طيور الرغبة

نشر في 01-12-2012 | 00:02
آخر تحديث 01-12-2012 | 00:02
No Image Caption
مرّت أسابيع على إصابة أبي بالألزهايمر، وأصبحت عرضة لتوتر الأعصاب أكثر مما كنت في السابق، التوتر يمزق أفكاري، أشرد لساعات خلال جلوسي بمفردي، أضع يدي على خدي وأذهب في تأمل بعيد. كنت أحتاج مقاطع قليلة لأنهي روايتي الأولى حين سمعت أزيز الرصاص ودويّ القذائف في منطقة الحمرا - رأس بيروت في ذلك اليوم من أيار 2008. رصاصات قليلة كانت كافية لأنسف الرواية التي بدأت كتابتها منذ سنوات. إن اللحظات اللاواقعية التي تشكلت من الحرب ومن تخلخل ذاكرة أبي، قلبت الأمور رأساً على عقب، وما كتبته أصبح مثل جثة متحلّلة كحياتي نفسها. صرت أمام سلسلة انكسارات واحتلالات لا أقدر على تخطيها أو هزيمتها. الرواية ليست جثة لكن الكلمات والعبارات تتحلّل، والمعاني تقتل بالحبر أيضاً. اكتشفت في لحظة أن ما أكتبه غير قابل للحياة، وأن الحرب أطلقت رصاصة الرحمة على نصّي الطويل الذي بقيت لسنوات أدوّنه وانتظر بشغف أن يرى النور. قلت ماذا تعني الذكريات حين يصاب أبي بالألزهايمر، هل يبقى للأشياء معانيها؟! ماتت الرواية في ذلك اليوم، ربما لأن الحرب قادرة على تغيير المزاج وقتل الأفكار. جلست طوال ليلة الحرب في منزلي الصغير، قبالة التلفزيون الصغير، لم أكن أسمع الأخبار، كنت أشاهد الكليبات المصورة وأسمع أزيز الرصاص، أتخيّل أنّ المسلحين قد يخلعون باب شقتي في لحظة، ربما يضعون كيس الخيش في رأسي ويلجأون إلى تعذيبي والتنكيل بي، أو يثقبون جسمي بالرصاص ويلقون بجثتي قرب مستوعب سوكلين. الأجساد المهشمة في الحرب تتشابه في التشوّهات، هذا هو صوت المنطق. ماتت روايتي قبل أن تولد، وأنا أفكر بقول خورخي لويس بورخيس في أن مشكلة الكتّاب الشباب كانت في أنهم يفكرون وهم يكتبون بالنجاح والفشل، في حين لم يفكر بورخيس في بداياته إلا بالكتابة لنفسه. في البداية كنت أكتب لنفسي ولكن منذ أن تحولت الكتابة مهنة أصبت بمائة وسواس، وعندما بدأت كتابة رواية كان الوسواس بالنسبة إليّ، دور النشر المصابة بالجهل، كيف سأنشر رواية ولجان القراءة فيها تصاب بالهلع من كلمة «عانة»!!

