أوفيليا شكسبير... صارت أسطورة أدبية
قبل أيام عادت إلى الواجهة قصة علاقة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا بحبيبته أوفيليا، بعد نشر كتاب «رسائل حبّ فرناندو بيسوا وأوفيليا كيروس» في لشبونة بتحقيق وجمع وتصنيف من الباحثة البرتغالية المتخصّصة مانويلا باريرا داسيلبا. كنا نحسب أن أوفيليا مجرد أسطورة كتب عنها بيسوا أو جعلها حجة للكتابة أو استوحاها من أوفيليا بطلة مسرحية «هاملت» لشكسبير، لكن من خلال البحث والتدقيق تبين أنها فتاة من الواقع برزت أهميتها من خلال الرسائل، وهي أشبه بحياة مضافة إلى حيوات الشاعر المستعارة الكثيرة. سيكون من المفيد القول إن أوفيليا شكسبير صارت علامة في التاريخ الأدبي، وطغت على كل من يحمل هذا الاسم، فمجرد أن نقول أوفيليا يذهب فكرنا إلى بطلة شكسبير.
اخترع هوميروس شخصية بينلوب واخترع شكسبير أوفيليا، إحدى الشخصيّات الرئيسة في مسرحية «هاملت». في بداية المسرحية، تظهر كعذراء بريئة تمشي في الطبيعة وتغنّي للأزهار. لكنّ والدها يقرّر أن يوظّف جمالها للتلاعب بهاملت، فتقع في حبّه. ثمّ تعرف في نهاية المطاف أن هاملت قتل والدها بعنف، فتمرّ بمعاناة رهيبة نتيجة تشتّت عواطفها واضطراب أفكارها بين حبّها لهاملت وهجره إيّاها وحزنها على والدها.نتيجة لعجزها عن التعامل مع الموقف، تقع أوفيليا ضحيّة حالة جنون حقيقيّ وتقرّر الانتحار غرقاً. يختلف النقاد المعنيّون بمسرحية هاملت: هل أوفيليا انتحرت أمْ غرِقتْ؟ المسألة ليستْ هينة كما تبدو للمرة الأولى، لأن الدِّين أحد أطرافها. الرواية الرسمية كما روتها الملكة، هي أنّ أوفيليا صعدت على شجرة صفصاف لتعلّق على أغصانها المتدلية باقتها العشبية، إلا أن «غصناً مؤذياً» انكسر تحت قدمها فسقطت في النهر، وغرقت وهي لا تزال تغني. حاولت الرواية الرسمية أن تحقق أن موت أوفيليا عفوي، وقع قضاء وقدراً، فوصْف الغصن بالمؤذي إنّما أصبح هو المسؤول الأوّل والأخير. وجاء تصوير شكسبير لوفاة أوفيليا غرقاً في مسرحية «هاملِت» مروّعًا كما يُقال عند الحديث عن هذه التراجيديا الشهيرة. لكن المؤرخين يقولون الآن إن المنظر مستوحى على الأرجح من مأساة عائلية حقيقية مشابهة رآها شكسبير بأم عينيه عندما كان طفلاً، ويشيرون إلى تقرير للطبيب الشرعي يعود إلى القرن السادس عشر يكشف رابطًا مثيرًا بين شكسبير وطفلة تدعى جين شاكسبير (بالألِف) رآها غارقة في إحدى البرك، وقيل إنها لقيت حتفها بينما كانت منهمكة في جمع الزهور.كانت جين في الثانية من عمرها عندما عُثر على جثتها الصغيرة طافية على مياه البركة في أبتون وارين، مقاطعة وُسترشاير الإنكليزية، على بعد نحو 30 كيلومترا من ستراتفورد، أبون، أفون، مسقط رأس الكاتب شكسبير، وكان بعض النقاد يعتقد أن شكسبير استلهم شخصية من موت كاثرين هاملت، وهي صديقة لأسرته غرقت عام 1579. لكن الدكتورة سميث تقول الآن إن غرق كاثرين أيقظ على الأرجح الذكرى المدفونة في ذهنه عن غرق الطفلة جين، وتضيف: «لا نعلم الكثير عن طفولة شكسبير، لكننا نعرف أنه نشأ في أسرة شهدت وفاة ثلاثة من أخوته في طفولتهم، فالأرجح أن غرق جين، التي ربما كانت قريبته، جعله مسكوناً بالذكرى».