«ثمرات ناضجات من جنان الشعر العربي»... من الشعر الجاهلي إلى السياب

نشر في 13-11-2012 | 00:01
آخر تحديث 13-11-2012 | 00:01
صدر أخيراً كتاب «ثمرات ناضجات من جنان الشعر العربي» للباحث الدكتور عايدي علي جمعة، ضمن سلسلة إصدارات مجلة «تراث» عن نادي تراث الإمارات في أبوظبي. يتضمن الكتاب أربع محاولات لافتة لقراءة نماذج من التراث الشعري العربي القديم والحديث.
اختار عايدي علي جمعة في كتابه «ثمرات ناضجات من جنان الشعر العربي» الشاعر الجاهلي عبد بن يغوث اليماني، ليرصد ملامح البنية الزمنية في قصيدته (ألا لا تلوماني)، مروراً بعينية أبي ذؤيب الهذلي التي يستعرض الباحث بنيتها السردية، وصولاً إلى رصده ملامح الصوت المجدول في «أغنية في شهر آب» للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، ودراسته مركزية الصوت وانكسارها في إحدى تجارب الشاعر المصري محمد ابراهيم أبو سنة (تعالي إلى نزهة في الربيع).

 ينطلق المؤلف من النص، وتبدو خلفيته المعرفية العميقة من خلال التحليل بالعيد من النظريات والمدارس النقدية، ويقدم خلاصات جادة تمثل إضافة إلى الدرس النقدي العربي، منها البنية الزمنية في قصيدة عبد يغوث اليماني، هذه القصيدة التي يبدأها اليماني بالأبيات الآتية:

ألا لا تلوماني كفى اللَّومَ ما بيـا      وما لكما في اللوم خيرٌ ولا لِيـا

ألم تعلما أنَّ المـلامةَ  نفـعُـها     قليلٌ ، وما لومي أخي من شِماليا

فيا راكباً إمّا عرضـتَ فبلِّغـنْ      نَدامايَ من نَجْرانَ أنْ لا تلاقِيـا

أبا كربٍ والأيهمَـينِ كليهِـما      وقيسا بأعلى حضرموتَ اليَمانيـا

جزى اللهُ قومي بالكُلابِ  ملامةً      صريحَـهمُ والآخرين  المـَواليا

يعتبر جمعة أن هذه القصيدة تكشف عن بنية زمنية ذات نسق خاص، وهي قصيدة يرثي فيها الشاعر نفسه، حينما علم أن الموت قادم قريباً جداً لا محالة، فقد وقع في الأسر في يوم الكلاب الثاني، وحاول أن يفتدي نفسه ولكن أعداءه رفضوا، وصمموا على قتله، وقد ربطوا لسانه بسير من الجلد خوفاً من هجائه، لكنه طلب منهم إطلاق لسانه كي يرثي نفسه ويلوم قومه، ففعلوا فقال هذه القصيدة. وقد بدأت البنية الزمنية فيها بطريقة لافتة، فهي لا تعتمد الخطية، وإنما جاءت على طريقة التداعي الحر، وبدت الانتقالات الزمنية كاشفة عما يمور بداخل السارد، مما يستدعي وقفة للكشف عن تجلياتها.