من المجحف أن يبقى المرء يكتب رواية على مدى أشهر أو سنوات، مهلوساً بنهايات أبطالها المتخيّلة، يسردها حرفاً حرفاً وجملة جملة، ولكنه في الوقت نفسه يشعر أنه يعيش رواية طويلة في ليلة واحدة. فهل من الضروري أن نكتب رواية؟! أو أن تصبح نوازع الحياة منسوخة على الورق!! هل من الضروري أن تصبح الرواية مثل احتلال في الحياة؟! كان إطلاق الرصاص قد بدأ يقترب من شارع الحمرا حين حذفت نص الرواية من على شاشة الكومبيوتر، قلت إن روايةً لم تعجبني لن يكون لها حظ في الحياة. تركت ذاكرتي تروي لنفسها من دون عناء السرد الروائي ومشقّته، بل تركت الأحداث تروي نفسها، لم يكن أزيز الرصاص في ليل بيروت يحتاج كتابة ليكون تعبيراً عن مأزق الوجود والحياة معاً، ولم تكن إصابة أبي بالألزهايمر تحتاج إلى كتابة ليظهر معناها على الملأ، فأبي الذي كابد الشقاء العاري والعادي على مدى ثمانين عاماً، كتب ذاكرته بالنسيان والممحاة، وهو قبل أن يصاب بالألزهايمر صدمته سيارة على رصيف بولفار شمعون في سقي الحدث، صدمة كانت كافية لتخلخل دماغه وتصيب جسمه بالرضوض المختلفة وتهشمه كأنه أصيب في الحرب أيضاً. على مدى سنوات كنت أشعر بالإثم لأني لا أهتم بأبي، وزاد جفائي معه أني سكنت بمفردي. لم أعد أزوره إلا في مرات نادرة. كأني كنت أحاول التجرد من أقرب المقربين إليّ، أعيش وهم الفردية والانشقاق عن الهالة الأسرية ورمزية العائلة، ودفعني هذا الوهم التمردي لأن أكتب: «لن أقتل أبي لأنه غير موجود».

لم أتوقع أن الحرب ستصل إلى شارع الحمرا. كنا تناقشنا كثيراً في حانة كافكا واستنتجنا بأن الحرب لن تقع من جديد، وحده رضوان الأشقر يقول لنا نحن الجالسين في الحانة: «يا أغبياء طالما أن السلاح متوفر في المنازل والمستودعات فهذا يعني أننا في حالة حرب». بقي رضوان متشائماً من أبسط الأمور في لبنان، يجد في كل شاب يزور الحانة مشروع حرب أهلية، ويلحظ أن الشبّان يرضعون العنف من حليب أمهاتهم، ومشروعهم الوحيد كيف يحضّرون للحرب. يقاوم رضوان الفراغ (...) لم يكن يحمل سيجارة، منذ أصيب بأزمة قلبية، بدأ يخاف على صحته وتوقف عن التدخين (...) ولم يجد عملاً منذ صُرف من الجريدة التي عمل فيها، لا يجد ملاذه إلا في النوم والسهر، حين توفي الفنان جوزف صقر شعر رضوان بنقزة مع مجموعة الشبان الذين كانوا يجتمعون في حانة كافكا. لا أعرف إن كان رضوان زار حانة كافكا في ليلة السابع من أيار 2008، فالرصاص مزق الليل في نواحي العاصمة، القطة المرقطة دخلت غرفة مطبخي للمرة الأولى، حاولت تناول ما تبقى من علبة التونا. القطة تلحس علبة التونا كأنها تلحس الدماغ. لم أنهر القطة لتخرج من المطبخ، لا أجيد الكلام معها. لحظات من الحرب، شعرت أن أربع وعشرين ساعة في البيت تساوي دهراً، لا شيء أفعله سوى اللجوء إلى السرير أو الكتب المكدسة في الزوايا.

ماذا يفعل المرء في الحرب؟! هل يحرق أصابعه بأعقاب السجائر؟ أم يفكر في جمع مظاريف الرصاصات الفارغة؟ منطقة الحمرا أصبحت في ليلة حرب واحدة كوجه إنسان تلقى لكمة على عينيه. أضاع الشارع بوصلته. رائحة الحشيش تنسرب من غرفة الناطور إلى شقتي في الطابق الأول، هدير المكيف القديم يضرب الرأس أيضاً.

مدرعات الجيش تقطع الطرق المؤدية إلى قصر قريطم، بعض المواطنين ينتظر أن تفتح الدكاكين أبوابها وعلى وجوههم علامات الذعر، أحد حراس القصر يهمس في أذن بائع القطع الإلكترونية قبل أن يغادر مكان عمله، لا حراس في الشوارع المؤدية إلى القصر. كنت أجهل ما يحصل في الشوارع القريبة من بيتي، قلق خفيف يسيطر عليّ. في يوم واحد ازدادت الشعارات الحزبية على الجدران، كأن الأحزاب أول ما تنتقم منه هو الجدران العارية إذ تروح تطلي رموزها بطريقة وحشية من خلال «الستنسل» و»الغرافيتي». الموت شبح يطل من فوهات البنادق، الرجل العجوز مزق صور السياسي الذي يحبه عن واجهة دكانه، جلس يبكي على رومنطيقية الرصيف الزائلة، بقي باب دكانه نصف مقفل، شعر بالتيه بعد ليل الرصاص الطويل.