رمز البراءةالتأثير الذي ابتغاه شكسبير من شخصية أوفيليا، رمز البراءة والموقف النبيل وتحمُّل ذنوب الآخرين والجنون المتمرّد، أدخل شخصيتها في جميع مجالات الإبداع، خصوصاً الشعر والفن التشكيلي والسينما، إضافة إلى المسرح. لفترة طويلة، كانت أوفيليا شخصية استحواذية في الأدب والثقافة الغربية وممثلة للنساء. من خلال سلوكها ومظهرها وكلماتها اعتبرت لدى كثير من النقاد الشكسبيريين أيقونة «أنثوية» بالمطلق. كذلك استحوذت أسطورتها على اهتمام الكاتب غاستون باشلار، فخصص لها فصلاً في كتاب «الماء والأحلام/ دراسة عن الخيال والمادة» (صدر عن «المنظمة العربية للترجمة»)، وقال إن «الماء موطن الحوريات الحية، وهو موطن الحوريات الميتة أيضاً. إنه المادة الحقيقية للموت النسائي الصرف. بدءاً من المشهد الأول بين هاملت وأوفيليا، يخرج هاملت من حلم يقظته العميق، ويهمس، متبعاً بذلك قاعدة التحضير الأدبي للانتحار: «ها هي أوفيليا الجميلة! يا حورية في تضرعاتك، تذكري ذنوبي كلها». مذاك على أوفيليا أن تموت لأجل ذنوب الآخر، على أن تموت في النهر بهوادة، من دون ضجيج. إنما حياتها القصيرة حياة ميتة. فهل هذه الحياة غير السعيدة أمر آخر سوى انتظار عبثي، سوى صدى لمناجاة هاملت؟ إذاً تعالوا نرى على الفور أوفيليا في نهرها:صفصافة تكبر وتنحني فوق جدولتُمرّي أوراقها الفضية في المياهها هنا مضت تحت إكليل زهر مجنونزهرة الربيع، والرغدة، والقراص، وهذه الزهرةالتي في كلام رعاتنا الصريح تتلقىاسماً فظا، لكن بُنياتنا الحييات». يضيف باشلار أن أوفيليا ستستطيع أن تكون في منظورنا رمزاً للانتحار النسائي. حقا إنها مخلوق ولد ليموت في الماء، إذ ترى فيه، كما يقول شكسبير، «بيئتها الخاصة». الماء «عنصر» الموت الفتي الجميل، الموت المزهر، وهو في مآسي الحياة والأدب، «عنصر» موت بلا كبرياء، بلا حقد، عنصر انتحار مازوحي. يقول الشاعر الفرنسي مالارميه: «أوفيليا لم تغرق أبداً... حجر كريم مصون تحت الأنقاض». لسوف تظهر خلال قرون للحالمين والشعراء، طافية فوق ساقيتها، بزهورها، وجمّتها المفروشة على الموج. وستكون مناسبة لوحدة من أكثر المجازات المرسلة وضوحاً، فكثير من الشعراء تناول جمال أوفيليا وموقفها وبراءتها وحياتها وجنونها كجوهرة لقصائدهم التي تميّزت على مرّ الأزمنة. ستظهر أوفيليا للحالمين والشعراء، عائمة يحملها الماء. سيبكونها شعراً وقصائد واستعارات نثر ورسوماً ملونة وأفلاماً سينمائية ومسرحيات.رامبواستوحى الشاعر الفرنسي أرثور رامبو قصيدته «أوفيليا» على أثر قراءة مأساة «هاملت» لشكسبير، وتدل الإشارات والتلميحات في القصيدة على أن رامبو على اطلاع ما بالنص الأصلي الإنكليزي من رائعة شكسبير، ففي مسرحية «هاملت»، كان شقيق أوفيليا قد قارنها بـ «وردة مايو» وكان الرسام ميليه قد صورها بدوره كشجرة النيلوفر العظيمة، ومن ثم، نرى رامبو يشير إليها بـ{زنبقة عظيمة». نجد أيضاً تأثيراً بيناً من الفصل الرابع من المسرحية المذكورة: «انتشرت أولاً أشرعتها وساندتها لبعض الهنيهات، وكأنما هي حورية البحر» (راقدة في أشرعتها الطويلة عند رامبو). عندما كتب رامبو هذه القصيدة كان في السابعة عشرة، وهي مرحلة ينجذب فيها الطفل المتمرد نحو الفتيات، واستطاع من خلال هذه القصيدة أن يغري «بانفيل» البرناسي الذي أرسلت إليه في ما بعد، بل إن الرمزيين قد أعجبوا بها نظراً إلى دقة فنيتها ولطائفها الشعرية، وهي التي تنبئ عن صاحب «المركب الثمل» و{الرائي» وغيرها من روائع الشاعر، لأنها مصوغة من عواطفه الجياشة، وإدراكه المبكر للشعر. وترجمت القصيدة عشرات المرات إلى العربية، وفيها يقول:في الموجة الهادئة التي تنام فيها النجومتطفو أوفيليا البيضاء مثل زنبقة عظيمةتطفو ببطء شديد، راقدة في أشرعتها الطويلةتسمع في الغابات النائية نفخات أبواق الصيد.