يضيف جمعة أنه وعلى عادة الجاهليين تبدأ القصيدة بخطاب الصاحبين، لكن يبدو هنا عدم اتحاد الثلاثة، ففي الغالب يكون خطاب الصاحبين طلباً لاشتراك في عمل يندمج فيه الثلاثة، لكن هنا يبدو نوع من الخلاف بين الجماعة، فثمة صاحبان يلومان الثالث الذي هو السارد، والثالث يرفض هذا اللوم، بل وينهاهما عن ذلك، لأن ما به يكفي وزيادة عن لومه. وقد جاءت «ما» هنا لتشير إلى حادثة أسر السارد في يوم الكلاب الثاني، وتصميم الآسرين على قتله. إذاً، فالسارد ينطلق من لحظة حاضرة ضاغطة، وتعكس الجمل توتراً نفسياً حاداً، ومحاولة الاستسلام للقدر الغالب، ذلك من خلال كثرة حروف المد، حيث تسهم هذه الحروف بصورة واضحة في تبطيء الحركة الزمنية لأن اللحظة التي يعيشها السارد ينوء بثقلها. وإذا كانت القصيدة تبدأ بصوت السارد من خلال نهيه للائمين، فإن صوت هؤلاء اللائمين محذوف، ولكنه موجود، وكأن القصيدة تبدأ قبل كلماتها، وقد ظهرت بدايتها السابقة غير الملفوظة من خلال بدايتها الملفوظة.

أيضا يختار المؤلف عينية أبي ذؤيب الهذلي للحديث عن بنيتها السردية، يقول الهذلي في قصيدته:

أمن المنون وريبها تتوجع         والدهر ليس بمعتب من يجزع

قالت أميمة ما لجسمك شاحباً     منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع

  أم ما لجنبك لا يلائم مضجعاً     إلا أقض عليك ذلك المضجع

  فأجبتها أن ما لجسمي أنه         أودى بني من البلاد فودعوا

 سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم      فتخرموا ولكل جنب مصرع

يرى المؤلف أن القصيدة تبدأ بالاستفهام، ما يرشح لوجود البنية الحوارية في بدايتها. ويحمل الاستفهام بالهمزة نبراً عالياً، يؤشر إلى توتر حاد، وهذا الاستفهام يحمل في مضمونه إشارة إلى أن القصيدة تبدأ قبل بدايتها الملفوظة، فثمة خطاب للذات الساردة، يحمل في طياته الإنكار لتوجع هذه الذات من المنون وريبها،، وهكذا يبدو أن التوجع قد حدث فعلاً، وأن الجزع من ريب الدهر قد حدث أيضاً، وهذا ما يبرر الاستفهام من صوت مغاير، وليس يوجد ما يمنع أن يكون هذا الصوت هو صوت الذات الساردة نفسها على طريقة المونولوج، فنرى الذات الساردة تخاطب نفسها في محاولة منها لجذب نفسها من هوة التوجع السحيقة، أو قد يكون صوتاً مغايراً تماماً لصوت الذات الساردة.

أما في ما يتعلق الشعر الحديث فاختار الكاتب قصيدة  «أغنية في شهر آب» للشاعر العراقي بدر شاكر السياب. يفيد المؤلف بأن السياب حينما نشر هذه القصيدة عام 1956، اكتسبت أهمية خاصة في حركة الشعر العربي الحديث، لأنها تتناول أسطورة تموز، وما تثيره من جدلية الموت والحياة، ما فتح الباب واسعاً لاستخدام هذه الأسطورة في الشعر العربي الحديث، حتى ظهر تيار شعري يعرف بـ{الاتحاد التموزي». وإذا نظرنا إلى العنوان، فإننا نجد تعالقاً مع نصوص عالمية شهيرة، كما نجد أن كلمة أغنية تحرك مؤشر الدلالة أكثر إلى نوع من الفرحة نلاقيها في شهر آب، فهذه الأغنية مرتبطة  بالزمن، هذا الزمن هو شهر أغسطس، الذي ربما يكرس لدلالة السعادة بحصاد طال انتظاره.

من هنا فإن المتلقي يدخل عالم النص وهو محمل بهذه الدلالة، كما أن أفق توقعه يتكون من خلال ذلك، لكن هذا الأفق لا يلبث أن ينكسر حينما نغادر العنوان إلى النص نفسه:

تموز يموت في الأفق

وتغور دماه في الشفق

في الكهف المعتم والظلماء

نقالة إسعاف سوداء

وكأن الليل قطيع نساء

كحل وعباءات سود

الليل خباء

اليل نهار مسدود

back to top