منى خويص: الظاهرة الشعبوية مستفحلة في لبنان نتيجة تغييب الدولة

نشر في 26-11-2012 | 00:02
آخر تحديث 26-11-2012 | 00:02
منى خويص باحثة وفنانة تشكيلية، اهتمت منذ بدايتها بدراسات حول الأنظمة الطغيانية الشمولية فأصدرت كتاب «وجوه القائد» ثم «رجال الشرفات» (عن دار الفارابي) الذي تزامن صدروه مع تهاوي بعض الأنظمة العربية بعد الانفجارات الثورية. معها الحوار التالي.
لماذا اتجهت منذ البداية إلى دراسة قضايا تتعلق بالأنظمة الديكتاتورية؟

انسداد الأفق في مجتمعاتنا، التأخر الذي تعانيه مقارنة مع الدول المتقدمة، وعدم قدرتها على المواكبة الفعلية للحركات الحداثية كافة التي عرفها العالم، من الحداثة إلى العولمة، أمور تجعلنا نبحث عن السبب الذي يقف وراء ذلك، ويجعلنا نطرح سؤالاً حول «القيادة». لا بد أن ثمة إشكالية على مستوى القيادة كمفهوم وكدور. من هنا جاء كتاب «وجوه القائد» ليبحث في الشخصية القيادية والأنماط القيادية ويحللها ويشرِّح ودورها، ثم استتبع هذا العمل بآخر حمل عنوان «الأبواب المغلقة»، دراسة حول أزمة التغيير في الوطن العربي، ليضيء على مسؤولية النمط القيادي في منطقتنا عن تراجع مجتمعاتنا. لاحقاً، جاء العمل الأخير «رجال الشرفات» ليعرف الظاهرة الشعبوية، هذه الظاهرة التي تضج بها مجتمعاتنا وليبين خطورتها كظاهرة وقدرتها على إعاقة المجتمع وشلّ قدراته وطمس التنوع والإبداع فيه، من خلال تحويله إلى مجتمع بلون واحد. ثمة وحدة بين القيادة والجماهير على المستويات كافة، السياسية والثقافية والاجتماعية، مجتمع لا يعلو فيه صوت إلا صوت المعركة «معركة النظام»، ولا صدى فيه إلا صدى صوت القائد الذي يختصر الوطن بكل ما فيه بشخصه.

في الواقع، منذ الحرب العالمية الثانية أصبحت الأنظمة الديكتاتورية مدانة في العالم الحديث لبشاعة الحقبة التي تشغلها. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت غالبية معارك النخب الفكرية في العالم العربي تُخاض لأجل الديمقراطية. والحديث عن الديمقراطية يعني مناهضة الديكتاتوريات، وأعمالي نتاج هذا المناخ وتدور في الفلك نفسه.

 ما هي الشعبوية وما هي أبرز العلامات المشتركة بين رجال الشرفات؟

لطالما تمَّ التعاطي مع الشعبوية كأحد مكونات الفاشية والديكتاتورية وحتى الديمقراطية الشعبية. ولكن البحث في هذه الظاهرة توصَّل، أولاً إلى أن الشعبوية تتضمن ملامح من كل ما ذكرناه ولكنها هي بحد ذاتها ظاهرة مستقلة، إنها مناخ عام يسود المجتمع نجدها في المجتمعات التي تتحقق فيها وحدانية انقياد المجتمع خلف قادته، في المجتمعات التي تتشابه فيها الملايين داخل مفهوم واحد للثقافة والسياسة والاجتماع. الشعبوية قائد ملهم وجمهور منقاد بشكل أعمى خلفه ومجتمع منغلق على نفسه، الشعبوية قيادة تكرر التاريخ، الأمس الذي يعاد إنتاجه. أما القائد الشعبوي فهو القائد الآتي من الماضي مما يعتبر مقدساً في الوجدان الجماهيري...

والظاهرة الشعبوية هي أحد أبرز أمراض الأنظمة الديمقراطية في واقعنا الراهن، وتقوم على سياسات وشعارات وحملات تحريض باسم «الشعب»، لكنها بالنتيجة تؤدي إلى تخريب الواقع السياسي والاجتماعي والى هدم مؤسسات الدولة. تضع السياسات الشعبوية رجلاً أو فئة معينة حزبية أو طائفية أو عرقية محل الدولة ومؤسساتها، وهي تريد تجاوز الدولة والدساتير والقوانين باسم «إرادة شعبية» مزعومة وطبعاً أبرز النتائج الكارثية هي تهديم الدولة ليحل محلها «قائد أو عائلة أو قبيلة أو طائفة أو عرق» كما حصل تماماً في النموذج الليبي، حيث وباسم الجماهير طارت الدولة ومؤسساتها وأطلقت الصفة المثيرة للسخرية «الجماهيرية» بدلاً من الجمهورية. بهذا كله يتشابه القادة الشعبويون.

من هي أنثى الشرفة؟

كمثال تحدثت في كتابي عن إيفا بيرون كنموذج للمرأة الشرفة. في الواقع، يطغى الحضور الذكوري على الحضور الأنثوي في المجتمعات ذات المناخات الشعبوية، لكونها مجتمعات أبوية، أو بطريركية كما يقال، والقاعدة أن يقف على شرفاتها رجال، ووقوف المرأة استثناء.

