خطورة وجود قرشي أموي طموح، على ملكه في بلاد الأندلس. كان من حسن طالع عبدالرحمن الداخل أن انشغل يوسف بن عبدالرحمن الفهري في مواجهة محاولات عصيان في الشمال اتخذت من مدينة سرقسطة، شمال شرقي الأندلس، التي سحقها وأعدم رؤساء العصيان، إلا أنها أعطت الفرصة لعبدالرحمن الداخل ليعمل في تكوين قاعدة عريضة له في الجنوب، فقد التف حوله عدد من زعماء القبائل المتمركزة جنوب الأندلس.

أصبح عبدالرحمن الداخل بين ليلة وضحاها قوة يخشى بأسها في الأندلس، وهو وضع جعل الخوف يعرف طريقه الى حاكم الأندلس يوسف الفهري، الذي فضل، استجابة لنصيحة حليفه القوي الصميل بن حاتم، أن يهادن الداخل ويلتزم معه خط التهدئة، لذلك أرسل وفدا إلى عبدالرحمن في مركزه بمدينة "طرُش"، عارضا عليه التحالف والمصاهرة بتزويجه ابنته، على أن يحتفظ عبدالرحمن الداخل بما تحت يديه من أراض في الجنوب.

"لكن عبدالرحمن لم يخدع بوعود يوسف وعهده، فأبى عرضه ورد رسله وكان يسمو بأطماعه إلى أبعد من ذلك وأرفع، وكان سلطان الأندلس كلها مطمح آماله"، على حد وصف مؤرخ الأندلس ابن حيان.

لم يأت رفض عبدالرحمن الداخل من منطلق الرفض، بل جاء رفضه بعد أن أيقن بقوة موقفه وسيطرته على جنوب الأندلس وغربه، واضطراب الولايات التي تقع تحت سيطرة يوسف الفهري، خصوصا وأن كل أنصاره من العرب وموالي الأمويين في الأندلس قالوا له: "إنما يمكر بك، ولا يفي لك بشيء، لأن وزيره ومالك أمره الصميل، وهو غير مأمون".

لذلك ما ان عاد رسل يوسف إلى قرطبة، حتى بدأ عبدالرحمن الداخل تحركه، بعد أن استوثق من أمراء العرب وشيوخ البربر فلما استحكم الأمر أظهر بيعته، فخرج من مدينة طرش على رأس جيش أنصاره، ودخل مدينة إشبيلية، احدى كبرى مدن الأندلس، ومنها صوب قرطبة لمنازلة خصميه يوسف والصميل.

صقر قريش

إلا أن أخطر ثورة واجهت عبدالرحمن الداخل تلك التي تزعمها العلاء بن مغيث اليحصبي بولاية باجة عام 149هـ/ 766م، الذي رأى أن يتصل بالخليفة العباسي القوي المنصور أبو جعفر عبدالله العباسي، واتجه إلى القيروان لتلقي سجل الخليفة المنصور بولاية الأندلس ولواء عليه شعارات الخلافة العباسية، ما أعطاه بعض المشروعية في مواجهة عبدالرحمن الداخل، باعتباره مبعوث الخلافة العباسية.

عاد العلاء اليحصبي إلى الأندلس رافعا راية الثورة سوداء على لون شعارات العباسيين، وأيدته القبائل اليمنية والفهرية، إلا أن عبدالرحمن استطاع أن يقضي عليه في موقعة قرمونة.

وأمر عبدالرحمن فاجتزت رأس العلاء وجعلت في لواء المنصور في سفط، وبعث بها مع واحد من خاصته إلى مكة، فوافق المنصور حاجا، فوضعها على باب سرادقه، وما ان رأى المنصور الرأس وعرف لمن هو حتى قال: "الحمد لله الذي جعل بيننا وبين مثل هذا من عدونا بحرا".

وتذكر كتب التاريخ أن أبا جعفر المنصور قال لأصحابه في مجلسه ببغداد ذات يوم: "أخبروني عن صقر قريش، من هو؟!". قالوا: "أمير المؤمنين [ أي المنصور]، الذي راض الملك، وسكن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء"، قال: "ما صنعتم شيئا"، قالوا: "فمعاوية؟!". قال: "ولا هذا". قالوا: "فعبدالملك بن مروان؟!"، قال:"ولا هذا"، قالوا: "فمن يا أمير المؤمنين؟" قال: "عبدالرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا مفردا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته".