ولعل أجمل عبارة في قصيدة رامبو: «أوفيليا، إن رؤاك الكبيرة تخنق عباراتك»».كتب شعراء عرب وأجانب كثر عن أوفيليا (الأميركية دوريان لوكس، المصري نجيب سرور، العراقيان أديب كمال الدين وعبد الوهاب البياتي، اللبناني عبده وازن، والسوري نوري الجراح) باعتبارها رمزاً أدبياً أو «أيقونة أنثوية» مثل ليلى أو كليوبترا أو زليخة أو عشتار. أحياناً، تتحول أوفيليا إلى «كليشيه» أدبي أو مجرد عنوان كما في كتاب «اهدأ، هاملت، تنشّق جنون أوفيليا» لأدونيس، أو كتاب «صعود أوفيليا» للمصري شعبان يوسف. وثمة من كتب عن هاملت وأهمل أوفيليا كما فعل الشاعر السوري نزار قباني. مهما اختلفت الكتابات عن بطلة شكسبير التراجيدية أو تشابهت، تبقى هالتها أقوى من الكتابات كافة التي دونت عنها أو التي أتت من وحيها. ويبدو أن رواد الفن التشكيلي كانوا أكثر شاعرية في تصوير أوفيليا، فقد رسمها فنّانون كثر واستخدموها بكثرة كرمز لهشاشة النساء وللفرص الضائعة.رسم الفنّان جون وليام ووترهاوس ثلاث لوحات لأوفيليا، وكلّ منها تصوّر المرأة في مرحلة مختلفة أثناء الفترة التي سبقت وفاتها. في لوحة من عام 1889، يرسم ووترهاوس أوفيليا وهي مستلقية في مرج وشاردة التفكير، بينما تمسك شعرها بيدٍ وبالأخرى باقة من شقائق النعمان. عيناها تنظران إلى الخارج في انشغال منوّم تقريباً. تمثيل الطبيعة الخلابة في هذه اللوحة تمّ بطريقة حسّاسة ومذهلة. العشب وبتلات الزهور مفصّلة بعناية، وتشكل خلفية خضراء وخصبة.لوحة ووترهاوس الثانية لأوفيليا ظهرت في عام 1894، فيها تبدو المرأة جالسة وسط بركة من أزهار الزنبق في اللحظات الأخيرة قبل وفاتها. ملابسها الفخمة تتباين مع الطبيعة المحيطة. ومجدداً، وضع الرسّام الأزهار على حجرها وفي شعرها في محاولة لربطها بمحيطها الطبيعيّ.تصوير ووترهاوس الثالث والأخير لأوفيليا كان في عام 1910، وهو الأكثر دراماتيكية. وكما في اللوحتين الأخريين، تظهر هنا أيضاً مزيّنة بالورود وبشعر طويل ومائل إلى الحمرة. لكن أوفيليا هذه تختلف كلّيا عن سابقتيها، فالرسّام يصوّرها أكثر نضجاً وأنوثة. فضلاً عن أنها ترتدي ثوباً أزرق قرمزياً بدلاً من الثوب الأبيض العذري. تقف في مقدّمة اللوحة وتحتلّ معظم الصورة بينما تحدّق في الناظر. نظراتها الحادّة وخدّاها المشوبان بحمرة يعبّران عن حالة اليأس التي تتملّكها.على أن «أوفيليا» هي أكثر لوحات جون ميليه (1829 – 1896) شهرة، أكثرها جمالاً وأكثرها إبرازاً للمذهب الفني الجديد الذي يعيد فيه إبراز الطبيعة الأم بجمالها وتعقيداتها ويعيد فيه التركيز على الجمال البشري. رسم ميليه اللوحة محاولاً فيها تصوير الشخصية المركزية الغارقة في بركة الماء بطريقة دقيقة مع تحديد ملامح العمق الوجودي والحسي في جو اللوحة، ومعالم الحزن والتراجيديا في وجه الشابة أوفيليا، كذلك اهتم برسم الخلفية الطبيعية بدقة متناهية، مركزاً على جمالية اللون والخضرة وتناثر الورود حول الجسد الغارق.إحدى اللوحات البارزة التي استوحت أوفيليا تلك التي رسمها أوديلون ريدون (1840 ـ 1916)، والتي تتسم بالجمال والغموض. لا توحي بالموت بل بالسحر. ويعد ريدون المصور والرسام والحفار والرسام بالألوان المائية والطبّاع الحجري lithographeأحد أعظم الفنانين الفرنسيين الرمزيين.