 هل شكَّلت الشاشة بديلاً عن الشرفة في صناعة الرجال والأنظمة؟

كما لكل زمن دولة ورجال، كذلك لكل زمن وسائله، والمهم ليس الوسيلة بل ما يصل عبرها. في الواقع، «الشرفة» مصطلح رمزي يشير إلى الخطاب الذي يتوجه به القائد إلى جماهيره. في الماضي، كان عبر الشرفة واليوم عبر الشاشة، ما يتيح انتشاراً أوسع له. هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فقد أدت الشاشة دوراً، هذا إذا أردنا أن نتجاوزها كشاشة وربطناها بثورة الاتصالات وبالعولمة، أنتج نوعية أو نمطاً جديداً من القيادة، أبرز أمثلته الرئيس الأميركي باراك أوباما، صاحب البشرة السوداء الآتي من عائلة فقيرة والذي شغل للمرة الثانية البيت الأبيض. نحن أمام إحدى نتائج العولمة، وأوباما نموذج القيادي الذي اتصف خطابه إلى حد ما بملمح شعبوي، فهو أطلق وعوداً كثيرة بالتغيير لم يحقق منها إلا القليل، وأدى فن الخطابة الذي يتقنه جيداً، وهذه ميزة أساسية لدى القادة الشعبويين، دوراً في تأييد الناخبين له ولكنه في الوقت نفسه لم يتجاوز المؤسسات والدولة.

هل انتهى زمن الطغيان مع بدء سقوط الطغيان العربي أم أن وسائل الاتصال ستنتج طغياناً جديداً؟

من المؤكد أن الثورات العربية حققت إنجازات كثيرة لن تعود لترى النور مجدداً، وعلى رأس قائمتها الاستبداد السياسي بالشكل الذي كان عليه، الحكم الأمني، الحزب الواحد، الحاكم الواحد الأحد، كلها أمور أصبحت من الماضي. لكن ذلك لا يعني أن المستقبل آمن من إعادة إنتاج طغيان جديد. هنا على الشباب الذي أنجز التغيير في بعض بلدان العالم العربي أن يتنبه إلى مخاطر المرحلة الحالية. ينتشر اليوم استخدام شعبوي للدين، ما قد يمهِّد لثورة مضادة ولضياع إنجازات الثورات العربية. في مصر مثلاً وفي الموضوع المتعلق بصياغة الدستور يدور الخلاف بين الإخوان وبين الليبراليين حول اعتماد تطبيق أحكام الشريعة كما يرى الإخوان، أي الأحكام الفقهية التي كتبها البشر والتي تناسب بغالبيتها القرن العاشر ولم تعد تلائم مجتمع القرن الواحد والعشرين، أو مبادئ الشريعة التي أنزلها الله كما يرى الليبراليون.

ويستعمل الإخوان خطاباً شعبوياً للتأثير في عواطف الناس الدينية ويحشدونهم في تظاهرات ويدفعونهم إلى اتخاذ مواقف تحقق لهم مكاسب في السياسة، من ضمنها أن تطبق في مصر أحكام الشريعة، والفرق بينهما كبير. يقول الأديب المصري علاء الإسواني مثلاً: «لو طبقت اليوم في مصر أحكام الشريعة لقضت على المجتمع المصري قضاء مبرماً لا رجعة فيه، ولقامت في مصر حرب أهلية أو لتمَّ تقسيمها بين المسلمين والأقباط كما حدث في السودان، فعندما نطبق أحكاماً فقهية قديمة فنحن نسعى بذلك إلى تمزيق المجتمع وتدمير بلادنا ونعود بمصر عدة قرون إلى الوراء». من هنا ضرورة التنبه من الجميع حول التفاصيل كافة المتعلقة بصياغة المستقبل كي يقطعوا الطريق على إعادة إنتاج الطغيان مجدداً.

 هل سيولد تعريف جديد للشعبوية؟

في الواقع، تعريف المصطلح ملتبس، وهذا أمر يقود ليس إلى صياغة مفهوم جديد للشعبوية بل يبقي الباب مفتوحاً أمام الباحثين للإضافة إلى هذا المصطلح وتنقيته أو إزالة اللبس عنه.

كيف تقرأين واقع رجال الشرفات في لبنان؟

الظاهرة الشعبوية مستفحلة في لبنان نتيجة تغييب الدولة منذ أكثر من أربعة عقود، ولأن اتفاق الطائف لم تتم ترجمته بمؤسسات قوية، إضافة إلى فشل مشروع بناء الدولة بعد انتهاء الحرب، استطاعت الشعبوية أن تحضر وبقوة في الواقع اللبناني، فثمة تيارات وأحزاب وحركات كثيرة تهيمن على سلوكياتها وسياساتها وشعاراتها والأهم على «خطابها» الشعبوي، بمعنى تغييب مصلحة الدولة ومؤسساتها باسم الشعب أو الطائفة أو المذهب أو العشيرة، وفي السنوات الأخيرة من حياتنا السياسية اقتربت المذهبية كثيراً من الشعبوية كمرجعية في السلوك السياسي لكثير من القيادات والمرجعيات.

بأي حال، في الكتاب أمثلة ونماذج عن قيادات وتيارات وحركات شعبوية عرفها ويعرفها العالم، ولا شك في أن قراءتها ستستحضر إلى ذهن القارئ اللبناني الكثير من المشاهد من واقعه، بمعنى أنها تتماثل مع ما تعيشه راهناً الساحة اللبنانية، والأمر عينه ينطبق على الساحة العربية.

back to top