 غلاة البنادق «أبدعوا» في صناعة الخوف، كانوا يدكّون الليل بالقذائف والرصاص كأنهم يشاهدون عانة فرج للمرة الأولى في حياتهم. أشعلوا سجائرهم من لهيب الطوائف، صفعوا شوارع المدينة بالرصاص والبارود. في الصباح، توزعوا عند زوايا المباني، يحملون عتادهم الحربي. أمي كانت قلقة أيضاً، تتصل تنبهني من النزول إلى الشارع، أسألها عن أحوال أبي، تقول «الله يساعد، يا حسرتي على بني آدم»، وتنبهني من النزول إلى الشارع أيضاً. منذ أصيب أبي بالألزهايمر فقد بيت أهلي الرواق والهدوء، وانشغلت أمي وأختي الكبرى بتداعيات أزمة لم تكن في الحسبان، أبي يمضي وقته بين المسجد والساحة والدكاكين، لا أحد يعرف ماذا يريد، ومنذ بدأ يهتم بالجنازات والمآتم، أصيبت ذاكرته بالخلل، بدا الضجر والقلق من علاماته اليومية، كل شيء يزعجه، وأحياناً يشعر بالرضى من كلمة، لكن الموت كشبح فوق أيامه.

لم أحلق لحيتي، لم أحدق إلى المرآة، لم أغسل وجهي، لم أرتب السرير. مشيت بحذر حتى شارع بلس المحاذي للجامعة الأميركية، مجموعة من عناصر حزبيّة تسير في دورية راجلة تحمل بنادق قناصة... ماذا يفعلون هنا، من أين أتوا؟! هل خرجوا من تحت الأرض وعلى وجوههم وحل وأغصان أشجار؟! نراهم ولا نرى وجوههم، هل أتوا من الغابات البعيدة؟ بعض عناصر مخفر حبيش قرب سناك فيصل، الضابط يأمرهم بالدخول إلى مركزهم. ماذا يجري؟ لا أعرف!! كأني في خروجي من البيت، أتحدى الحرب وأكتب، أو كأني أعيش في العالم السفلي. الكتابة ليست صلاة كما يقول كافكا، الكتابة إلحاد وشكل من أشكال التعذيب، الكتابة جعلتني في العالم السفلي برغم أني أعيش في المدينة وبين الناس وفي المقاهي، الكتابة سرقتني من حيث لا أدري، والكتب غيرت حياتي من حيث لا أدري أيضاً!! تتصل أمي من جديد مولولة: «انتبه يا ابني، يا رضا قلبي عليك انتبه من المشاكل، وإذا فيك تع على الضيعة»...

تصل تاكسي من نوع مرسيدس «لف» خضراء اللون... يتأملني السائق كأنه يسألني: «لوين؟».

-»أشرفية، ساسين، عشرة آلاف».