لم يكن الخليفة المنصور العباسي مبالغا في حكمه على عبدالرحمن الداخل وتلقيبه إياه بـ"صقر قريش"، فقد كان وفقا لوصف المؤرخ ابن حيان القرطبي شيخ المؤرخين الأندلسيين: "راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، كثير الحزم، نافذ العزم، لم تُرفع له رايةٌ على عدو إلا هزمه، ولا بلد إلا فتحه، شجاعا، مقداما، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمر إلى غيره، كثير الكرم، عظيمَ السياسة، يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس ـإن حضرـ في الجمع والأعياد، ويخطب بنفسه، جنّد الأجناد وعقد الرايات، واتخذ الحُجاب والكتاب، وبلغت جنوده 100 ألف".

أنفق عبدالرحمن الداخل من عمره في توحيد البلاد جميعا تحت سلطته ثلاثين عاما في حروب مستمرة لا تعرف الراحة، ورغم رحيله في 24 ربيع الآخر سنة 172هـ/ 2 أكتوبر سنة 787م، فإنه استطاع أن يؤسس دولة قوية دامت من بعده أكثر من مائتي عام وصلت الأندلس إلى قمة مجدها، فرغم حروبه التي أكلت سنوات ولايته الـ33، فإنه أسس لنهضة عمرانية وثقافية ستنمو مع الوقت وستزدهر في عهد أحفاده. فأنشأ في شمال غربي قرطبة قصرا فخما تحيط به حدائق زاهرة، بعد أن كان قصر الإمارة القديم بناء بسيط المعمار، كما بدأ "الداخل" عام 150هـ بإنشاء سور قرطبة الكبير والذي استمر العمل فيه لسنوات، كما وضع الداخل أسس جامع قرطبة الكبير، أحد أهم المعالم الإسلامية في العالم.

التأسيس

لما تيقن يوسف الفهري بفشل محاولاته الدبلوماسية أيقن أن لا بديل عن الحرب، فأمر قواته بالاستعداد، لكن حروبه المتعددة لقمع الثوار أبادت معظم جيشه، فضلا عن حالة التذمر التي بدأت تنتشر في صفوف الجند، فكان يوسف على رأس جيش يتشوق للفرار أكثر من تشوقه لخوض معركة.

جرت المعركة الفاصلة بين الجيشين خارج أسوار مدينة قرطبة في يوم عيد الأضحى من سنة 138هـ/756م، ولم يأت ضحى هذا اليوم إلا وقد انتهت المعركة وهزم يوسف الفهري، وفر صوب مدينة طليطلة.

دخل عبدالرحمن الداخل المنتشي بنصره السريع مدينة قرطبة، مقر الحكم في الأندلس، دون معارضة أو مقاومة، ونزل بقصر الإمارة، وجلس على عرش قرطبة، وهو يعلم أن أمامه عملاً كبيراً قبل أن تستقر له البلاد، فهو يدرك أن البلاد في حاجة إلى حاكم قوي يعيد إليها الاستقرار الغائب من جديد، خصوصا أن الأندلس لم يكن قد تحول إلى بلد ذي أغلبية مسلمة، في وقت انتعشت المقاومة الإسبانية في الشمال ونفذت هجمات ناجحة.

لذلك شمر عبدالرحمن الداخل عن ذراع الجد، ووجه قواه كلها لقمع زعماء تلك الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، وقسمت البلاد بين مراكز عديدة تتمسك باستقلالها وتأبى الخضوع لسلطة قرطبة المركزية، لذلك رأى عبدالرحمن الداخل أن يبدأ في تنفيذ مخطط شامل لقمع الفتنة والتمزق السياسي في الأندلس، وهو ما نجح فيه، في وقت أخذ عدو جديد يتربص بدولة الإسلام في الأندلس فخلال سنوات عدم الاستقرار في عصر الولاة، ثم انشغال عبدالرحمن الداخل في قمع مناهضيه، بدأت فلول القوات القوطية التي تعرضت لهزيمة ساحقة أمام قوات الفتح الإسلامي عام 92هـ، في تنظيم صفوفها في أقصى شمال البلاد في إقليمي جليقية، واستطاعت بفضل غفلة المسلمين وانشغالهم بالاقتتال فيما بينهم، أن تحيي دولة القوط من جديد وهي المملكة التي عرفت باسم مملكة جليقية.

back to top