يشير إليّ بالصعود، أجلس على المقعد الأمامي، على التابلوه صورة لحسن نصرالله، السائق يسمع إذاعة حزبية، طلبت منه أن يخفف صوت الراديو قليلاً، بدت على وجهه علامات الامتعاض، قال: «بدنا نعرف شو في بالدني»، أقول في قرارة نفسي: «أخت التاكسيات واللي بيطلع فيها، متى أشتري سيارتي الخاصة»... لأتفادى الصدام مع السائق بدأت أقرأ رواية «خفة الكائن المحالة الاحتمال» لميلان كونديرا، وصادفت قراءتي مقطعاً عن براز ابن جوزف ستالين يقول «لم يتسن لنا أن نعرف الظروف التي مات فيها ابن ستالين إلا من خلال مقال نشرته مجلة «الصانداي تايمز» عام 1980. فبعد أن أسره الألمان خلال الحرب العالمية، أدخل في معسكر الاعتقال نفسه مع ضباط إنكليز أسرى. كانت مراحيضهم مشتركة في المعسكر وكان ابن ستالين يتركها دائما متّسخة. والإنكليز، لم يكونوا يحبون رؤية مراحيضهم ملطخة بالبراز، حتى ولو كان ذلك البراز يخص ابن الرجل الأكثر نفوذاً في العالم آنذاك. كانوا يلومونه على ذلك فاستاء منهم. ثم عاودوا تأنيبه وأجبروه على تنظيف المراحيض. فغضب ثم تخاصم وتعارك وإياهم، وطلب في النهاية مقابلة آمر المعسكر. كان يريده أن يحكم في نزاعهم ولكن الأماني كان أكثر اعتزازاً بنفسه من أن يتجادل بخصوص البراز. فأطلق ابن ستالين شتائم روسية شنيعة ثم انقض باتجاه الأسلاك الشائكة المحيطة بالمعسكر والمزودة بتيار من التوتر العالي. ترك نفسه يتهاوى فوق الأسلاك. وجسده الذي لن يلوث المراحيض البريطانية بعد الآن، وبقى معلقاً هناك.

لم تكن حياة ابن ستالين سهلة. فلقد أنجبه والده من امرأة كان كل شيء يؤكد بأنه سيقتلها يوماً. كان ستالين الابن إذاً ابناً للإله وملعوناً في الوقت نفسه من الإله. كان الناس يهابونه لسببين: الأول، لأنه كان بإمكانه أن يؤذيهم بسلطته (فهو على كل حال ابن ستالين) وبصداقته (لأن الأب كان يمكنه معاقبة الصديق بدلاً من الابن المنبوذ).

ابن ستالين قضى في البراز. ولكن الموت في سبيل البراز ليس موتاً مجرداً من المعنى. فالألمان الذين ضحوا بحياتهم من أجل توسيع إمبراطوريتهم أكثر باتجاه الشرق، والروس الذين ماتوا كي تمتد سلطة بلادهم أكثر صوب الغرب. أجل، كل هؤلاء ماتوا من أجل بلاهة، وموتهم مجرد من أي معنى ومن أي مغزى عام. أما موت ابن ستالين فكان بالمقابل، الموت الفيزيقي الوحيد وسط البلاهة العالمية للحرب».

 في مخليتي مليون فكرة حول موت اللبنانيين والعرب في سبيل البراز والبلاهة، كل حرب هي في سبيل البراز والبلاهة، لا أعتقد أن السائق يدرك ذلك، بدا منزعجاً مني لأني أحاول القراءة، كأنه يريد الكلام معي بالقوة، يريد أن يقول شيئاً ولا أنتبه له، يأس من محاولته في فتح حديث حول ما جرى ويجري في ليلة الحرب الطويلة.

لا أحد على الكورنيش البحريّ، كأن المواطنين هربوا من الشمس والبلاهة «واليوم المجيد». في عين المريسة مجموعة من المسلحين يتنافسون في القنص لإسقاط صورة كبيرة لسياسيّ معلقة على مبنى قديم قرب ميناء الصيادين... هل نحن في حرب الصور؟! رصاص يثير الهلع في وضح النهار، الجيش أين هو؟! لا أعرف! القوى الأمنية اختفت من الشارع، السائق يمشي بسرعة، يريد أن يصل بسرعة إلى حيث طلبت منه ويتحدث بسرعة، يتجه من «الصيفي فيلدج» نحو شارع التباريس، كأنه ينتقل من بلد إلى آخر. البلد ما زال في حالة انقسام سيكولوجي وسوسيولوجي، إنه بلد البلاهة.

back to top